العوهلي لـ «الشرق الأوسط»: الجودة «فرض عين» ولن نسمح بتحويل الجامعات لـ«ثانويات مطورة»

قال إن تحديات المجتمع المعرفي أوجبت كسر «كلاسيكية» التعليم

د. محمد العوهلي وكيل وزارة التعليم العالي للشؤون الأكاديمية («الشرق الأوسط»)
TT

علق مسؤول تعليمي بارز جرسا في مسيرة التعليم الأكاديمي في السعودية، بعد أن أعلن أن وزارة التعليم العالي لن تنتظر حتى تتحول بعض الجامعات في السعودية إلى «ثانويات مطورة». وعلل أسباب قلقه بما سماه تحديات المجتمع المعرفي وإرهاصاته في العالم، ليؤكد السياق ذاته أن الجامعات السعودية سيكون تعاملها مع متطلبات الجودة «فرض عين»، ولن تسمح وزارته بالتراجع عن ذلك قيد أنملة.

الدكتور محمد العوهلي، وكيل وزارة التعليم العالي للشؤون الأكاديمية، لم يهادن في إجاباته، بل نقل «الكرة» في ملعب المبتعثين، ليلبسهم هندام المجتمع المعرفي المحقق للجودة، وموجها في رسالة لم يجف حبرها بأن كبريات الجامعات السعودية ستطلب ودهم إن حققوا معدلاتية الجودة في إطارها الصحيح، لينقل المشهد بديناميكيته المعهودة نحو عوالم متكافئة بين الابتعاث ورصانة المشهد التعليمي الداخلي. فكان هذا الحوار:

* مؤتمر الجودة المقام حاليا هو في نسخته الثالثة، ترى ما هي أهم الأهداف التي ترمي وزارة التعليم العالي إلى تحقيقها في هذا المؤتمر؟

- أهم الأهداف الحقيقية هو عكس أهمية مبادرة ضبط الجودة، والتوسع الكمي والنوعي الذي تعيشه الوزارة، والمؤتمر يمثل أهم المبادرات النوعية لضبط الجودة وتعميق المحتوى المعرفي والمهاري، لدى مخرجات التعليم العالي المتمثل في الطلاب والطالبات، وحينما نقول المحتوى المعرفي فهذا تمثله نوعية البحث العلمي، الذي يتنافس عليه الطلاب، والمحتوى المهاري هو ما يدفع الطلاب نحو خوض تجربة مهارية قيادية تنظيمية في تنظيم مثل هذا المؤتمر.

* ترى ما المنهجية الفكرية التي تسعون لبلورتها سيما أننا ننحى أكاديميا نحو تعدد طرائق التعلم في الجامعات؟

- هذا المؤتمر من الطلاب وإلى الطلاب، وهو مؤتمر طلابي في الإعداد والتنظيم والإدارة والتقديم، ودور أعضاء التدريس يقتصر فقط على الإشراف والتوجيه في حال احتياج التوجيه، ويقومون أيضا بعنصر التحكيم للأبحاث العلمية والأعمال الفنية، وفي جوهر المؤتمر تلاقحات فكرية نظمت وصممت من أجل الطلاب، هم من يدير الجلسات، الطلاب هم المنظمون، هم القائمون على كل التفاصيل في المؤتمر، والهدف الأدنى في المستوى هو تعميق وترسيخ مبادئ وأدبيات طرق وطرائق البحث العلمي في التعليم العالي، وأيضا تعزيز المهارات وتحفيز الهمم والكفاءات الفاعلة، وهو تعزيز المهارات وتحفيز المهارات السلبية واستحثاثها بين الطلاب والطالبات.

* لماذا تأخرت الجامعات السعودية تصنيفيا؟ وماذا أعددتم لرأب صدع المراكز البحثية في داخل أروقتها؟

- المؤتمر له شقان: أولهما البحث العلمي والأعمال الفنية؛ من التصوير الضوئي والكاريكاتير والخط العربي، والأفلام الوثائقية وأعمال الريادة والابتكار، ويجب أن نعلم أن البحث العلمي لديه عناصر، تتكامل منظومة هذه العناصر في عدة قضايا، القضية الأولى هي وجود الطالب أو الطالبة في بيئة البحث العلمي، وبيئة البحث العلمي تحتاج لثقافة، ومع عدم وجود الثقافة قد لا يتمكن الطالب أو الطالبة من اكتساب هذه المهارات الأساسية لتكميل متطلبات البحث العلمي، ومنها قضايا الجدية والمثابرة ومعرفة نتائج البحث، والالتزام بالأخلاقيات التي يتطلبها البحث، سواء من ناحية الحيادية أو الأمانة ونوعية إجراء التجارب، وغيرها من الأخلاقيات التي تمثل ثقافة مهمة في البحث العلمي، والأمر الثالث هو وجود طرائق علمية صحيحة يقوم بها الطالب أو الطالبة حينما يقوم بالبحث العلمي، والأمر الرابع وجود التوجيه والقدوة المناسبة لمناقشة الطالب في بحثه أو توجيهه للطرق الصحيحة، وخاصة حينما يبدأ الطالب أو الطالبة في تعلم هذه المهارات منذ بداية انضمامه لهذه الجامعة، حتى تكون بالفعل رحلته في التعليم الجامعي رحلة استكشافية وبحثية، ويستطيع من خلالها تحقيق خصوصيته، وتظهر أدوات البحث لديه حتى يستطيع الحصول على المعلومة الصحيحة.

* هل تعتقد أن الطالب، أو الطالبة، السعودي يتسق عمليا مع منهاج البحوث العلمية؟ وهل أضحى جاهزا لسبر أغوار المراكز البحثية وإثرائها؟

- أؤكد أهمية ثقافة البحث العلمي، وهذه الثقافة هي التي تصقل طرق التعلم لدى الطلاب، حينما يكون الطالب يتعلم من أجل المعلومة والحصول عليها من مشارب صحيحة، ليس فقط من أجل الحصول على الدرجة، وحينما يتعلم الطالب التعلم الذاتي لا ينتظر أن يقدم له الأستاذ ولا الجامعة بشكل عام، كتابا بعينه، أو عملية معادلاتية بعينها كما يتلقاها الطلاب في الشكل الاعتيادي أو الكلاسيكي، الطالب هو الذي يرسم منهاجه العلمي ويتكيف معه، وهو كفيل بإيصال نفسه نحو الطريقة المثلى التي ينبغي أن يكون عليها الطالب الجامعي، ويستكشف بها الأمر وهو الفرق بين التعلم الذاتي المسؤول، وبين التعلم الملقن الذي كأنه ينقل من وعاء إلى وعاء آخر، وحين تظهر شخصية الطالب الذي يبحث، ويعرف كيف يبحث بالطرق الصحيحة، تختلف الطرق التحصيلية من دون أدنى شك، ويتجلى الطالب في حينه وتتجلى معه الطرق التي كان يمارسها، سواء أكانت عن طريق التعلم الذاتي أو غيره، تظهر شخصيته في ذلك الوقت، واستطاع تحويل طرق تعلمه من تلقينية إلى طرق استكشافية عميقة، ويكون المتعلم بذلك قد صبغ نفسه بالعلم والتعلم.

* بمفهوم الجودة، كيف تصنف الجامعات السعودية؟

- هناك فروق على أثرها تختلف درجات وتصنيفات المؤسسات التعليمية. وحتى في مؤسساتنا التعليمية، سواء في السعودية أو خارجها، تجد أن الجامعة التي لديها ثقافة بحثية، وثقافة التعلم الذاتي، وثقافة التعلم التي تتسم بالمسؤولية والثقافة الانضباطية والثقافة الجدية، تجد بين هذا وذاك شخصية الطالب والطالبة المتجلية، بعكس الطالب الذي يتخرج من الجامعة التي هي عبارة عن «ثانوية متقدمة»، إذا صح التعبير، لا يستطيع أن يتعلم وحده، لا تظهر شخصيته في نوعية الإنتاج الذي ينتجه، إنما هو مجرد ناقل لكثير من المعارف والعلوم، وليس مساهما في خلق مثل هذه المعارف والعلوم.

* ألا تخشون أن تصحوا يوما على كارثة وظيفية؟ ما الذي ستقولونه لخريجي الابتعاث المؤهلين إن لم تستطيعوا استيعابهم وظيفيا؟

- يجب أن نفرق وتكون الصورة واضحة، هل نقوم نحن بابتعاث الطلاب من أجل الحصول على الوظيفة، أو من أجل إعطاء الإنسان قيمة لذاته وكينونته؟ وهل هو من أجل إضفاء قيمة فكرية لدى المبتعث الذي سيفتح له الابتعاث نوافذ معرفية متجددة من خلال الاحتكاك بجامعات عريقة ولها شأنها الفكري والأكاديمي؟ نحن نهدف لأن يصبح لدى الطالب المبتعث تعزيز لمفاهيم التعلم الذاتي لكي يبدع وينتج، والحقيقة أن هناك مبالغة في قضية حمل الوظيفة، وكأن الوظيفة هي عبارة عن السجن الذي نريد أن نمسك بيد الطالب إلى سجن آخر في مؤسسة أخرى، وإذا أعطي الطالب مفاهيم التعلم الجامعي، نكون قد وهبناه فرصة تعلم الحياة بكل تجلياتها، يستطيع الطالب أن يختار ماهية التعليم في المستقبل الذي يريده، وما هو العمل الذي يريد أن يمارسه، ناهيك عن نوعية الإسهام الذي يريده ويقدمه لنفسه وأسرته ومجتمعه، لا أن نركز على أهمية الحصول على وظيفة، بل نرسخ في ذهن الناشئة أهمية الانفتاح العلمي والفكري، ويجب أن نبعد مفهوم أن الطالب والطالبة أصبح إضافة ميكانيكية في أدوات المجتمع المعرفي.

* إلى أي مدى تعولون على شخصية المبتعثين أكاديميا؟ وهل تعتقد أن سوق العمل تتواءم مع متطلبات المجتمع المعرفي؟

- هذه نظرة قاصرة لا تعكس أننا أمام عنصر بشري، يستطيع أن يبدع ويبتكر ويقدم ويتأهل لإطارات فكرية ومعرفية، والطبيعي أن يأخذ المبتعث بأدوات الإنتاج وأدوات العمل، وأيضا العمل الاجتماعي والقيمي، إلى آفاق أرحب وأرحب، بدل أن تركن العقلية للوظيفة وتخرج عن إطارها الفكري والمعرفي، وهو ما يدفع لأن يحمل الطالب أو الطالبة هما غير مبرر، ويدفعه لأن يكون تابعا ليس قائدا، وهو ترسيخ لتجميد العقل، وقولبة فكرية، نحتاج لأن ينطلق الطالب نحو أن يكون مطلوبا للوظيفة كنتاج للإدراك الفعلي والمنهجي الذي توصل إليه، نريد المبتعث أن يسبر أغوار المجتمع تارة بأفكاره وتارة بأطروحاته، ومدى ما توصل إليه من مقدرة فكرية تقدم نحو الإنتاجية والقيمية، لتفضي إلى المصنع والمؤسسة والفكرة. لا نريد أن نقزم أبناءنا وبناتنا في البحث عن القولبات الصغيرة التي تحجر العقول، ولا تقدم بعدا فكريا نحو ثقافة الإبداع والنتائج المغلفة.

* لم التحرك داخليا في مضمار الجودة؟ مم تتخوفون؟

- لماذا كانت المبادرة مبادرة جودة؟ لأن هذا الأمر يعمق قضية أساسية في قضايا التعلم لدى الطالب، لأنه كما ذكرت آنفا، ينعكس عليه التعلم الذاتي، الذي فيه يصبح هو مسؤولا عن إدارة التعلم، سواء على مستوى الفرد أو المؤسسة، ومن هذا المنطلق بدأت تخصصات كبيرة في إدارة التعلم، وإدارة المعرفة، وهو الشيء نفسه بالنسبة للطالب، الطالب يجب أن يعلم كيف يدير عملية تعلمه، لذاته، لتخصصه، لأدواته، حتى يستطيع بالفعل أن تكون هناك فرصة كبيرة للنهل المعرفي من هذه التجربة ذات الأربع والخمس سنوات، ولذلك نريد أن نرسخ تلك المهارات وأن يقدم الطالب نفسه، ويكتشف قيمه المعرفية والذاتية، نريده كمسؤولين عن الشؤون التعليمية، أن يتعلم بذاته، أن يقدم نفسه بذاته، أن يروض العملية التعليمية برمتها وفق ما توصل إليه من أبعاد فكرية وخلاقة متجددة، وفي الوقت نفسه نرعى إنتاجه وفكره ومنهجه وأطروحته وتوثبه المعرفي، الذي ندفع الطالب إليه.

* ما هي المحاور الاستراتيجية المجسرنة التي تأملون جسرنتها مع أوساط أكاديمية عالمية؟

- نحن في انطلاقتنا في التعليم العالي وضعنا أحد أهم الركائز السبعة كمحاور استراتيجية ضمن التعاون والإطار الدولي، وفي التوقيت نفسه انفتاح البحث العلمي نحو البحث التطبيقي الذي يربط بين المعايير التي نبحث عنها، وهي معايير لا ترتبط فقط بالسعودية وإنما لها ارتباطات دولية وثيقة، الفيزياء في السعودية هي الفيزياء ذاتها في روسيا أو كوريا. هناك معايير عالمية يجب أن نرتقي إليها، ويجب أن نضع لها الأطر الصحيحة لمنهجتها في الجامعات السعودية.

* كيف لكم أن تمدوا جسور التواصل بشكل فاعل مع جامعات طرفية ناشئة؟

- نحن نقوم في المؤتمر بتسليط الأضواء وعمل الدراسات والبحوث، ولا يمكننا القول إننا نستطيع عمل كل شيء في هذه الأيام القلائل، وتسبقها لقاءات تحضيرية في كل جامعة من الجامعات، وهي عبارة عن عملية تصفيات، وهي عملية مستمرة للطالب داخل جامعته، نريد أن تكون هذه الممارسات الصحيحة للبحث العلمي، وهي ممارسات دائمة طوال العام والفصل والشهر والأسبوع، ولاحظنا أن مستوى البحث العلمي في المؤتمر العلمي الثالث، يختلف جودة عن المؤتمر الثاني ويختلف جودة عن المؤتمر الأول، وهو ما يعكس أن هناك بالفعل تحسنا في المستوى، في الأدوات التي أردنا زراعتها في جسد التعليم العالي، وهي لقاءات بدأت تؤتي أكلها، متى ما وجه الطالب توجيها صحيحا، بحيث يتفاعل مع العمل ويحقق ما هو مطلوب منه، لأنه يرى أن يعمل من أجل العمل وتحقيق المنتج الصحيح. الجودة في الجامعات السعودية بالطبع تختلف من جامعة لأخرى، ولا نستطيع القول إنها على خط واحد، لدينا جامعات ناشئة، ولدينا أيضا جامعات واعدة، وأخرى متميزة، وفي الوقت نفسه تختلف من ناحية التخصصات، وهنا نؤكد على دور ثقافة الجامعة، فإذا كانت ثقافة الجامعة منضبطة وجادة، نجد أن جودتها العلمية في أوجها، ومتى ما قل الانضباط في كثير من الممارسات الأكاديمية، فهذا ينعكس على الطلاب أنفسهم وثقافتهم، نحن بدأنا في متطلبات الجودة والاعتماد، وبدأت تلقي بمتطلباتها وظلالها على الممارسات التي نراها في جميع الجامعات، ونحن في وزارة التعليم لا نرضى بتصنيف المعايير، وضغطنا على جميع الجامعات في الإطار نفسه، وهو ما انعكس على مستويات تلك الجامعات.