«حي الكوت» مركز الأحساء بين روعة الماضي وقساوة الحاضر

يحوي قصر إبراهيم الأثري المبني سنة 840هـ

محمد نجل سليمان بن سعد النصيف عمدة حي الكوت بالهفوف في محافظة الأحساء سابقا («الشرق الأوسط»)
TT

يعتبر حي الكوت في الهفوف بمحافظة الأحساء، موطن العلم والعلماء، وهو من أعرق أحيائها، ويقع فيه قصر إبراهيم الأثري المبني سنة 840هـ، وقد شهد هذا القصر حدثا تاريخيا خالدا، إذ استطاع الملك عبد العزيز آل سعود السيطرة عليه في أول يوم استرجع فيه الأحساء من العثمانيين في 28 - 5 - 1331هـ.

والكوت وفق ما يرى بعض الباحثين، كلمة كلدانية الأصل وتعني (الحصن)، لأن هذا الحي كان طوال 400 سنة خلت يعد من أقوى القلاع وأكثرها تحصينا، فهو محصن من جهاته الأربع بأسوار محكمة البناء وقد أزيلت سنة 1376هـ، وأول من حصن قلعة الكوت وبنى أسوارها هم الولاة العثمانيون في نهاية القرن العاشر الهجري، وقد اتخذوا من الكوت مقرا لإقامتهم، فبنوا فيه المساجد والجوامع والدور الحكومية والقصور والمرافق الأخرى، حيث توجد في الهفوف الكثير من المساجد والجوامع القديمة التي يعود تأسيسها إلى عدة قرون، ومنها المسجد الجبري ويقع في حي الكوت وقد أسسه سيف بن حسين الجبري في الربع الأول من القرن التاسع الهجري، ومسجد الدبس ويقع في حي الكوت وقد أسسه الوالي العثماني محمد باشا فروخ سنة 963هـ، وكانت له منارة على طراز معماري عجيب، وقد ذُكِر أن الملك فيصل في إحدى زياراته للأحساء مر على الشارع وقال: أين المنارة، لا أراها؟ فقالوا له تمت إزالتها بسبب تنظيم الشارع، فندم وقال: مثل هذه لا تزال أبدا لأنها معلم عظيم! وجامع القبة ويقع داخل قصر إبراهيم الأثري بحي الكوت وأسسه والي الأحساء العثماني علي بن أحمد بن لاوند البريكي سنة 979هـ، وجامع فيصل ويقع بحي النعاثل وأسسه الإمام فيصل بن تركي سنة 1272هـ وهو أكبر جوامع الهفوف القديمة.

بقي أن نذكر أن كل حي له عمدة وهو منصب معروف عالميا، يمكن وصفه برئيس البلد، إلا أن مهامه وطريقة تعيينه تختلف من بلد إلى بلد أو من دولة إلى دولة، وفي بلاد أخرى يعادل منصب رئيس مجلس المدينة، ويعتبر العمدة رجل الأمن وصمام الأمان في حال تضافر وتعاون أهالي الحي، وهو القادر على تلمس احتياجات السكان والمتحدث الرسمي باسم سكان الحي.. وفي هذا الصدد، تقلب «الشرق الأوسط» ذكريات سليمان بن سعد النصيف، عمدة حي الكوت في الهفوف بمحافظة الأحساء سابقا، لتلتقي نجله «محمد النصيف»، وهو في العقد السابع من العمر، ليحدثنا عن تاريخ أبيه - عمدة الكوت، فيقول: «إن حكام الأحساء من آل جلوي أولوا والدي ثقتهم والمسؤولية في حل المشاكل بين الناس، فكان مهابا ومحبوبا من الناس وحازما وحليما ومنصفا ومحققا الرضا للجميع، وهو حلقة الوصل بين الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي آل سعود رحمه الله وأهالي حي الكوت، فعندما تصادفهم مشكلة يأتون لمنزلنا، ولا يخرجون من المنزل إلا وكل طرف راض بالحكم وكل شخص قد أخذ حقه، وقد اتسم عمدة الكوت سليمان النصيف بعقله وعدله.. وبعد وفاته رحمه الله، تسلم العمودية من بعده الشيخ أحمد الملا، ثم الشيخ أحمد العبد القادر وهم من سلالة العلماء لمنطقة الأحساء رحمة الله عليهم».

ودعا «محمد النصيف» إلى منح العمدة صلاحيات أوسع لأداء رسالته، دون أن يقتصر ذلك على تصديق الأوراق الرسمية، ففي الماضي كان للعمدة أدوار مهمة ومكانة كبيرة، مشيرا إلى أن العمدة شخصية اجتماعية مهمة، ولا بد أن يكون لديه القدرة على كسب أهل الحي، والتقرب منهم ومن همومهم بشكل حقيقي وليس مجرد منصب أو وجاهة يشغلها، بحيث تكون هناك نقطة وصل بين العمد وأعضاء المجلس البلدي لحل قضايا أهل الحي ومشاكلهم.

ويمضي النصيف قائلا: «تذوب همومنا الشخصية في الماضي في شقاء لقمة العيش، فكانت حياتنا خالية من الهموم ولم نعرف الخصومات، والبغضاء، وكانت محدودة تقريبا بل معدومة، وكنا نعيش بالقليل، فأمورنا كانت تُحل بوجوه الرجال، فمن تدخّل في قضية مهما كانت يتم حلها بوجهه وبضربة يد على صدره. ويكون حل القضايا في ذلك الوقت بتدخل عمدة الحي الذي بدوره يقوم بحلها»، ويتابع حديثه: «كان الناس في ذلك الوقت تتفقد أحوال بعضها البعض، والكل يسأل عن الآخر، ولا يمكن أن يبقى أحد وحيدا بلا يد جار أو صديق يعينه بعد الله، وكنا نسعى لجلب العمل لنا ولمن يجاورنا سواء كان في بناء المنازل أو حمل أكياس الشعير وحرث النخيل ونقل الثرى، ففي المسجد يتفقد بعضنا بعضا وفي الشارع وحتى داخل بيوتنا، وينتقص الجار لجاره ما يأكله، والفرح عند الواحد منا يكون فرحا جماعيا، والحزن كذلك يجمع الكل على المشاركة في المواساة، ويقف الجار مع جاره».

من جهة أخرى، قال النصيف: «من المؤسف في يومنا هذا أن الأب يضع بينه وبين ابنه حاجزا عاليا جدا سواء في التعامل أو التواصل، بخلاف العيش في الماضي حيث كان الابن يسكن مع والده في منزل صغير لا تتجاوز مساحته 60 مترا، ولا يفكر أحد في أن ينعزل أو يخرج عن بيت والده، وكانت البيوت تجمع ثلاثة أو أربعة أولاد مع زوجاتهم وأبنائهم كأسرة واحدة».

وعن كيفية بناء المنازل في الماضي، يقول: «كانت من الحصى الذي كان يعد مادة بناء الحوائط والجدران، وكان يتم استخدام الجبس أو ما نسميه (الجص) بديلا للإسمنت، لأن الجص يتميز بالرطوبة أثناء فترة النهار والحر، بخلاف الإسمنت الذي يكون حاميا، ويؤدي إلى زيادة سخونة المكان»، موضحا أن «المواد التي يتم استخدامها في بناء الأسقف في ذلك الوقت، هي الأعمدة أو الدناشل (الحطب أو الخشب المستخدم لبناء سقف البيوت القديمة)، والنوافذ كانت موجودة في الجدران بشكل منخفض كثيرا، لأن القدماء كانوا يشيدون منازلهم على هذا النحو، بغرض قيام هذه الشبابيك بتكييف المكان، حيث كان الجلوس دائما على الأرض، لذلك فإن وضع الشبابيك جاء منخفضا حتى يسمح للهواء بالدخول إلى المكان للجالسين في المنزل على الأرض».

وعن المنازل القديمة في حي الكوت، قال: «لا تزال بعض المنازل في الحي تحتفظ بطابعها التراثي القديم، حيث مضى على بناء أغلبها نصف قرن ويزيد، وكانت بأيدي رجال تحملوا تلقبات الأجواء وقلة مواد البناء».

ويضيف: «أما العادات اليومية في الماضي، فكانت الزيارات والمجالس مفتوحة، بخلاف الحياة في هذا الوقت بعد أن انتقل الكثيرون إلى أحياء جديدة، فانقطعت هذه العادة إلا ممن لا يزال متمسكا بها، فهناك الكثيرون لم يستطعوا التأقلم على العيش في الحي الجديد، فغالبية تلك الأحياء رب الأسرة مشغول في عمله أو تجارته، مما جعل منازل البعض تفتقد تواصل كبار السن».

ويتمنى محمد بن سلميان النصيف «أن تمسك هيئة السياحة والآثار بأيادي كبار السن وأن تحقق لهم رغبتهم في بناء ديوانية في حي الكوت القديم وأن يكون بالطراز القديم بجدرانه وأسقفه وبطابعه التراثي القديم، كي يكون محطة تجمع كبار السن للاجتماع فيه يوما، وليس بكثير عليهم عندما يجتمع كبار السن في المحافظة في موقع محدد، وأن يكون هذا الموقع للتواصل معهم وجلوسهم، فلو نظرنا إلى الكثير منهم نجد أنهم قد تفرقوا ولا نلتقيهم إلا في المناسبات، والبعض منهم نفتقده كثيرا ولا نراه إلا في سنوات طويلة، كونه انتقل إلى حي آخر ويصعب عليه زيارة الحي، نظرا لعدم وجود مكان يجلس فيه ليلتقي إخوانه وجيرانه السابقين».

ثم أخذ يحدثنا عن الطابع العام بالأحساء في أيام العيد، فقال: «كان الناس حريصين على تعميق الزيارات والتواصل بين الأهل والجيران، وتجدهم منذ صلاة الفجر وهم يرتدون ملابس العيد ويوجدون في المساجد. أما في الوقت الحالي، فنجد البعض منهم يخلد في نومه ولا يستيقظ إلا بعد الظهر!! ولم تكن هناك أي مظاهر من الإسراف أو التبذير، ولم نكن نعرف الأسواق كهذه الأيام، وكنا نتجمع كعوائل فكان كل ما يقدم للذين يأتون للمباركة بأيام العيد من صنع البيت، ولكن هذه الأيام أصبح كل شيء من الأسواق والمطاعم، وحتى وجبة الغداء الكثير ينام ولا يأكل أي شيء، وبعدما يصحو من نومه يتجه إلى المطعم».