مواليد السعودية في اليوم الوطني.. «كماشة المواطنة» و«فك الهويات القاتلة»

«ذكرى الوطن» تفيقهم على واقع مليء بـ«علامات الاستفهام»

في يوم الوطن تتحد كل توجهات السكان تحت راية التوحيد («الشرق الأوسط»)
TT

365 يوما تمر عليهم يعيشونها حالهم حال السعوديين في بلدهم، إلا أن حلول يوم 23 من سبتمبر (أيلول)، يبدد حلم ذوبانهم مع مكونات المجتمع السعودي، ليوقظهم على حقيقة مفادها «أنت أجنبي!»، على الرغم من المشاركة في الاحتفالات الشعبية، التي تقام في مختلف المدن والمناطق السعودية، بمناسبة اليوم الوطني.

سيل ضحكات ساخرة في مقهى بيرتس الواقع على شارع التحلية وسط جدة، اجتاحت المتحلقات حول إحدى الطاولات من وضع قائم، يضع مواليد السعودية على قدم المساواة مع عمالة منزلية مقبلة؛ من أجل لقمة العيش.

تفتقت عن منغصات حقيقية، حفرت عميقا داخل النفوس، ليس آخرها عدم الشعور بالانتماء لوطن رابطه الوحيد جواز سفر، في حين تكبر فجوة العيش قسريا، بمشاعر متضاربة بين الانتماء لمكان، تعيش يومياته وتسكن أمكنته؛ بتنوعه الجميل وقبح المتخالفين فيه. وجه الاختلاف الجميل، الذي أثرى تجربة رندة البدوي المدرسية، والتي لم تشعر يوما أنها شخص غير مقبول، أو مختلف حول انتمائه العرقي، اختصر لها طرقا كثيرة.

سهلت عليها الانخراط داخل المجتمع السعودي؛ في ظل وجود زميلات الدراسة السعوديات؛ ممن كانت أمهاتهن من جنسيات عربية؛ وعلى الرغم من البساطة التي اكتنفت حياة رندة في السعودية؛ والتي تحمل الجنسية الأردنية، لأسباب صنفتها رفيقات المقهى بين اللون والعرق، في حين صوت الجميع للمال؛ باعتباره مرادفا طبيعيا لحياة كريمة، تمكن أي شخص من العيش في أي بلد كان، إلا أن ميزة دول الخليج توفر الأمان، كما أوضحت بلقيس يوسف.

بلقيس التي اضطرتها ظروف حرب خاضتها بلدها، كفلت لعائلتها الموافقة على طلب لجوء للعراق، فترة ما قبل حرب الخليج الثانية، قبل أن تدور دوائر الحرب مجددا؛ لتفتح عينيها على مدينة البحر، التي تجيد قراءة تضاريسها ولا تعرف ملامح مدينة أخرى سواها، «أنا أحب هذا البلد»؛ إلا أن حجم المعاناة مع هوية تؤرقها، وانتماءات متشعبة؛ أجبرها على التخلي عن ثقافتها بالدرجة الأولى، «من المؤذي نفسيا لأي شخص رفض الآخر له؛ فقط لكونه يتحدث بلغة غير العربية؛ إلا إن كانت إحدى لغات العرق الآري!».

«أن تعيش حياة تحت الحياة»، بحسب وصف بلقيس هو أمر مرهون بورقة؛ عليها تاريخان أحدهما كفيل بتجديد الأمل، والآخر لا يتوانى عن تذكيرك بخيارين أحلاهما مر، أما تجديد الإقامة والقبول بمعاملتك أسوة بغيرك من العمالة المقبلة، أو التفكير في شد الرحال، وإضافة هوية جديدة، وتوسيع دائرة انتماءاتك، وربما «نكون ممن حالفهم الحظ في أماكن أخرى من العالم!»، كما أبانت بلقيس. ولأن خيارات العودة بالنسبة لمواليد السعودية، ليست دائما حاضرة، وبالسهولة نفسها على الأقل للأفارقة منهم؛ كونها تتداخل مع أوضاع إثنية وعرقية ودينية، ناهيك عن السياسية منها.

كانت تجارب العودة لتلك البلاد، محاولات لجس النبض وإنعاش لذكريات؛ ما هي إلا حكايات الجدات القديمة، عن أمكنة وشخوص، لم يشكلوا يوما ولو جزءا بسيطا، من ذاكرة مواليد السعودية؛ التي يحتلها البحر بزرقته، وأصوات غربانه، ورطوبة حاراته.

مرارة التجربة التي أعادت فاطمة محمد، إلى موريتانيا بعد إصرار والدتها على الزواج من أحد أقربائها، لتعود وتؤكد مجددا لنفسها ولمن حولها أنها «سعودية أكثر من السعوديين»، ولتجد نفسها تعيش بين وطنين «أحدهما لفظني والآخر أجلس على عتبة بابه!». وعلى الرغم من كل الصعوبات، التي تواجهها فاطمة، بدءا من كونها متزوجة من رجل تفصلها عنه آلاف الأميال، مرورا بمحدودية فرص العمل؛ بعد زواجها وعدم إمكانية بقائها على كفالة والدها، الذي يحظى بمركز جيد في إحدى المنظمات الدولية في السعودية؛ إلا أن ذلك لم يكن كفيلا بتحسين وضعها، وعلى الرغم من احتمالات السفر والهجرة؛ إلا أن رفض كل الخيارات، مقابل العيش في بلد يحمل الأهل والأصحاب والذكريات، قادر على بعث الأمل واستشراف مستقبل آمن.

حق المواطنة الذي أجمعت رفيقات المقهى؛ على أنه «حق مهدر حتى لو لم يصل لدرجة اكتساب الجنسية»، كما أبانت بلقيس؛ كون المواطنة أبسط ما يمكن أن يحصل عليه الشخص؛ في مكان ألف العيش فيه، وتشرب ثقافته وعاداته وتقاليده، وعلى الرغم من بلادة السؤال حول مفهوم الوطن، وماذا يعني الاحتفال باليوم الوطني؛ بالنسبة لمواليد السعودية، وربما حتى للسعوديين؛ الذي تعتقد فاطمة أن الإجابة عليه من قبل السعوديين أنفسهم، يضع كثيرا منهم أمام خيارين لا ثالث لهما «إما تزييف الجواب، أو الإقرار بعدم معرفة معنى مواطنة!».

وهو ما بدا واضحا عندما توجهت بالسؤال لرانيا الوجيه، التي تحمل الجنسية اليمنية، على الرغم من أن كل عائلتها سعودية الجنسية؛ عندما بادرتني القول: «لا أعرف ماذا يعني الوطن؟ إلا أنه مكان تعيش فيه، يكبر بك وفيك، ويعطيك وهذا أمر كفيل بإيجاد حق المواطنة»؛ إلا أن ما تراه فاطمة تجسيدا حقيقيا لمعنى المواطنة، باعتباره معادلا حقيقيا لحب الوطن، ما تبديه الجماهير العريضة في منافسات كرة القدم، التي تكون السعودية أحد طرفيها «المباريات التي تخوضها السعودية، على الرغم من كوني لست رياضية؛ إلا أنها تجعلني أشعر بأنني سعودية حتى النخاع».

الاختلاف حول معنى الوطن وحق المواطنة، لم يمنع بلقيس من اعتبار نفسها مواطنة من الدرجة الثانية في بلدها الأم، متبنية بالكامل وجهة نظر بلد حاولت العودة إليه في وقت السلم؛ بعد أن اختار أهلها مغادرته في زمن الحرب، للعيش في بلد آمن مثل السعودية «أنا أعتقد أنني مواطن نصف خائن، لبلد أحمل جنسيته، وآخر أعيش منذ 26 عاما يوميات خبزي الحافي على أرضه، دون أن أملك حق المواطنة فيه!»؛ وعلى الرغم من الإحساس الموجع، الذي يخلفه الحديث عن مواطنة بلا وطن، وانتماءات لاتسمن ولا تغني من جوع البحث عن هوية.

إلا أن إصرار بلقيس الحبشية؛ على اعتبار الوطن «مكان يقبلني كما أنا؛ دون أن يجزئني، حينها فقط سأشعر بالمعنى الحقيقي للانتماء»، لم يحول دون شعورها بسعوديتها في الوقت؛ الذي قرر فيه صدام حسين إرسال صواريخه إلى السعودية؛ على الرغم من حداثة سنها.

إشكالات الوطن والمواطنة عند رفيقات المقهى، تتباين بحسب حجم المعاناة وطول فترتها، فمع فاطمة التي لم تشعر يوما على مدى الـ28 عاما هي رحلة العمر والحياة في السعودية، بمشكلة الهوية أو الانتماء، إلا بعد قرار عائلي منحها زوجا، وسلبها الشعور بمواطنة كانت تعيشها، دون أن تدرك وهمها.

بينما ظل يكبر الإحساس المضاعف بمرارة الهوية والمواطنة، مع بلقيس منذ نعومة أظفارها واكتشافها معنى العيش بجوازين، أحدهما عراقي كوننا «عربا نعيش في أفريقيا». في حين يأتي وقع الصدمة مفاجئا لكل من يتعرف إلى رانيا، عندما يكتشف أنها ليست سعودية، وعلى الرغم من سهولة منحها الجنسية المصرية، من جهة أمها، إلا أنها كما أوضحت «لا يغير من واقع أني سعودية؛ أبا عن جد حتى لو كنت أحمل جنسية يمنية، لا تعني لي شيئا».

الإحساس الموجع الذي تعيشه رانيا، وواقع حالها المتناقض بين جنسية تحملها، وأبجديات حياة تقوم على «كوني سعودية كفيل بتنغيص مشاعر الفرحة؛ التي أشعر بها في اليوم الوطني، مثل كثيرين حتى لو كان ذلك بمستوى وعي أقل لمفهوم الوطن والمواطنة». واقع كونك أجنبيا في بلد، تفتحت عينيك عليه لا يبدو ذا بال؛ إلا عند الانخراط في العمل؛ وهو ما اتفقت عليه الصديقات من مواليد السعودية؛ حول طاولة المقهى.

ليبدأ جحيم المعاملات، والاستنزاف المادي، لكل ورقة؛ وملاحقة جملة «الأفضلية للسعوديين»؛ التي علقت عليها بلقيس «من حكم في ماله فما ظلم». ولأن المواطنة حق للوطن والمواطن، سواء كان سعوديا أو مقيما كما وصفتها جود العمري الصديقة السعودية التي ختمت الأمسية، قبل أن تقاسم فاتورة المقهى الثقيلة، بأنها «إحساس مرهون بوفرة الحظوظ بالدرجة الأولى، ومعرفة مسؤوليتنا تجاه الوطن؛ قبل المطالبة بحقوقنا منه».