في رمضان الجداويين.. المجد لـ«الفول»

طوابيره الطويلة تمتد بغرابة في تهذيبها.. ونفاده حتمي أيا كان بائعه

TT

صينية مميزة غالبا؛ إما بلونها النحاسي، أو بشكلها، تحوي مادة تمتزج فيها درجات من الألوان البنية والبيضاء والحمراء، تغرق في بحيرة صغيرة من الزيت النقي اللامع أو السمن البلدي، وتفوح منها رائحة دسمة، تتسلل إلى الأعصاب وتتشبث بالحواس، حتى يكاد يتذوق المرء طعمها الشهي.

هي صينية الفول الموقر في رمضان، وهو - أي الفول - ذروة الإغراء التي تتربع على سفرة غالبية الجداويين في هذا الشهر الكريم، وهو صاحب المجد بلا منازع من بين بقية الأكلات الشعبية التي يتجه إليها الجداويون هذه الأيام بقوة، ويجدون في البحث عنها في زوايا تاريخهم الذي تحتضنه أحياء جدة القديمة، وهي في هذا الشهر الخاص تنتعش وتعود لها الحياة بشكل مفاجئ ومثير.

فبالنسبة لسكان مدينة جدة التي ترتمي في أحضان ساحل السعودية الغربي، وتلقب بـ«عروس البحر الأحمر»، فإن شهر رمضان بروحانيته وحساسيته وشاعريته، أشبه ما يكون بماء عذب يسقي الحنين حتى أقصى وأعمق جذوره، فيصحو وينتشر خضاره في الوجوه والكلمات والشوارع، وتكسو المدينة ملامح غريبة آتية من التاريخ، يطغى عليها الزي الجداوي المميز ومأكولات معتقة وشهية.

أينما وليت وجهك، ترى العمة الجداوية التاريخية والشهيرة عادت إلى رؤوس الباعة، مستحضرة معها ملامح المعلمين القدامى، وتعود معها العادات والزيارات والأطباق؛ إلا أن طبق الفول يظل، ومن بين كل هذه المشاهد الحاضرة، صاحب الزعامة وملك السفرة الجداوية.

زعامة تشهد بها الطوابير الطويلة المفاجئة التي تمتد بغرابة في رمضان على هذا الطبق العزيز. كما يشهد بها الصبر والسكينة اللذان يعلوان وجوه القائمين في الصفوف، من دون تذمر أو تعجل أو تعد، وهي صفات كثيرا ما يمارسها السعوديون عند وقوفهم في أي طابور طويل مرهق؛ فكأن حب الفول والتسليم بزعامته، أعادا تهذيب الأخلاق النافرة وتطويع الطباع النزقة ولو لحظة من زمن.

وتشهد أيضا بزعامة طبق الفول على سفرة رمضان، كمياته الكبيرة التي تنفد دوما قبل أن ينتهي المريدون والقاصدون، ابتداء من محال الفول الشهيرة والكبيرة في جدة وهي معدودة ومحدودة ومعروفة وموصوفة من كثرة ما يرتادها ويتواصى بها الجدوايون، وهي غالبا ما تقع في الأحياء التاريخية والقديمة العريقة بالمدينة، مثل أحياء: البلد بحاراته الأربع العتيقة، والبغدادية، الشرقية، والعمارية.. وغيرها. كما يمر زحف الجداويين على الفول في رمضان، بمحال الفول ذات الصيت الذائع في الأحياء الشعبية بساحاتها وحاراتها كأحياء غليل والكرنتينة والهنداوية والكندرة، رغم عدم شهرتها في المدينة بشكل عام، ويواصل إلى بقية المحال غير المعروفة أو الجديدة أو حتى غير المرغوبة؛ القاعدة العامة في رمضان هي رواج سوق الفول ونفاد كمياته في الغالب، فهو الطبق صاحب المجد الرمضاني بصرف النظر عن بائعه.