د. محمد الرشيد: ابن باز بارك ملاحظاتي حول المناهج الدينية ورشح علماء للأخذ بها لكنهم اعتذروا

وزير سابق للتعليم في السعودية يطالب بدمج المقررات الدينية في منهج واحد ويرد على منتقديه

د. محمد الرشيد خلال حديثه لـ(«الشرق الأوسط»)
TT

وجه الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير التربية والتعليم السابق في السعودية انتقادا مباشرا لمناهج التربية الدينية في بلاده، من ناحية مضامينها وأسلوب صياغتها، مشددا على وجوب أن تكون الموضوعات التي تجري دراستها في سنوات التعليم العام جميعا ملائمة لعمر الطلاب بوجه عام، وللتكليف الشرعي له، والمتوقع منهم أن يمارسوا ما يحتاجون إلى معرفة حكمه الشرعي من حل أو حرمة أو سواهما منذ التحاقهم بالدراسة النظامية حتى انتهائهم منها، معتبرا أن المقررات التي تدرس في التعليم العام لا تهدف بـأي صورة من صورها، ولا في أي مرحلة من مراحل الدراسة إلى إعداد متخصصين في العلوم الإسلامية.

ورأى الرشيد أن المقررات الدراسية يجب أن تقف مع الرأي والاجتهاد الذي يفسر الأدلة الشرعية متخذا روح السماحة الأصيلة في بناء الدين نفسه، وهي روح دلت عليها نصوص لا تحصى من الكتاب الكريم والسنة المطهرة ويجب بالتالي تنقية المناهج من الآراء التي تنحو نحوا لم يدفع أصحابها إليه إلا ظروف مكانية أو زمانية ينتفي تأثيرها في الفتوى والاجتهاد بانقضائها.

وأكد في محاضرة ألقاها مساء أمس الثلاثاء في اللقاء الشهري الأول للعام الجامعي الحالي للجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن) وطرح خلالها رؤيته لتطوير مناهج التربية الدينية في مدارس التعليم العام في بلاده، على أنه قد يكون مناسبا ونحن نبحث في سبل تطوير هذه المناهج أن نفكر في تحويلها إلى منهج يكمل بعضه بعضا تحت عنوان جامع وهو التربية الدينية أو التربية الإسلامية، أو أي عنوان آخر مناسب نجمع تحته متفرقات المقررات الحالية، وتكون صياغتها متكاملة بعضها مع بعض بحيث يجد القارئ (الطالب) فيها مصدر القاعدة العقيدية والأخلاقية من القرآن والسنة ومصدر الحكم الفقهي كذلك، وأثر كل واحد من هذه في الآخر واضح محدد؛ بحيث تدرك النفس في سن الطالب الصغير نسبيا حاجتها إلى الدين كله لا بعض فروعه دون بعض كما قد يكون حادثا الآن وإيضاح ذلك أن الطالب اليوم قد لا يجد نفسه محتاجا في حياته العملية غدا إلى شيء مما درسه دراسة نظرية في علوم القرآن، أو في التوحيد أو في الفقه، تلك التي درسها بمعزل عن الأحكام العملية المرتبة عليها؛ إما لأن معاني ما درسه مستقرة في نفسه منذ صغره، ومستقرة في وجدانه بالاقتناع الفطري أو بالتلقي المستمر المباشر من الآباء والأجداد، وإما لأنه ليس من أهل التفكير في هذه المسائل وعلومهـا. ولكنه إذا درسها مرتبطة بأحكام الحلال والحرام والمندوب والمكروه في الفقهيات التي سنختار لـه أن يدرسها فإنها لن تبرح ذهنه، ولن يستشعر أنها عبء زائد علـى طاقته الاستيعابية يدرسه دون أن يكون له عائد مفيد أو ذو قيمة في حياته العملية.

ولفت الرشيد إلى وجوب أن تكون لغة المادة المختارة للتربية الدينية لغة داعية إلى التفكير والتأمل، لا لغة داعية إلى الاستظهار والحفظ؛ إن الذي يحفظه الطالب لأداء اختبار فيه يذهب عنه فور انتهائه من أداء اختباره، أما الذي يستثير فيه كوامن الفكر، وقدرات العقل وممكنات النظر ويعلمه الصواب والأصوب، والحسن، والأحسن كما يعلمه الخطأ اليسير المغتفر، والخطأ الجليل الذي يجب أن يحذره.. مثل هذا لا ينسى ولا يهمل؛ لأنه يتحول في النهاية إلـى عادة محمودة في التعامل مع كل المواضيع في الحياة، وإلى أسلوب تفكير يهتدي بـه صاحبه في مواجهة كل مشكل يتعرض له، وهذا الهدف - على جلالته - لا يحتاج إلى أكثر من بذل العناية اللازمة له في صياغة المناهج ثم المقررات وشروحها والأسئلة التي تلحق بكل جزء منهـا، ثم يكون الدور الأكبر للمعلم النابـه الحريص على أبنائه أن يصرف جهـده إلـى تربية ملكة التفكير والمحاورة العقلية في طلابه، مهتديا بالمنهـج الـذي بين يديه، وقد عهد به إليه ليهيئ عقول الطلاب على وفقه، لا ليلقنهم أجزاءه وتفاصيله حتى يحفظوها عن ظهر قلب.

وشدد الرشيد على أن المناهج الدراسية تحتاج دائما إلى تطوير مستمر لتتلاءم ومتطلبات العصر والجديد في موضوعها، وفي وطننا السعودي تحتاج مناهج التربية الدينية على وجه الخصوص إلى دوام التحديث؛ بحكم أنها أهم العلوم في بناء شخصية الناشئة. هذه حقيقة أدركتها وكتبت عنها مقالات عدة قبل أن أكون على رأس العمل في وزارة التربية والتعليم ولا تزال تشغل بالي حتى اليوم.

وفيما يشبه الرد على منتقديه بخصوص عدم العمل بهذه الملاحظات الهادفة إلى تطوير مناهج التربية الدينية عندما كان وزيرا للتربية والتعليم لمدة عشر سنوات متتالية، قال الرشيد، لقد تعمق إدراكي لهذا الأمر حين وقفت على تفاصيل مفردات الكتب المقررة السابقة والحالية، وما زلت أتذكر أول زيارة ميدانية لي إذ وجدت معلما في المرحلة المتوسطة في محافظة بيشة يشرح للتلاميذ في الصف الثالث درسا من المقرر عن بيع المنابذة، والملامسة، والحصاة. فازداد يقيني بأن تعطى الأولوية لتطوير أهم مقومات مناهجنا الدراسية وهي (التربية والثقافة الإسلامية) وتوالت الملاحظات المكتوبة تصلني من المعلمين في الميدان، يذكرون لي أمثلة مما ورد في الكتب المقررة، وعلى سبيل المثال: مادة الفقه للصف السادس الابتدائي آنذاك، وما فيها من تفاصيل عن الزكاة: (زكاة الحبوب، والثمار، والنقدين، والركاز)، والطالب في سن لا يعي مما ذكر شيئا، ولا يعقل مفرداتها. عند ذلك استشرت وناقشت كثيرا من ذوي الاختصاص الشرعي والتربوي والنفسي، وراجعت معهم الكتب المقررة في كل الصفوف الدراسية، وخرجنا بتصور حول هذا الأمر في ورقة بعنوان: (مناهج التربية الدينية والحاجة إلى تطويرها)، وهي ورقة أولية لم تكن للتداول، عرضتها علـى بعض كبار المسؤولين في القيادة فاقترحوا تعديلات عليها أجريتها على الورقة.

وزاد بالقول: ثم أخذت موعدا مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في الطائف، وقرأتها كاملة عليه فأجرى تعديلات طفيفة وقال: حقا إنها مناسبة، ورشح لي ثلاثة من العلماء الشرعيين ليعيدوا صياغة مناهج التربية الدينية في التعليم في ضوء ما جاء في هذه الورقة؛ فاجتمعت مع كل واحد منهم، غير أني فوجئت بأن كل واحد منهم يتصل بي ليبدي أسفه، وأنه لا يستطيع التصدي لهذا الأمر لأسباب صارحني كل منهم بها، وحديثي الليلة إليكم يتضمن الأفكار التي وافق عليها سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز - غفر الله له - بالإضافة إلى ما استجد في هذا الأمر.

واستعرض المحاضر ما يراه بهذا الصدد موضحا أن بلاده تميزت - ولله الحمد - منذ عرف فيها التعليم النظامي بالتركيز على تعليم الأحكام الشرعية والعلوم الإسلامية تعليما متصلا من أول خطوة تطأ فيها قدم التلميذ مقر المدرسة إلى آخر سنوات تعليمه عند إتمام الدراسة الثانوية، مضيفا وتحرص السعودية على التميز الذي أصبحت ثمرته جزءا من نسيج الفرد السعودي والمجتمع السعودي، يعرف به الفرد حيث كان، ويعرف الآخرون به مجتمعنا أيا كان نوع علاقتهم به.

ولفت المحاضر إلى أنه قد جرت عدة محاولات لتطوير الدراسات الإسلامية ومناهجها في التعليم العام؛ كان منها قرار وزير المعارف منتصف عام 1416هـ الخاص بتوزيع مقرر القرآن الكريم على جميع مراحل الدراسة، وتدريسه في كل سنوات التعليم العام وتوالت بعد ذلك خطوات التطوير المناسب، ولكنها حتى الآن لم تصل إلى المبتغى الذي كنت وغيري نرجوه.

ورأى أن كل هذه المحاولات الجزئية لم تصل بنا حتى الآن إلى تصور متكامل للتكوين الذي ينبغي أن تكون عليه هذه المناهـج لتحقق الهدف الرئيسي المرجو منها وتحقق معه الأهداف المكملة والعرضية التي تراد تبعا - لا أصالة - من بناء المنهاج على نحو معين، في وقت ما، في مجتمع بذاته.

واعتبر أن الهدف الرئيسي من التعليم العام في بلادنا هو الإسهام - مع وسائل التربية ووسائط التأثير الأخرى - في إعداد الإنسان الصالح، والمواطن الصالح.

وأشار بالقول: وحين نتفق على هذا الهدف الرئيسي للتعليم العام: وهو الإسهام في إعداد الإنسان الصالح، والمواطن الصالح، فإن الأهداف الفرعية والتكميلية والتبعية، والإجرائية (الكفايات اللازمة)، يقدر على صياغتها وترتيبها بترتيب سنوات تنفيذ المنهـج المتخصصون في هذا الشأن، وهم بحمد لله كثيرون في بلادنا، وخبرتهم لا تقل عن خبرة نظرائهم في أي مكان آخر، ومعرفتهم بأوضاع مجتمعنا وماضيه وحاضره تعينهم أكبر العون في أداء مهمتهم على خير وجه.

وأعرب الرشيد عن سعادته بصدور قرار مجلس الوزراء الذي سعدنا به منذ أيام بإنشاء (هيئة تقويم التعليم العام)، وكأن الله - جلت قدرته هيأ لتحقيق دعوة كنت قد ناديت بها منذ أكثر من خمس عشرة سنة لإصلاح التعليم إذ تكونت - آنذاك - لجنة من أهل الفكر والرأي ومختلف التخصصات الفكرية والعملية بقرار من رئيس مجلس الوزراء، وبميزانية مستقلة لدراسة أحوال التعليم، والوقوف على نقاط القوة والتميز فيها للاستزادة منها، والكشف عن مواطن الضعف، وسبل الخلاص منها.

لقد استمر اجتماع هذه اللجنة أكثر من عامين وخلصت إلى تقرير تضمن كثيرا من الاقتراحات، لكن التقرير النهائي لها كان قاصرا عن تحقيق المراد بحكم أن أعضاء هذا الفريق المقوم لم يصلوا إلى مقترحات حاسمة لتباين آرائهم واختلاف توجهاتهم، وللضغوط الكبيرة التي مارسها كثير من الآخرين عليهم فجاءت حلوله وسطية، لا تحقق المطلوب كما ينبغي.

وأوجز الوزير السابق للتربية والتعليم ما ينبغي أن تكون عليه المناهج التي تتحول إلى مقررات دراسية في التربية الدينية في سنوات التعليم العام في نقاط تمثلت في أن تهدف إلى تحقيق إيجاد الإنسان الصالح والمواطن الصالح - كما ذكرت سماته من قبل، وأن يكون الاهتمام بعد العبادات (دون استطراد) بالقيم والسلوكيات الإسلامية التي يجب أن يربى عليها الناشئة، وأن تكون غايتها تعليم المتعلمين ما لا يليق بالمسلم جهله من أصول دينية دون التطرق إلى القضايا التخصصية والخلافية. تناسب الموضوعات المقررة في فروع التربية الدينية مع عمر الطالب وقدراته العقلية وما يحتاج له من مفاهيم دينية في هذا العمر، مع ضرورة عدم الخوض وحشو بعض المعارف البديهية التي هـي معروفة بفطرة الإنسان.. فالإنسان مهما كان عمره لن يتوضأ بماء غلب عليه الحبر، أو المرق، ولن يأكل لحم الفيل، والذ‍ئب، والفأر، ولن يستجمر بعظم أو خشب، إضافة إلى عدم إحالة الطلاب إلى المراجع والمؤلفات الموسوعية كما هو كثير في كتب المقررات الحالية، وعدم الخلط في ذكر الأحكام بين ما هو واجب وما هو مسنون، وعدم الخوض في أمور ليست موجودة الآن بيننا مثل - زكاة الركاز - وهي ما وجد من دفن أهل الجاهلية، وعتق الرقاب، ومثل ذلك كثير، مع أهمية دمج مقررات التربية في مقرر واحد باسم (التربية الدينية)، وتوحيد الكتاب المقرر دون أن يكون هناك كتاب للطالب، وكتاب للطالبة ما دام المحتوى واحد.