«القطة» و«البقشة» تعيدان موروث جدة على إيقاعات «المزمار» و«الخبيتي»

أطلقتهما حارة البرحة

لعبة المزمار موروث شعبي يقبل عليه الشباب في الأعياد («الشرق الأوسط»)
TT

أعاد سكان الأحياء الشعبية في جدة غرب السعودية بعض العادات المتوارثة قبل ستين عاما أو يزيد، والمتمثلة في جلسات العيد المكشوفة والمتعارف عليها قديما باسم «العيدية».

والعيدية في المورث الشعبي، لا يقتصر على التجمع في صبيحة أول أيام العيد للتهنئة وتبادل التبريكات، وإنما يمتد على مدار 3 أيام تذبح فيها المواشي، وتزين فيه الحارة، وتعقد جلسات الطرب، ويستقبل أبناء الحارة ضيوفهم من الأحياء المجاورة لتبادل التهاني.

وتنطلق التحضيرات «للعيدية» في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، تحت قيادة أحد أبناء الحي، الذي يتسلم زمام الأمور بجمع المبالغ المالية من سكان المنطقة، التي يطلق عليها «القطة»، وذلك حسب إمكانيات كل فرد من سكان الحي.

ومع تجمع نصف المبلغ لإقامة هذا الاح،تفال، يشرع القائم ومن معه بالاتفاق مع المؤسسات المتخصصة في تجهيز المواقع (لوازم الأفراح)، مع تحديد أكبر المساحات في الحي لتجهيزها وتشريع مداخله ومخارجه، إضافة إلى الاتفاق مع المطابخ الكبرى، لإعداد الولائم طيلة فترة إقامة «العيدية».

وتعد وجبة الفطور في أول أيام العيد أحد أهم برامج الحفل التي يعتمد عليها المشرفون من أبناء الحي، وذلك بهدف تجمع السكان والمعايدة سويا في موقع واحد وتحت سقف واحد بدلا من التجوال على كل المنازل، وليتفرغ أبناء الحي لمعايدة أهاليهم من خارج المنطقة.

ويقول عبد الرحمن علي المطري من سكان حي الرويس، والمنظمين لبرنامج «العيدية» إن الفكرة تبلورت مع قدوم شهر رمضان المبارك.. «بعد أن اجتمعنا بكبار سكان الحي واستقينا منهم بعض المعلومات لما كان يقام قبل ستين عاما في أيام العيد، ومن ثم بدأنا العمل ضمن فريق مكون من 4 أشخاص في التحضير لهذه المناسبة والاتصال بكل أبناء الحي المقيمين فيه، الذين رحلوا عنه من سنوات طوال».

وتعتبر جدة التي تقع حارة البرحة في وسطها، أكبر المدن المطلة على البحر الأحمر في الجانب الغربي للمملكة، وتبلغ مساحتها الإجمالية 748 كيلومترا مربعا، وهي من أهم مدن السعودية، إذ تعد البوابة التجارية قديما وحديثا وتشرف على حركة التجارة الدولية مع الأسواق الخارجية، وهو ما جعلها أكثر المدن تطورا ونهضة في السنوات الماضية في جميع المجالات التجارية والخدمية، لتصبح وبمرور السنين مركزا مهما للمال والأعمال.

وسجلت جدة حضورا قويا في قطاع السياحة لتنوع المورث والمواقع التاريخية والجغرافية لها، فباتت تحتضن مرافق ومنشآت سياحية متطورة كالفنادق والشقق المفروشة والمنتجعات، مع تنوع مراكز الترفيه والمتاحف الأثرية والعملية والتاريخية، في حين تحتضن جدة أكثر من 320 مركزا وسوقا تجارية، وهذا الرقم يجعلها تستحوذ على ما يزيد على 21 في المائة من إجمالي الأسواق والمراكز التجارية في السعودية، فيما يطلق على عروس البحر الأحمر «المتحف المفتوح»، لوجود قرابة 360 مجسما جماليا، صممها فنانون عالميون في فن النحت، في كل الميادين العامة وعلى شواطئ العروس.

وبالعودة للعيدية، التي تنطلق حفلاتها الغنائية الممزوجة بالمورث الشعبي القديم ومنها «المزمار»، «الخبيتي»، «السامري»، «الينبعاوي» في ثاني أيام العيد بعد صلاة العشاء، وتختلف هذه العروض من منطقة لأخرى؛ ففي حارة الشام ينشط لون العجل والمزمار، وفي حارة الرويس ينشط اللون البحري، وفي البغدادية «العجل»، فيما يعتبر اللون الينبعاوي من الألوان الأكثر ترددا في الأحياء الشعبية، التي يتفاعل معها الحضور ويواكب هذه العروض التقيد من بعض سكان الحي بالملابس التقليدية للساحل الغربي منها السديرية، الغبانة الحلبي، البوقشة، الثياب المطرزة التي يرتديها كبار السن مع مجموعة من الشباب لتشكيل فرق متناسقة لإقامة الأهازيج، كل على حدة، ووفق الغناء الذي يؤدى في تلك اللحظة.

يقول نصار الظاهري من سكان حارة البرحة المنظمين لـ«العيدية»، إن العودة للماضي في شكله ومضمونة، يهدف إلى تجمع أبناء الحي الذين تفرقوا لظروف الحياة، فمنهم من غادر الحي لحي آخر، وآخرون غادروا المدينة للعمل في مدن أخرى، وهذا التجمع يتيح لهم فرصة الالتقاء وتبادل الذكريات، إضافة إلى الاستمتاع ببرامج المقدمة، التي تشمل الأطفال، من خلال مسابقات وألعاب ترفيه.

ويواكب هذه الاستعدادات للاحتفال بالعيد استنفار جميع مراكز لوازم الأفراح باستقبال الراغبين في الحصول على بعض الحاجيات التي يكثر عليها الطلب في الأيام الأخيرة من رمضان، المتمثلة في استئجار المفارش، أباريق الشاي، الجلسات العربية، الدلال، والخيام وغيرها من المستلزمات.

وتضيف بعض الأحياء في وسط جدة بعض التسالي لأبنائها، من خلال إعادة بعض الألعاب القديمة والحديثة ونصبها في مواقع مؤقتة داخل الحي طيلة أيام العيد مثل مراجيح المدادي، مراجيح الصناديق، الخيول، لعبة الفرفيرة.

من جهة أخرى، تنشط خلال أيام العيد المطابخ المتخصصة في إعداد الولائم، «الكبسة»، «المندي»، «الكوزي»، وهي وجبات يزاد الإقبال عليها في الأعياد، الذي يعد موسما جيدا لملاك تلك المواقع في تقديم وجبات العشاء لتغطية كل المناسبات، ومنها احتفاليات العيد، الأمر الذي ينعكس على ارتفاع حركة البيع في سوق المواشي، إذ قدر المتعاملون حجم بيع المواشي مع نهاية شهر رمضان بنحو 50 في المائة عن منتصف العام الحالي، ليصل سعر «السواكني» ما بين 750 و900 ريال، في حين تسجل الأغنام (النجدي - النعيمي) ارتفاعا ملحوظا ليصل سعرها ما بين 1000 - 1400 ريال للرأس الواحد.

وهنا يقول وائل محمد الشريف من سكان حي الرويس إن إقامة مثل هذه المناسبات أمر ضروري لتجميع سكان الحي فيما نعيشه من ظروف الحياة، مشيرا أن إقامة العيدية استغرقت وقتا للتنسيق مع أبناء الحي الذي يقطنون خارجه، وكاد يتوقف هذا الحفل لارتفاع الأسعار في كل السلع والمنتجات، وتحديدا أسعار المواشي، خاصة أنه تم تحديد نحو 150 ريالا «قطة» يدفعها سكان الحي من الشباب الذين يعملون، فيما يتكفل التجمع بباقي المصروفات عن كبار السن.

وفي هذا الصدد، شددت أمانة جدة مراقبتها داخل المسالخ المصرح لها بالذبح، من خلال زيادة عدد العاملين والأطباء البيطريين للكشف على المواشي قبل ذبحها للتأكد من سلامتها وخلوها من الأمراض الوبائية، فيما تكثف فرق المراقبة حملاتها على المطابخ ومنافذ بيع المأكولات الشعبية للتأكد من تطابق لاشتراطات صحية لدى العاملين داخل هذه المحلات.

فيما تقوم وزارة التجارة بحملات تفتيش على محلات تأجير مستلزمات الأفراح والتأكد من الرخص التي تخول العاملين من مزاولة هذا النشاط، وسلامة السجل التجاري والتأكد من نظامية العمالة، والتزام صاحب المنشأة بكتابة اسمه على اللوحة الخارجية بخط واضح، مع إلزام مالك المنشأة بضرورة سلامة ونظافة جميع المستلزمات المعدة للاستئجار. ويرجح عقيل عباد، أحد منظمي برنامج العيدية، أن تكون إقامة الحفل دعوة للاستمرارية خلال السنوات المقبلة، وأن يتحمل شباب الحي أعباء هذا العناء من التحضير والاستعداد خلال الأيام الأخيرة من رمضان لإنجاح ولقاء أبناء الحي، مشيرا إلى أن هناك نية من أعيان ووجهاء الحارة في أن تكون هذه الجمعة على مرحلتين، في عيد الفطر، وفي الإجازة النصفية للعام الدراسي.