إشكالية الرفض والقبول لثورة الاتصال في السعودية.. من البرقية إلى الإنترنت

متخصص سعودي يعرض سيرة تعامل مجتمع بلاده مع تقنيات الاتصال ويحدد العوامل الداعمة لثقافة المقاومة

الملك عبد العزيز تعامل بالحكمة والحزم في مسألة إدخال التقنية الحديثة في بلاده الناشئة
TT

تمثل السعودية في انتشار المستحدثات وتبنيها حالة قابلة للدراسة، نظرا لما صاحب مراحل تبني تقنيات الاتصال والمعلومات الحديثة من عوامل قد لا تكون حالة مماثله في تبنيها مقارنة بالمجتمعات الأخرى، حيث سعت السعودية منذ تأسيسها على يد الموحد الملك عبد العزيز إلى الاستفادة من المستحدثات الحديثة، بما في ذلك تقنيات الاتصال الحديثة ولم تكن تجربة المملكة في قبول هذه المستحدثات تجربه مريحة، فلقد واجهت بعض صور التقنيات، الرفض بل الرفض الشديد والمقاومة.

وطرح باحث سعودي تجربة بلادة مع تقنيات الاتصال الحديثة، وقدم قراءة تاريخية اجتماعية لدرجة قبول أو رفض المجتمع السعودي للتقنيات الحديثة، والتعرف على دور المتغيرات الاجتماعية التي تساعد أو تعيق تبني تقنيات الاتصال الحديثة والنظرة المستقبلية لواقع هذه التقنيات، حيث يشهد المجتمع السعودي منذ عقود إقبالا كبيرا في مجال التحول إلى مجتمع تقني يقوم على الاستفادة من المزايا التي تقدمها تقنية الاتصال بشكل خاص والتقنية الحديثة بشكل عام في جميع الميادين، لمواكبة عصر المعلومات الذي فرض على الجميع، وحتى لا يجد المجتمع نفسه في عزلة عن بقية دول العالم.

وأنجز الأمير محمد بن سعود بن خالد، وكيل وزارة الخارجية لشؤون المعلومات والتقنية، دراسة عرض فيها تجربة السعودية كنموذج للتعرف على منطلقات عوامل المقاومة والقبول في المجتمع السعودي لمستحدثات تقنية الاتصال، مقدما سيرة ترصد تعامل المجتمع السعودي مع تقنيات الاتصال من البرقية إلى الإنترنت.

وشدد الأمير محمد بن سعود على أن التجارب البشرية أثبتت أن رفض الأفكار أو المستحدثات غالبا ما يكون مؤقتا، وما تلبث أن تخف مقاومة الرفض ويحل محلها القبول، لافتا إلى أن المقاومة لا تأتي من فراغ ولها شرعيتها التي عادة ما تكون مستوحاة من الأبعاد الثقافية للجماعة، محددا عدة عوامل رأى أنها تشكل المبررات التي تدعم ثقافة الرفض وتحفزها، والمتمثلة في: الخوف على المصلحة، وهو عامل يتطلب ضرورة شرعنة كل مستحدث - فكرة كانت أو منتجا - من قبل فئات أو مجموعات كانوا رجال دين أو زعماء عشائر أو أصحاب مصالح اقتصادية، نظرا لما تشكله بعض المستحدثات من تهديد لمصالحها.

وزاد بالقول: «العامل الثاني الذي يدعم ثقافة الرفض لكل مستجد هو فقدان الثقة بالآخر، وهو عامل مرتبط بتوفر الظروف الموضوعية التي توجد عنصر الثقة بين الأطراف، وتجعل عملهم خليطا متجانسا ومتوافقا من حيث الموقف والمصالح»، معتبرا أن الصراع هو النتيجة الطبيعية في حال غياب الثقة بين الأطراف، كما أن هناك عاملا ثالثا يدعم ثقافة الرفض للمستجدات، ومنها: تقنيات الاتصال والمتمثل في عدم وضوح الرؤية حيث تعتمد الرؤية للمستجدات بشكل أساسي على المعتقد أو فلسفة النظر للأشياء وتنظيم سبل الاستفادة منها، موضحا في هذا الجانب أن الروافد العرقية للشخص إذا كانت صحيحة وخالية من التسرع من اتخاذ الموقف والسياسات ساعدت ذلك في أن تكون القرارات أقرب للواقعية، والعكس هو الارتباك والفوضى، موردا في هذا السياق المثل العربي القائل: «الشخص عدو لما يجهله».

ورأى الباحث أن ما يمارسه الأشخاص والقوى من استعلاء على الآخر والنظر إليه باستصغار عامل رابع من عوامل هذا الرفض، حيث إن الاستعلاء يخلق بيئة من التوتر في العلاقات بين الأطراف التي تؤدي حتما إلى رفض أي منتجات مهما كانت تلك المنتجات إيجابية ومفيدة، كما لمح الباحث إلى أن الاعتماد على القياسات الخاطئة عنصر يساعد على إيجاد أسباب ومبررات مقبولة ووجيهة لدى جماعة الرفض للرفض، لافتا إلى أن الرافضين يعتمدون على تجارب سابقة قد تكون ناجحة في وقتها، ولكنها خارج السياق الحالي، كما أوضح الباحث في هذا الصدد أثر جهات التمويل في مجريات صنع القرار، وبالتالي خلق سبب للرفض فجهات التمويل عادة ما تكون لها رؤى لا تراعي إلا مصالحها في الأغلب، والتي قد لا تكون بالضرورة تتفق مع مصلحة الجماعة.

وشدد الباحث الأمير محمد بن سعود بن خالد على أنه لا يمكن ربط أسباب الرفض بعنصر أو عامل واحد بل إن هناك مجموعة مبررات تستخدمها وتوظفها الجماعة لمقاومة المستحدثات ثقافيا.

وتطرقت الدراسة لموضوع علاقة الدين بالمستحدثات، مؤكدة التصالح بين العلم والدين الإسلامي، وأن ما قد يثار قديما وحديثا حول ما يبدو من رفض من منطلقات دينية لمنتجات علمية هو نتاج قصور بشري في فهم النص الشرعي في الزمان والمكان الذي ظهر فيه ذلك، وما يلبث أن يزول مع تغيرها.

ومن جانبه، شدد الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجه وزير الثقافة والإعلام السعودي، في تقديمه لهذه الدراسة، على أن هذه الدراسة جاءت لتقدم إضافة جديدة في التوثيق والإيضاح لتقنيات الاتصال، وكيف تعاملت معها الجهات ذات العلاقة ومدى تقبل أفراد المجتمع لها أو تخوفهم منها، لافتا إلى أن الكتاب الذي عرض إشكالية دخول مستحدثات تكنولوجيا الاتصال إلى المجتمع السعودي منذ بداية مسيرة توحيد البلاد التي قادها الملك عبد العزيز مرورا بالمراحل التي أعقبت هذا التوحيد وصولا إلى وقتنا الحاضر قدم تحليلا لإشكالية تتركز معظم جوانبها في حتمية دخول مستجدات العصر الاتصالية إلى بلد حديث النشأة ووسط مجتمع تقليدي كان حتى وقت قريب شبه منعزل عن العالم، بحكم بيئته الجغرافية وفي وقت كانت فيه الأمية متفشية في معظم أرجائه. وتقع تلك الإشكالية في الفجوة بين عقلية كانت تدرك فيما مضى أهمية تلك المستجدات والأخذ بها في بناء الدولة وربط أرجائها وتطوير شؤون إدارتها بالاستعانة بوسائل الاتصال وأدواته - البرق والبريد والهاتف - وبين عقلية متوجسة وحذرة من تلك الوسائل، لا لأسباب يؤيدها الدين والعقل بل لأسباب ذهنية ونفسية يمكن أن تعزى إلى الخوف من مستجدات كان القبول بها دون جدال أو تردد نوعا من القبول بالمجهول كما هو.

وأشار الباحث إلى أن مجموعة من التغيرات المتسارعة في مجال الاتصال وتقنية المعلومات حولت العالم إلى «قرية كونية» تنتقل فيها المعلومات إلى جميع أنحاء العالم في أجزاء من الثانية. وكان لهذه التغيرات تأثيرها المباشر على الأفراد والمؤسسات المكونة للمجتمعات، مما دفع المجتمعات للتعامل معها بأساليب وطرق متعددة؛ إما بقبول هذه المستحدثات والتكيف معها لتحقيق الاستفادة مما تقدمه من مزايا في جميع المجالات أو رفضها بناء على منطلقات ثقافية أو دينية أو كلاهما معا.

ويقع الكتاب الذي حمل عنوان «الرفض والقبول.. سيرة تعامل المجتمع السعودي مع تقنيات الاتصال من البرقية إلى الإنترنت» في 313 صفحة، وهو مقسم إلى خمسة أجزاء: الأول يسعى لتقديم قراءة تاريخية ثقافية اجتماعية لدخول وانتشار تقنيات الاتصال الحديثة في المملكة العربية السعودية، ويشمل ذلك تقديما لظاهرة مقاومة المستحدثات في المجتمعات البشرية، والعلاقة بين الدين والتقنية كأحد أوجه منطلقات المقاومة للتقنية، ووصفا لحالة المجتمع السعودي في قبولها.

والجزء الثاني يتضمن توضيحا لتعامل المجتمع السعودي مع دخول تقنيات الاتصال الأولى منذ تأسيس المملكة على يد المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز وحتى بدايات التسعينات ويتضمن ذلك بالتحديد اللاسلكي، والمسرح، والسينما، والإذاعة، والتلفزيون، والفيديو، والقنوات التلفزيونية الفضائية.

أما الجزء الثالث فقد ناقش تعامل المجتمع السعودي مع وسائل الاتصال الحديثة -بعد التسعينات الميلادية - ويتضمن وسائل الاتصال الفردية، ووسائل الاتصال والإعلام الجديد.

أما الجزء الرابع فيستعرض التحليل النوعي لحلقات النقاش التي تم إجراؤها للتعرف على رأي النخبة في تجربة مجتمع المملكة العربية السعودية مع تقنيات الاتصال الحديثة وأوجه مقاومتها أو قبولها. في حين تضمن الجزء الخامس توثيقا نصيا لحلقة النقاش. وألحق بالكتاب عدد من الأنظمة السعودية ذات العلاقة بتنظيم واستخدامات وتطبيقات التقنية المختلفة.

* الملك المؤسس يخترق جبهات معارضيه

* وشكلت البرقية التي تعد أحدث ثورة في عالم الاتصالات قبل أكثر من قرن أهمية في حياة الدول والشعوب، إذ ساهمت في تقريب المسافات واختصار الوقت وإيصال الأخبار والحوادث في مدة زمنية قصيرة، كما ساهمت في تحقيق الأمن وتسهيل أمور الحياة العامة.

ونجح الملك المؤسس عبد العزيز خلال فترة ذات شأن في مرحلة التأسيس في تنفيذ مشاريع إصلاحية شاملة وفي ظل ظروف وإمكانات بالغة الصعوبة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومن هذه المشاريع ما توفر في ذلك الوقت في قطاع الاتصالات، وقبله ما دخل البلاد من صناعات وتقنيات حديثة كالساعة والمذياع، حيث حرص الملك عبد العزيز على إدخال شبكات الاتصال المتاحة في دولته الناشئة وتعميمها على مختلف المناطق ومنها البرقية، وواكب ذلك صعوبات في إقناع الناس بجدواها، بل إن الملك المؤسس حرص على إدخال هذه التقنية قبل إنشائه شبكة اللاسلكي البرقي في عاصمة بلاده الرياض، حيث أشار الرحالة الدنماركي باركلي رونكيير، الذي زار الرياض عام 1912م، أي قبل إنشاء الملك أول برقية في العاصمة بـ 20 عاما، إلى ما قيل عن الملك بأنه «اغضب المتزمتين من أتباعه باستخدام الغرامافون في معسكره»، وهو ما يعني أن هناك وعيا مبكرا من الملك بأهمية الاتصالات كعنصر محرك في خطط التحديث والتطوير لدولته وفي وضع البنية التحتية ووسائل تسريع العمل بها في الدولة الناشئة.

وقوبلت تلك المشاريع بمعارضة شديدة من بعض فئات المجتمع لعدم استيعاب ماهيتها، واعتبروا أن ذلك من وسائل الشيطان، مثلها مثل الصناعات الحديثة كالسيارة والمذياع وحتى الساعة، في حين اقتنع علماء دين بجدوى هذه الصناعات وأفتوا بجواز استخدامها وبأنها مجرد صناعة.

ومع ذلك فقد تطور إنكار البعض استخدام هذه الصناعة وإدخالها إلى البلاد إلى مجابهة عرفت بما يسمى «تكتل الإخوان» الذين دخلوا مع الملك في حرب «السبلة» وانتهت بانتصار الملك، ومعه انطلقت البلاد إلى آفاق رحبة من التحديث والتطوير.

وأعاد الأمير طلال بن عبد العزيز إلى الواجهة قصة إنشاء الملك عبد العزيز لشبكة اللاسلكي في الرياض بعد أن بادر الأمير بإحياء أول برج برقية في العاصمة أنشئ قبل نحو 84 عاما، وهو المشروع الذي لقي معارضة شديدة من قبل متعصبين لم يستوعبوا ماهيته، علما بأن البرقية عرفت في الحجاز قبل نجد ووجدت إنكارا من قبل رئيس القضاة لاعتقاده بأن تشغيل البرق يستعان فيه بالشياطين، لكنه وبعض علماء الدين اقتنعوا بأن ذلك الاعتقاد من الأوهام.

وقد تأخر إدخال جهاز البرق (اللاسلكي) في العاصمة الرياض حيث وقف علماء المدينة موقفا مماثلا لما تم في الحجاز، وعندما عرفوا الحقيقة وشاهدوا على الطبيعة كيفية استخدام هذه التقنية اقتنعوا بجوازها، ووقفوا إلى جانب الملك عبد العزيز وأفتوا بأن تلك التقنيات هي مجرد صناعة يستفاد منها.

وأوضح الدكتور الحميد أن أبرز المؤرخين الذين رصدوا تجربة الملك عبد العزيز في تلك المرحلة هم هاري سانت جون فيلبي (عبد الله فيلبي) في كتابيه «العربية السعودية» و«حاج في الجزيرة العربية». وحافظ وهبة في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين».. وكلاهما عمل مستشارا للملك عبد العزيز.

ففي كتابه «العربية السعودية من سنوات القحط إلى بوادر الرخاء» ذكر عبد الله فيلبي قصة إدخال اللاسلكي البرقي إلى الرياض بقوله: «كان الهاتف من أبرز الأشياء الأخرى التي شغلت وأقلقت فكر هؤلاء المتعصبين الذين هرعوا للترحاب بملكهم لدى وصوله من المدينة، إذ كانوا قد سمعوا يقينا قصصا عنه من أشخاص سبق أن زاروا مكة بعد دخوله. وقد تم التغلب على معارضتهم لاستعمال الهاتف بأن دعوا إلى استعماله بأنفسهم وتركوا ليستمعوا إلى قراءة من القرآن الكريم بصوت مألوف لصديق ليس موجودا أمام أعينهم، لكن ما يدعو للاستغراب أن هؤلاء القوم الذين اعتادوا طيلة سنوات عمرهم على استعمال المنظار لرؤية الأشياء البعيدة يستهجنون الآن فكرة استعمال الهاتف، وهو جهاز إذا ما قورن بالمنظار يقرب الصوت البعيد إليهم!».

وأضاف: «وبالطبع بقيت أجهزة اللاسلكي شيئا محظورا. لكن الزمان خفف من حدة الكثير من مثل هذه التيارات المعارضة للتطور، وتزايد عدد آلات العرض وأجهزة اللاسلكي الموجودة في البيوت وأصبحت على شكل جموع غفيرة. ومما يستدعي الفضول أن أجهزة الاتصالات اللاسلكية ظهرت لأول مرة في السعودية ضد جبهات دفاعية تم اختراقها بمستجدات ومستحدثات صناعية جديدة. وابن سعود الذي كان دائما تواقا لسماع آخر الأخبار القادمة من أقاصي العالم، كان نصيرا قويا لذلك الجهاز الجديد (الهاتف). وفي عام 1931م أنشأ ابن سعود شبكة كاملة من المحطات اللاسلكية الداخلية لتنقل إليه الأخبار الفورية عن كل الأحداث.. بغض النظر عن نوعها، إذ يمكن أن تكون أخبار هطول أمطار في مكان ما، أو أخبار جريمة في مكان آخر، أو خبر وفاة المشاهير، أو حتى ولادة حفيد من الأحفاد».

واعتبر فيلبي أن الملك المؤسس تعامل مع المعارضين لإدخال المستجدات والمستحدثات الصناعية الجديدة بمهارة، موضحا ذلك بالقول: «لم تكن المحنة التي واجهها ابن سعود في الرياض محنة قاسية، حتى لو أنه سمع بالفعل نقدا صريحا بسبب الابتكارات التي جلبها من الحجاز. إن مهارته في التعامل مع أهالي نجد وكذلك بلاغته في التعبير لم تترك مجالا للشك بأن محدثيه ومحاوريه المتلهفين والتواقين سيقرون سياسته في النهاية ويصادقون عليها. والجدير بالذكر هنا أنه إذا استدعى حدث ما الخطابة، فكان ابن سعود يرتقي إلى أعلى مستويات الخطابة».

وذكر فيلبي قصة إنشاء محطتين لا سلكيتين في العاصمتين مكة المكرمة والرياض بقوله: «إن استراحة الملك القصيرة تلك التي قضاها في الطائف والتي تكررت بعد مضي أربع سنوات أسهمت في جوانب عدة بوضع الأسس التي شيدت صرح المملكة العربية السعودية. ومن بين الأمور التي شغلت بال الملك آنذاك كانت فكرة تحسين وسائل الاتصالات في المملكة، وما أن انتهى ذلك العام حتى تم التوقيع على عقد مع شركة (ماركوني) لتوريد المعدات اللازمة لإنشاء محطتين لا سلكيتين كبيرتين في مكة والرياض تعملان بقوة نصف كيلوواط في عدد من عواصم الأقاليم بالمملكة، وأخيرا وليس آخرا تم التعاقد على تركيب أربعة أجهزة متحركة بقوة نصف كيلوواط ليتم أخذها مع الملك وكبار الشخصيات من مرافقيه أثناء ترحالهم»، مشيرا إلى أنه «عند حلول موسم ربيع عام 1932م تم بالفعل إنشاء هذه الشبكة العظيمة من الاتصالات اللاسلكية. وليس هناك مجال للتساؤل عن الدور المهم الذي أدته الشبكة منذ ذلك الوقت تحت إشراف الملك وتوجيهه لسياسة وشؤون البلاد. وبالطبع تم توسيع تلك الشبكة بشكل كبير وتم تطويرها عن الشكل الذي كانت عليه في ذلك الوقت، واليوم يمكن مقارنة المملكة العربية السعودية في مجال التطور اللاسلكي بأي دولة من الدول المجاورة لها في منطقة الشرق الأوسط، ناهيك عن مقارنتها بالكثير من الدول الأوروبية».

كما أورد فيلبي أن الملك كان يصبو منذ زمن طويل ليتمتع بفوائد ومكاسب الاتصالات اللاسلكية البعيدة المدى، وخاصة الهاتف، وعليه تم توقيع عقد مع شركة ألمانية بإنشاء شبكة فخمة تحتوي على خدمات كثيرة وتربط كافة المراكز المهمة بالنواحي البعيدة المترامية من الكرة الأرضية. وكانت محطة الإذاعة في جدة تعمل منذ عدة سنوات، كما كانت تربطها مع مكة ومع المناطق الرئيسية من مناطق الحج محطات إرسال معينة، وفي تلك الفترة أيضا كان يتم إجراء دراسة تتعلق بتنفيذ خطة أشمل تهدف إلى توسيع نطاق البث ليصل إلى كافة البلدان الإسلامية، مشددا بالقول: «إن قضايا مثل التطور الحاصل في مجالات البرق وخطوط الهاتف، علاوة على موضوع إدخال الخدمة الهاتفية الآلية في بعض المناطق، ما هي إلا مجرد إسهامات تقديرية للأهمية التي توليها الحكومة اليوم لوسائل الاتصالات الحديثة وما تقدمه من وسائل الراحة إلى الناس. إن هذا التطور هو تذكار بعهد قريب حيث كان الناس ينظرون إلى صوت الإنسان المسموع على أنه وسيلة من وسائل الشيطان تهدف إلى زعزعة إيمانه وإسلامه».

وفي كتابه الآخر «حاج في الجزيرة العربية» نقل عبد الله فيلبي صورة أخرى من صور إدخال اللاسلكي فقال:

«إن خير صورة للعجز المنتشر في البلاد آنذاك كانت الكيفية التي عولجت بها مسألة اللاسلكي. فلعدة شهور بعد وصول المهندسين والأجهزة لم يتم شيء لبناء المحطة المراد بناؤها، إذ إن كل الطاقات كانت مبذولة في انتقال للأجهزة المتحركة. وبعد حين من الزمن تمكنّا من استصدار أوامر من فيصل بنقل جهازين متحركين إلى الرياض، ونقل الاثنين الآخرين إلى الطائف. وتم تنفيذ هذه الأوامر، وفي التاسع عشر من أغسطس (آب) كان الجهازان المتحركان في الرياض على اتصال بالآخرين في الطائف.

لقد انفعل رجال الطائف انفعالا شديدا بهذا الحدث التاريخي، مما حدا بهم لإرسال عدة برقيات تهنئة إلى الملك. أما في الرياض (وعلى الرغم من المعارضة الخفية لهذا الاختراع) فإنه بدا كان الاتصال كان هناك منذ قرون طويلة - فلم يكن هناك صدى لهذا الحدث التاريخي، بل إن البرقية الصحافية التي أعددتها لترسل إلى (الديلي هيرالد)، معلنا فيها إمكانية اتصال العاصمة السعودية ببقية العالم، ظلت حبيسة وقتا طويلا جعل إرسالها بعد ذلك شيئا لا معنى له. ثم إن النقل بالسيارات (للبريد وغيره) بطيء جدا. ولكن إن دخلت ذرة من الرمال في الكاربوريتر أو حدث عطل بسيط ما، مما يمكن أن يحدث لأية آلة من أي نوع، أعلن يوسف أن الجهاز لم يعد صالحا للعمل. ولم يكن مجديا الإيضاح بأن الجهازين في الواقع في حالة ممتازة في وقت الكلام نفسه. لذا صار وضعي حتما أصعب فأصعب. ولم يكن أمامي شيء سوى الصمود ليقيني الراسخ بأن الزمن وحده كفيل بمعالجة كل المشكلات المؤقتة، وإن كانت هذه المشكلة المتعلقة باللاسلكي قد جعلت من المستبعد جدا أن أستعيد مكانتي الاستشارية عند الملك السابقة للحج. لذا، فإني - بلا أعباء رسمية لي - كنت عضوا غير رسمي في المجلس الملكي الخاص».

وأضاف: «وهكذا كانت الحياة خلال تلك الأيام. وتمكنت ذات يوم من تخصيص صباح يوم لاصطياد الفراشات في بستان العطنة بين حي القري الجديد (كان بستان نخيل في زيارة 1917 - 1918م) وبستان الوسيطي، الذي كان قد تقرر قطع نخيله لتحويل الأرض لمنطقة سكنية. وقدر لبستان العطنة أن يكون مكانا لمحطة اللاسلكي الجديدة ومستودعها. لقد كنت مستغربا جدا لندرة الحشرات في الضوء بالليل على سطح القصر. ولكن في بستان العطنة كانت الفراشات بأعداد كثيرة - معظمها زرقاء (من نوعين أو ثلاثة) وفصيلة بيضاء - والجنادب كذلك. لقد استمتعت بصباحي ذلك بينها، وجمعت منها نحوا من سبعين فراشة، وثلاثين أو أكثر من الجنادب. وفي عصر ذلك اليوم (السادس والعشرين من أغسطس 1931)، حدث تغير في النظام اليومي بدعوة كانت وجهت للملك للغداء في أحد البساتين خارج السور الغربي للمدينة. وكنا مدعوين أيضا، وذهبنا إلى هناك، أنا ويوسف وخالد، مشيا في حر الظهيرة. لقد كانت تغييرا جميلا لنا أن نجلس في حديقة بدلا من القصر في البديعة. وكان الغداء وليمة كالعادة، عدنا بعدها لحديقة العطنة ليرى الملك الموقع الذي ستكون فيه محطة اللاسلكي. وهناك صلينا المغرب، وأكلنا من تمر الوسيطي، وأمر الملك ببناء الحيطان والدعائم».

وروى لـ«الشرق الأوسط» الأمير طلال بن عبد العزيز الذي قاد إحياء أول برج للبرقية في العاصمة السعودية وأنشأه الملك عبد العزيز قبل 84 عاما أن فيلبي اقترح على الملك عبد العزيز جلب خبراء لتشغيل البرقيات من الخارج، لكن الملك قال له: «بل نرسل من أبناء البلاد من يتعلم هذه المهنة لدى شركة (ماركوني) في إنجلترا».

وتم بالفعل ابتعاث مجموعة منهم: محسون حسين أفندي، وإبراهيم زارع، وإبراهيم سلسلة، وقد لاقى هؤلاء صعوبات في كونهم لا يجيدون اللغة الإنجليزية. ثم أرسلت بعثة أخرى من أعضائها أحمد زيدان الذي شغل بعد ذلك منصب وكيل وزارة المواصلات في السعودية، في جهاد لإدخال الهاتف والتلغراف.