الأمير خالد بن أحمد السديري.. من المطبخ السياسي للدولة الناشئة إلى مدن الملح والأخدود والنفط

«كاريزما خاصة» وتجربة ثرية طيلة نصف قرن للمحارب والمفاوض والإداري والشاعر والمؤرخ

الأمير خالد السديري
TT

حفلت حياة الأمير خالد بن أحمد السديري، الذي تحمل الجائزة اسمه، بتجارب ثرية شكلت شخصيته القيادية والإدارية والعسكرية والسياسية والفكرية، وكانت الأفلاج والغاط والرياض وأبها ونجران وتبوك والظهران والخبر والحجاز ونيويورك محطات مهمة في رحلته العملية والإدارية التي امتدت إلى أكثر من نصف قرن، ومنها انطلق مسجلا حضورا لافتا في المشهد السياسي والإداري والعسكري في الدولة الحديثة بكاريزما خاصة ارتبطت به إلى أن سكت قلبه في نيويورك.

واختصر الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، المؤلف والكاتب وراصد السير، في شريط تسجيلي عن الراحل الأمير خالد بن أحمد السديري الذي ولد في الأفلاج جنوب شرقي الرياض عام 1915م، حيث كان وطنه منشغلا بحملة التأسيس لينتقل إلى الغاط حيث موطن أسرة السديري العائلة العريقة، وكان مصدرا في رواية تاريخ العلاقة الأسرية والسياسية بين العائلة المالكة في السعودية وأسرته، لتبدأ محطات جديدة في حياته.

اختصر الحديث عن الأمير بقوله: «خالد السديري صورة واضحة المعالم، متكاملة الأبعاد، عن مواهبه ومعارفه وشخصيته، وهي صورة لا تبرح الذاكرة مع ذلك الشريط الوثيقة، الذي تتيح ذكرى جائزته اليوم فرصة الكشف عن أبرز مضامينه، بعد أن ظل الشريط حبيس مكتبتي الخاصة نحو ثلاثين عاما»، مضيفا بقوله: «عرف عن خالد السديري أنه مصدر في رواية تاريخ العلاقة الأُسرية والسياسية بين العائلة السعودية المالكة وأسرته، تلك العلاقة التي تعود بدايتها إلى عهد الإمام تركي بن عبد الله، مؤسس الدولة السعودية الثانية، وابنه الإمام فيصل بن تركي، حينما حمل جد عائلته أحمد السديري (الأول) لواء الجيش السعودي، منطلقا من الأحساء إلى أعماق الربع الخالي نحو البريمي ورأس الخيمة، ثم خلفه - بعد كبره - ابنه تركي، الذي واصل تثبيت الحكم السعودي في ساحل عمان ثم بقية البلاد.

وزاد الشبيلي بالقول: «حلّق صاحب هذه الجائزة في أجواء التاريخ ليكشف عن راوية يقرأ في الأحداث والوقائع، ويستنبط منها الأسباب والنتائج، وكأنما هو قد درس فلسفة التاريخ، أو قرأ مقدمة ابن خلدون، مع حسّ توثيقي يؤكد أنه كان يحفظ ويدون ويرصد، لكن المهمات تلاحقه والقدر يعاجله، قبل أن يفرغ لنشر ذكرياته المخطوطة التي احترقت مع وثائق أخرى في حادث مؤسف تعرضت له خيامه في نجران».

السديري ذهب أبعد من المحلية في ذاكرته التاريخية إلى العلاقات الدولية، حيث أوضح الشبيلي أنه استذكر مشاركته المبكرة في الأزمة الأولى مع اليمن، مطلع الخمسينات الهجرية، حيث انطلق مع سرية من الرياض بقيادة الأمير محمد بن عبد العزيز، في الحملة الثالثة التي اتجهت صوب صنعاء عن طريق نجران، وهي الحملات التي انتهت سلميا باتفاقية الطائف كما هو معروف.

كان ذلك قبل أن يصدر قرار إبقائه في أبها معاونا لأخيه تركي 1934، ثم أميرا لمنطقة جازان 1940، التي بقي فيها نحو ست سنوات، شارك خلالها مع أخيه الأمير تركي، أمير أبها آنذاك، في قيادة قوات لإخماد فتنة في أحد جبال الجنوب 1942، في أول مهمة عسكرية تولى مهامها، وهو يعتز ببرقية لديه يثني فيها الملك عبد العزيز على جهوده فيها.

ويواصل الشبيلي الحديث عن الأمير خالد السديري بالقول: «إنه قبيل منتصف الستينات الهجرية، أتيحت له فرصتان من نوع مختلف، أثرتا تجربته الإدارية والسياسية. وأضافتا بُعدا جديدا إلى خبراته، كانت الأولى نقله قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، أميرا على منطقة الظهران في فترة تأسيس قاعدتها العسكرية المعروفة، ومع أن الفترة التي قضاها هناك كانت قصيرة، انشغل خلالها بمهامه الأساسية في التنسيق بين الحكومة و(أرامكو)، إلا أنه عمل جاهدا على إصدار أول نظام للتأمينات خاص بعمال (أرامكو)»، لافتا إلى أن من إنجازاته على صعيد المنطقة تخطيط مدينة الخبر، حيث يبقى شارع خالد في الخبر شاهدا شاخصا على ذلك.

وأضاف الشبيلي: «كانت الفرصة الثانية، تعيينه عام 1945 عضو مجلس مستشاري الملك عبد العزيز - المجلس الذي أدخله مباشرة في مدرسة الشعبة السياسية (المطبخ السياسي)، الذي كانت تنطلق منه توجيهات المؤسس، بعد أن يشارك الملك شخصيا في مناقشته مع مستشاريه، مشددا في ذات الوقت على أن تجربة خالد السديري في تلك الفترة قد أكملت الركن الثالث في بناء شخصيته القيادية والإدارية والعسكرية والسياسية، وأهّلته وقد بلغ الثلاثين، كي يتبوأ مركزا إداريا في غاية الأهمية: إمارة منطقة تبوك، وهي البقعة العزيزة إلى نفسه التي سعى إلى تخطيطها، ودعا إلى إنشاء قاعدة عسكرية فيها بما يتناسب وأهميتها السياسية والعسكرية، وقد أمضى فيها نحو ثماني سنوات حتى استتب توحيد البلاد واتجهت الدولة نحو مزيد من تنظيم مؤسساتها الدستورية والإدارية».

في عام 1955، عين صاحب الجائزة خالد السديري وزيرا للزراعة خلفا لأخيه عبد العزيز، الذي كان قد تولاها لأشهر قليلـة (قبيل وفاته)، بعد الأمير سلطان بن عبد العزيز، أول وزير للزراعة، فقضى فيها خالد السديري سبع سنوات، أخذ فيها من التجارب قدر ما أعطى، واكتسب فيها من التأهيل والمعارف ما جعله يركز في أعماله اللاحقة على توازن عناصر الإنماء والأمن والتعليم والإعمار.

الشبيلي يزيد في حوار معه قبل أكثر من ثلاثة عقود، أن خالد السديري قد أمضى العقدين الأخيرين من حياته مشرفا على منطقة نجران، قصد من اختياره لها الإفادة من خبرته العسكرية والجغرافية ومن معرفته العميقة بالقبائل، في فترة عصيبة من فترات الشد والجذب مع إخواننا في اليمن ومصر، بدءا من ثورة عام 1962، ومرورا بحوادث الوديعة مع اليمن الجنوبي، وانتهاء بعودة العلاقات الأخوية مع اليمن، كان خلالها يعمل بالعدل والإنصاف في العلاقة، ومداراة حق الجيرة وصلات القربى، وضمان الأمن والأمان على الحدود، مشيرا إلى أنه على الرغم من انشغاله بالأحداث ترك بصمات تطويرية بالغة الأهمية على الحياة المعيشية في منطقة نجران، كان من بينها البدء في إنشاء السد وتطوير الزراعة وتخطيط مدينتي نجران وشرورة لتكونا حاضرتين سكنيتين لتوطين من جوارهما من أبناء البادية.

ويعود الشبيلي للحديث عن سيرة صاحب الجائزة بالقول: «كان خالد السديري شاعرا في سياقي العربي الفصيح والنبطي العامي، واتسم أداؤه الشعري بالروعة والجمال في النظم، من ضمنه ديوانه (قصائد من الوجدان)، المطبوع عام 1987، بل كان يتوقع أنه لو لم يدخل في السياسية والحروب، أن يكون أديبا متذوقا، أو ناقدا، أو مؤرخا ملما بحوادث الجزيرة وأحوالها وأيام أهلها، خبيرا في صحرائها من قريات الملح إلى بلاد الأخدود، ومن جبل الظهران إلى جبل الريث». ولفت الشبيلي إلى أن ظهور خالد السديري إلى هذه الدنيا كان في ذروة انشغال وطنه بحملة التأسيس والتوحيد، وفي فترة عصيبة من توطيد الاستقرار هنا وهناك، وفي حقبة كانت الغزوات هي العلامات الأوضح لتأريخ الأحداث والمواليد والوفيات، مفيدا أنه ولد على الأرجح في سنة جراب 1915، في مدينة الأفلاج، حيث كان والده أميرا على المنطقة للمرة الثانية قبل تقاعده، ثم انتقل أبوه إلى الغاط ليتفرغ لتربية أبنائه، ويمكّنهم من الالتحاق بكتّاب البلدة.

وحول تعليمه يقول الشبيلي، «إنه تلقى الدروس من معلمين خاصين حضروا لتعليمهم، لكن خالدا وجد بانتقاله إلى الرياض في ما بعد، فرصة لحضور حلقات العلوم الشرعية والعربية والاجتماعية، عند الشيخ محمد بن إبراهيم وغيره من المشايخ، إلا أنه لم يستثمر عرض الملك عبد العزيز لابتعاثه وشقيقه محمد إلى مصر للدراسة عام 1930، كما لم يحظ بما حظي به قلّة من ميسوري الحال من حضور مدارس الحجاز أو العراق أو الهند، إذ كانت الأحداث تتلاحق في صغره، فكون نفسه بنفسه، وثابر ذاتيا في الرياض ثم في الطائف على قراءة عيون كتب الأدب والتراث، وحفظ النصوص. وكان ترتيب صاحب الجائزة الرابع بين إخوته الثمانية المعروفين، محمد (الأول)، وتركي، وعبد العزيز، ثم محمد (الثاني)، وعبد الرحمن، ومساعد، وسليمان، وبندر، وأن له خمس عشرة أختا، وتسعة من الأبناء، أكبرهم الأمير فهد رئيس هذه الجائزة، وستا من البنات.

ويصف الشبيلي وفاته بقوله: «وقف قلب خالد السديري عن النبض في مدينة نيويورك، في مطلع هذا الشهر الهجري قبل سبعة وعشرين عاما الموافق للأول من ديسمبر (كانون الأول) 1978، ثم عاد إلى تراب وطنه جوالا، ليكتب صفحة بيضاء في تاريخها، ويرقد قرير الفؤاد بمن وبما خلّف، ولترتاح عينه التي لم تغمض يوما وهي تحمي أطراف البلاد. رحل ورحلت معه سيرة نصف قرن من جهاد مع تضحيات، وإخلاص مع صدق، وجود مع صبر، ولعل هذا الحوار يتجسد عنوانا لكتاب مقبل يروي جانبا من سيرته».