الأجواء الملتهبة تعدل برنامج الأسر وتحدد نوعية وجبتي الإفطار والسحور وتضبط الساعة البيولوجية للسكان

السعوديون يستذكرون حلول رمضان خلال أشهر الصيف الساخنة ومعاناة السكان قبل عقود

السعوديون والمقيمون في الرياض نهجوا أسلوبا غير مألوف في القديم بتناول الإفطار الرمضاني أو السحور في الفنادق والخيام الرمضانية
TT

أعادت الأجواء الحارة خلال شهر الصوم للعام السادس على التوالي الذي سيحل في أجزاء من يوليو (تموز) وأغسطس (آب اللهاب)، حيث ذروة الحرارة التي تصل معدلاتها إلى 45 درجة مئوية وقد تلامس الخمسين، ذكريات حفظتها ذاكرة الآباء والأجداد عن معاناة الصائمين في العقود الماضية، وكيف تجاوزوا الصعوبات التي واجهوها وهم يؤدون الركن الرابع من أركان الإسلام، في حين وضعت الأسر برنامجا خاصا لرمضان يتناسب مع الأجواء الساخنة التي حل بها الشهر، أهمها تعديل الساعة البيولوجية لأفرادها، وتحديد نوعية الوجبات المقدمة في الإفطار والسحور.

ومع أن الجيل الجديد من السعوديين عايشوا شهر الصوم في فصل الصيف خلال السنوات الست الماضية بعد نقلة كبيرة وتغييرات مفاجئة في أسلوب المعيشة لدى السكان، فإن كبار السن ممن تجاوزوا العقد الخامس من عمرهم يحملون ذكريات عن تلك السنوات ومظاهر رمضان في أجواء مختلفة، كما تختزن المنازل الطينية في المدن والقرى التي هجرها السكان إلى مساكن حديثة كنوزا من الذكريات مطمورة فيها وفي أزقتها عن الصوم ومظاهره ومعاناة ساكنيها من قضاء الشهر في أيام الصيف، وأسلوب التعامل مع هذه الأجواء.

وضع السكان في السعودية برنامجا خاصا لشهر رمضان الذي يحل هذا العام، وللعام السادس على التوالي خلال هذا العقد، في أجواء ساخنة للغاية قد تلامس معدلات الحرارة الـ50 درجة مئوية، وضبطت الأسر الساعة البيولوجية لأفرادها، في حين فضلت بعض الأسر التوجه إلى المصايف لقضاء شهر الصوم في أجواء معتدلة، وسجلت الطائف المحطة الأكثر طلبا للإقامة فيها خلال الشهر لعوامل تتعلق باعتدال مناخها وقربها من مكة المكرمة، لزيارتها كل يوم وتأدية الصلوات فيها، وخصوصا التراويح والقيام، ثم العودة إلى الطائف لتناول وجبة السحور، كما فضل بعض السكان الإقامة في أبها والباحة خلال شهر الصوم استفادة من الأجواء المعتدلة في هاتين المنطقتين، بعد أن سجل السياح خلال هذا الشهر أعدادا كبيرة تجاوزت المليونين.

وللعام السادس على التوالي يحل رمضان في السعودية في أجواء ساخنة، حيث تتجاوز معدلات الحرارة في كثير من المناطق الـ45 درجة مئوية، كما سيحل موسم الرطب (التمر) في شهر الصوم لهذا العام، حيث سيبدأ الموسم خلال الشهر، علما بأن منتوجات بعض المناطق من الرطب تم عرضها في الأسواق منذ أسابيع، وخصوصا رطب «روثان المدينة» في عرض منتجات المزارعين التي ستجد طيلة الشهر إقبالا كبيرا من السكان لما يمثله الإفطار بالتمر من أهمية، حيث إن من السنة في الإسلام تناول حبات من التمر وقت الإفطار، ووضع سكان بعض المناطق في السعودية أيديهم على قلوبهم تحسبا لانقطاعات الكهرباء مما يؤثر على برنامجهم اليومي ويزيد من معاناتهم في ظل الأجواء الساخنة التي دخل فيها شهر الصوم، وتسابقت الفضائيات لكسب مشاهدين لها من خلال عرض برامج تناسب مختلف الأذواق وأجواء وروحانية الشهر، واستضافت لهذا الغرض علماء لهم حضورهم للإجابة عن استفسارات المشاهدين وطرح رؤى في مسائل تتعلق بالصوم وحكمته ومبطلاته والدروس المستفادة منه والمعاني السامية التي يحملها الشهر الفضيل.

كما عمدت الفضائيات إلى عرض برامج وقت الإفطار استفادة من تحلق أفراد الأسر على موائد الصوم، وهي البرامج التي حازت رضا المشاهدين في الأعوام الماضية، في حين يترقب الكثيرون مسلسل «الفاروق» الذي حامت حوله الانتقادات وترددت أنباء بعدم عرضه على الرغم من أن كثيرا من الفضائيات والدول الإسلامية قررت عرضه.

ووضعت الجهات المختصة ضوابط لاستخدام مكبرات الصوت في المساجد خلال الشهر منعا لإزعاج المرضى وكبار السن والصغار أثناء تأدية صلاة التراويح والقيام، في وقت بدأت فيه الأسر في إعداد أطباق رمضان المشهورة التي يأتي في طليعتها الحساء (الشوربة)، والمعكرونة والفطائر المختلفة والسمبوسة واللقيمات والمهلبية والكستر (التطلي)، بالإضافة إلى طبق الفول مع أرغفة التميس الشعبية، في حين تظل الكبسة السعودية سيدة مائدة السحور، وخلال السنوات الخمس الماضية التي حل فيها شهر رمضان خلال الصيف، حرص السكان على تطعيم موائد الإفطار بالعصائر المختلفة لإطفاء عطش الصائمين، مع تناول الفواكه الصيفية بعيد الانتهاء من تناول وجبة السحور، ومنها البطيخ (الحبحب أو الجح) والشمام (الجرو)، لتكون زادا للصائمين خلال النهار، وعمد المقاولون والشركات العاملة في قطاع البناء والتشييد إلى تنظيم الأعمال خلال الليل باستخدام الأنوار الكاشفة لإراحة عمالهم في ساعات النهار الساخنة.

ولا يرى المعمرون وجود صعوبات في الصوم خلال الأجواء الحارة الحالية قياسا بالأجواء المماثلة قبل عشرات العقود، بسب تغير أسلوب المعيشة وتوفر أجهزة التكييف والتبريد والإنارة، وإمكانية إرجاء الأعمال الحرفية إلى الليل، حيث إن أغلب السكان في الزمن الماضي يعملون في الزراعة وبعض الأعمال الحرفية الأخرى، ويتذكر البعض أنه صام رمضان في أجواء مختلفة وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة، حيث كان يعمل في مزرعة الأسرة خلال نهار قائظ، وواجه متاعب كثيرة لدرجة تعرضه لحالة إغماء بسبب العطش والإجهاد، خصوصا في موسم صرام النخيل (إنزال التمور من رؤوس النخيل بعد اكتمال نضجها ووصولها إلى مرحلة التمر وتعبئتها في صناديق أو أكياس). والبعض يتذكر جيدا كيف كان يعمل في رمضان بهمة ونشاط منذ الفجر وحتى وقت الضحى ليرتاح قليلا عند بركة الماء التي تسقي المزرعة، ويؤدي صلاة الظهر في المسجد، ثم يعود للعمل في المزرعة وقد بدا عليه الإجهاد، في حين أن ربة البيت كانت تعمل في المطبخ لإعداد وجبة الإفطار التي لا تتعدى طبق الحساء (الشوربة) المعد من القمح الذي تنتجه المزرعة، وطبق جريش أو مرقوق يصنعان من المادة نفسها، إضافة إلى القهوة والتمر، وأحيانا تجمل المائدة بكميات من المريس (نقيع التمر) أو الأقط المجروش مضافا إليه الماء، إضافة إلى قطع من الأترنج المغموس بالماء والمضاف إليه السكر لإطفاء لهيب العطش، في حين لا تتعدى وجبة السحور طبقا من الأرز، أو الجريش أو المرقوق أو المطازيز (رقائق من القمح تطهى مع اللحم والبصل والطماطم)، وتتجنب الأسر الإكثار من الملح في كل وجبات السحور أو إعداد أكلات يحتاج من يتناولها إلى شرب كميات من الماء، كالقرصان مثلا، حتى لا يتسبب ذلك في متاعب للصائم نهارا، وكانت الروائح التي تنبعث من مطابخ المنازل الطينية عند إعداد وجبات الإفطار باستخدام السعف والجريد والحطب، مظهرا من مظاهر رمضان قديما، والجميع يتضورون جوعا انتظارا لحلول وقت الإفطار، بل إن روائح الأطعمة الرمضانية كانت تشم في جميع أرجاء المنزل، إن لم يكن في كل أرجاء الحي. وكانت القهوة والتمر يمثلان عاملا مشتركا في مائدة الإفطار في كل المنازل، في حين أن اللبن مطلب في وجبة السحور، أما الطبق الرئيسي، بل الوحيد، فهو المرقوق مع قطع البصل المطبوخة أو قطعة من القرع أو خضار مع أرغفة القرصان الخالية من الملح أو الجريش.

ويستعيد كبار السن شيئا من معاناة السكان مع الصوم خلال أشهر الصيف، حيث إن جميع أبناء القرى والمدن يعملون إما في الزراعة أو الرعي، أو المهن الحرفية كالنجارة أو الحدادة أو البناء، وقلة تمتهن الوظيفة الحكومية أو التجارة، لذا فإنهم يعانون متاعب في النهار بسبب العطش، لدرجة أن البعض منهم يضطر إلى النوم إما بجوار القرب (مفرد قربة وهي أداة تبريد الماء مصنوعة من جلد الماشية) أو بالقرب من الأزيرة (أوان فخارية لتبريد الماء ومفردها زير)، كما أن البعض يضطر إلى النوم في حوض النخل المبلل بالماء، أو رش المياه على الملابس والسباحة في اللزاء (بركة تجميع المياه)، وحصلت للبعض حالات إغماء إما بسبب الإصابة بداء السكري ارتفاعا أو نقصا، أو بسبب العطش الشديد وعدم وجود أجهزة طاردة للحر باستثناء «المهفة»، وهي مروحة يدوية مصنوعة من الخوص ولها مقبض خشبي مصنوع من جريد النخل. وكانت الشعثاء (خليط من التمر والأقط والسمن) يتم تناولها في وجبة الإفطار، وهي منتشرة عند أبناء البادية، وقد انتقلت هذه الخلطة إلى الحاضرة، وهي مفيدة للصائم بعد ساعات كانت المعدة خالية فيها، كما أنها مفيدة لمن يعاني الإعياء بسبب العطش.

وتمثل الأحياء القديمة في العاصمة السعودية، بل معظم المدن والقرى، نماذج للأحياء التي أبقت على طابعها القديم وما زالت تحتفظ بمظاهر رمضان منذ عقود، حيث كانت روائح الأطعمة الرمضانية تشم في جميع أرجاء الحي وقد انبعثت من المنازل الطينية التي كانت أبوابها مشرعة وطالتها يد الترميم، في حين أن كبيرات السن من النساء يفترشن الأزقة الضيقة أمام منازلهن وقد تحلقن معا في أحاديث شبه مكررة وهن يرمقن المارة، وغير بعيد عنهن يشاهد الأطفال وهم يلعبون كرة القدم، ولم يخل المشهد من أطفال يحملون أطعمة متوجهين بها إلى مسجد الحي للمشاركة في تفطير الصائمين من العزاب أو العمالة.

وينتشر في الأحياء بائعو ماء زمزم، وهو ما يحرص الكثيرون على شربه ساعتي الإفطار والإمساك، كما ينتشر على استحياء بائعو شراب السوبيا التي تشتهر بصناعتها مدن الحجاز، ويفضل تناولها في يوم صناعتها.

وعلى الرغم من هذه الصورة التي بقيت عن رمضان في ذاكرة كبار السن أو من تجاوز العقد الخامس، فإنه يمكن القول إن مظاهر رمضان قديما اختفى الكثير منها، ولعل القاسم المشترك لهذه المظاهر في الماضي والحاضر هو تحلق أفراد الأسرة على مائدة الإفطار التي تجمع ما لذ وطاب من الأطعمة الرمضانية المألوفة، خصوصا الشوربة والسمبوسة واللقيمات والمهلبية.

وأجبر الزحام المروري، الذي أصبح سمة من سمات المدن السعودية وقتل متعة رمضان في نفوس الكثيرين، البعض على الامتناع قسرا عن التجول في المدينة وزيارة أسواقها ومحلاتها ومعالمها ليلا، واستبدل بذلك زيارة الأحياء القديمة نهارا لاجترار ذكريات جميلة عن ماض تليد، حيث ما زالت هذه الأحياء تحتضن سكانها من السعوديين والمقيمين منذ فترة طويلة وحافظت على طابعها القديم، ومنها مظاهر رمضان التي تعيد إلى زائريها والمارين في أزقتها ذكريات لا تنسى عن شهر الصوم قبل عدة عقود، وتتمثل هذه المظاهر الباقية في رائحة الأطعمة التي تنبعث من المنازل الطينية، وهي روائح خاصة بأكلات رمضانية صرفة ارتبطت شرطيا بشهر الصوم، ولعل أبرزها شوربة كويكر، ورائحة الزيوت التي تقلى بها السمبوسة والبطاطس والفلافل واللقيمات. ولعل طبق التمر هو السائد في مائدة الإفطار، حيث يحرص الجميع في الزمن القديم والحديث على تناوله مع القهوة العربية، كما فضل البعض التسوق نهارا تجنبا للازدحام المروري.

ولفت في الزمن الحالي أن بعض السكان نهج نهجا غير مألوف بتناول الإفطار أو السحور في الفنادق والمطاعم الكبرى من خلال الخيام الرمضانية التي تقدم أطباقا منوعة، كالتي تعد في المنازل وارتبطت بشهر الصوم.