علي العبداني أول صحافي سعودي يموت في الميدان قبل نصف قرن

استدعي من الرياض إلى جدة للتحقيق معه فمات هناك وبكته الصحافة ونال تقدير الملك سعود

الملك سعود شمل بعطفه أسرة الصحافي علي العبداني
TT

قبل 54 عاما من اليوم، وفي المستشفى العام بباب شريف في جدة، كان هناك صحافي يحتضر، وقد غطت الدماء وجهه وغيرت ملامحه، إثر حادث سير بعد أن استدعي من الرياض إلى جدة، للتحقيق في مواضيع نشرت في مطبوعته ليموت بعد لحظات، في حين تناثرت أوراقه من حقيبته في إحدى ردهات المستشفى، واختلطت بدمائه التي طمست حروفا ملتهبة نقشها بقلمه الجبار الذي صال وجال في خدمة أمته، ومعه انتهى آخر سطر كتبه في حياته، ومخلفا أما وزوجة وأطفالا ثلاثة أكبرهم كان في السادسة من العمر وقت الحادث قبل أكثر من نصف قرن، ليصبح هذا الطفل بعد نصف قرن مسؤولا كبيرا في وزارة المالية، ثم مديرا لصندوق التنمية العقارية حاليا.

وأثار موت الصحافي الشاب علي العبداني الذي لم يتجاوز عمره عند وفاته السادسة والعشرين الصحف والمجلات السعودية لعدة أسابيع، حيث ظلت تنشر التعازي والافتتاحيات والمقالات والقصائد في تأبين الراحل ورثائه والحديث عن مناقبه وقلمه الذي يقطر وطنيه في فترة ذات شأن من تاريخ وطنه، وهو أمر يستدعي الانتباه، خصوصا في تلك الفترة التي كانت فيها الصحف محدودة الصفحات ولا تنشر إلا أشياء مهمة وقت صحافة الأفراد. فمثل هذا لو حدث لأمير كبير القدر، أو عالم دين شهير متبوع، أو وزير عظيم النفع، لأصبح هذا شيئا متوقعا، ولا يوجد لذلك تفسير سوى أن هذا الشاب يملك قدرة عالية في تفكيره وأخلاقه وتعامله وعمله جعلته يكتسب هذه المحبة الكبيرة والشعبية الجارفة في سنوات معدودة من كافة طبقات المجتمع، وحين علم الملك سعود بموت الصحافي الشاب على العبداني تأثر تأثيرا بليغا، بل إن الملك تذكر ذلك الشاب الذي قام أمامه خطيبا في البكيرية إحدى حواضر منطقة القصيم وسط السعودية عندما زارها الملك قبل 6 سنوات من ذلك التاريخ (قبل 53 عاما)، وكلف الملك رئيس الديوان الملكي آنذاك نجله الأمير محمد بن سعود بأن يبعث ببرقية إلى والدة الصحافي الشاب العبداني تشير إلى تخصيص راتب شهري لوالدة الراحل وأطفاله وزوجته يساوي كامل راتبه قبل وفاته في المطبوعة التي كان يعمل بها، وكان لهذا التصرف النبيل والحكيم من الملك سعود أثر إيجابي في عالم الصحافة، وتحدثت الصحف عن هذا الموقف بإطراء وتقدير، وقد استمر هذا الراتب يصرف لعائلته حتى عام 1384ه، ثم توقف بعد تنحي الملك سعود عن الحكم.

ولعلها مصادفة أن يكون آخر مقال كتبه العبداني عن جدة التي عاد إليها قادما من المدينة المنورة وأنجز في الأخيرة عملا صحافيا بعد خضوعه لتحقيق فيها من الجهة المختصة بالصحف آنذاك عن نفس المدينة التي شهدت وفاته ودفن فيها مع أنه عاش في الرياض وترأس رئاسة تحرير «اليمامة» في غياب مؤسسها الشيخ الراحل حمد الجاسر، لكنه قدم إلى جدة مرتين خلال أيام قليلة، حيث استدعته المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، لإجراء تحقيق معه حول شأن صحافي يتعلق بجريدة «اليمامة» التي كان يعمل فيها، بالإضافة إلى عمله مديرا لمطابع الرياض، وتولى في تلك الفترة رئاسة تحرير «اليمامة» نيابة عن مؤسسها الشيخ الراحل حمد الجاسر الذي كان مسافرا وقت الحادث.

ورغم مضي أكثر من نصف قرن على رحيله وهو في عمر السادسة والعشرين، تظل سيرة علي العبداني الذي خاض غمار الصحافة في أولى بداياتها وظل يركض في مضمارها خمس سنوات فقط وعد أول صحافي سعودي يموت بسبب تأدية عمله في مهنة المتاعب، تظل سيرته جديرة بالتوقف والاستحضار مثلما ما زال عارفوه يتذكرونه بكل إكبار وتقدير وبكل شوق وألم، وما زالت الدموع الحارة تسكب عند ذكراه، ونجح الباحث سليمان بن محمد الحديثي في رصد سيرة الأديب والصحافي الراحل علي العبداني الذي وصفه محبوه من العلماء والأدباء والكتاب وزملاء المهنة بالنور الذي غزا الظلام فبدد جيوشه، كما وصفوه بالعصامي والأديب البليغ، والكاتب صاحب القلم الجبار، والخطيب المفوه، كما اتفقوا على أن الراحل العبداني كان وطنيا شديد الغيرة على وطنه وأمته.

وسجل الباحث ما قاله عن الصحافي العبداني الأديب الراحل والشاعر والمؤلف والجغرافي والمؤرخ وأحد رواد الصحافة ومؤسس جريدة «الجزيرة» الشيخ عبد الله بن خميس: «بالأمس كان بيننا ملء السمع والبصر، وامتلأ نشاطا ونضر شبابا، وتدفق حيوية واليوم هين الرمس وبعيد الدار وناء المزار، وبالأمس كان صفحة من صفحات الجهاد نشرها أمامه وبدأ أنهرها بقلمه وعلمه وأمانته ووطنيته وشبابه وحيويته، في حين قال عنه عبد المحسن بن محمد التويجري، الكاتب في صحيفة «البلاد» السعودية ومجلة وصحيفة «اليمامة»، ثم صحيفة «القصيم»: «خالد بدفاعه عن رأيه، خالد بروحه الحية وطموحه الوثاب، خالد بكلماته الاجتماعية وآثاره الأدبية في ميدان الصحافة الحرة النزيهة، خالد بصدقه وإخلاصه، خالد بتضحيته وتفانيه في سبيل أداء الواجب، خالد بتقديمه للمصلحة العامة على ما سواها، خالد بجهاده في هذه الحياة وبعصامية، خالد بكفاحه من أجل العزة والكرامة النفسية التي هي رأسمال الإنسان في حياته، خالد بجهوده التي يبذلها من أجل الوطن في حدود استطاعته وعلى قدر إمكانياته».

أما الفقيه والأديب ووكيل وزارة العدل سابقا الشيخ الراحل عبد الرحمن بن محمد بن دخيل، فقال عن العبداني بعد رحيله: «أحقا أن الشعلة الملتهبة حماسا ويقظة قد خبت، وأن النور الذي غزا الظلام فبدد جيوشه قد تبدد، وأن القلم الجبار الذي صال وجال قد توقف عن الحركة بعيدا عن قرائه ومحبيه الذين قد جعلوا منه مرشدا بتوجيهاته وأفكاره مدرسة، كان رحمه الله مرهف الإحساس، شاعري النفس، يتأثر لكل مصاب ويقف عند سماع شكوى، صاحب وقفه تنم عن روح طيبة طاهرة، يتمنى أن يمسح البؤس العالق بالآخرين، ويجود بما لديه وهو أحوج ما يكون إليه»، في حين اعتبر الشاعر والكاتب سعد البواردي الذي أصدر مجلة «الإشعاع» الشهرية قبل 57 عاما أن «العبداني شاب عصامي جعل من حياته أسطورة متعددة الجوانب، وصحافي نزيه ناجح ما فتئ يضيء لمجتمعه، لوطنه طريقهما إلى الخلق والإنتاج والعمل، هل ينصفون الصحافي الذي جاهد وجاهد ثم استشهد وما زال في طريقه إلى الجهاد».

ووصف الشيخ الراحل زيد الفياض أحد رواد الصحافة في السعودية العبداني «بالشعلة المتوهجة والنشاط والحيوية الذي أثبت جدارته وكفاءته ولم يعتمد على وسائل لها في محيطنا مع الأسف نفوذ وسيطرة، شاب عصامي مكافح تحمل الكفاح والتبعة بقوة جبارة، كتب العبداني فكان صريحا واقعيا هادفا للمصلحة العامة راضيا بأن يكون جنديا مغمورا»، ومما كتبه الأديب والشاعر رئيس تحرير جريدة «الدعوة» الشيخ عبد الله بن إدريس في رثائه وتأبين فقيد الصحافة: «انتهى آخر سطر في كتاب حياته وكان ما كان وانطوت صفحة ناصعة البياض من نضال الشباب الواعي الإيجابي، نضال الرجولة والرجولة الحقة التي لا ترجو بخدمتها للمجتمع ظهورا زائفا أو وصولية مغلفة بألف غلاف وغلاف».

وبعدهم بأربعين سنة كتب العالم الشيخ عبد الله البسام: «العبداني بحق من المطلعين المتقنين الذين لهم في كل علم وفن نصيب وسهم كبير وهو خطيب مفوه، فصيح بليغ لما انطبع به من قراءة الأدب الرفيع بنثره وشعره الذي فتق لسانه بالبيان».

وبعد هذه السنوات سيجد المار من شارع الإمام عبد الرحمن بن فيصل في حي المرقب بالرياض مبنى قديما مهجورا تعتليه لوحة زرقاء عمرها قارب الستة عقود، كتب عليها بالعربية والإنجليزية: «شركة الطباعة والنشر الوطنية، مطابع الرياض. هذا المبنى كان في زمانه من أضخم المباني في الحي، وهذه الشركة كانت الأولى من نوعها في المنطقة الوسطى، وإحدى أهم الشركات الوطنية في السعودية».

وقفت هذه اللوحة شامخة إلى اليوم لتقول لنا: «هنا كان جيل من الرواد، هنا كان حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، عبد الكريم الجهيمان، وابن إدريس، وسعد البواردي، وعمران العمران، وزيد الفياض وغيرهم من جيل الرواد، وقفت اللوحة الشامخة في وجه عوادي الزمن لتقول: هنا كان علي العبداني قلما أبى أن يكتب غير الحقيقة وما أمرها».

كان حمد الجاسر يعد العدة لإنشاء أول شركة للطباعة والنشر في منطقة نجد وتطوير مجلة «اليمامة» لتصبح جريدة أسبوعية، وقد جمع لهذا الغرض - كما في سوانحه - مبلغ 500 ألف ريال من بعض طلاب وأساتذة المعهد العلمي في الرياض، وكلية الشريعة واللغة، ومبالغ أخرى من غيرهم من المساهمين. يقول الدكتور عبد العزيز بن سلمة في حديثه عن سيرة الطباعة والنشر في مدينة الرياض التي قادها حمد الجاسر: «كان إنشاء مطابع الرياض بمبادرة من حمد الجاسر ولم يحل عدم توفر المبلغ اللازم لديه - وكان مبلغا ضخما بمقاييس تلك الفترة - دون مضيه قدما في تحقيق ذلك المشروع الوطني الكبير آنذاك. قام بطرح اكتتاب عام لسكان مدينة الرياض أسهم فيه عدد قليل من التجار وبعض المثقفين والوجهاء، بحكم صلته بالمعهد العلمي وكلية الشريعة تمكن الجاسر من إقناع عدد غير قليل من طلابهما بالمساهمة في ذلك المشروع»، مشيرا إلى تعضيد الملك سعود وعدد من الأمراء ودعم الشيخ عبد الله السليمان، وزير المالية آنذاك، وقد بحث الجاسر عن كوادر مؤهلة للعمل في هذا المشروع ورجل كفء كي يدير هذا العمل ورأى أن العبداني هو الشخص المناسب وكان الأخير راغبا في ذلك، فالتحق بالعمل في شركة الطباعة والنشر الوطنية (مطابع الرياض) وانضم إلى أسرة تحرير جريدة «اليمامة» وكتابها، والتي صدر العدد الأول منها عام 1953م واستمرت في الصدور مجلة شهرية طيلة عامين، ثم بدأت بالظهور صحيفة أسبوعية.

اختصر الباحث الحديثي الحديث عن العبداني كاتبا بقوله: «كتب علي العبداني أول مقالاته في (اليمامة) وهو في الحادية والعشرين من عمره، ومن يطالع مقالاته ير فيها صدق اللهجة والجرأة والبحث المستمر عن حلول لمشكلة يعيشها المجتمع، ومطالبة المسؤولين بتأدية واجبهم تجاه الوطن والمواطن. كان كاتبا وطنيا سخر قلمه لخدمة المجتمع والدفاع عن قضاياه اليومية، حارب الفساد الإداري وكشف جشع التجار، وطالب بإصلاحات في التعليم والصحة والبلديات والطرق والمواصلات وسكة الحديد والمطار، كان مرآة صادقة لواقع المجتمع والقلم الأمين الذي حمل هموم عامة الناس».