طريق الحج قديما.. محفوف بالمخاطر

باحث تاريخي: 4 طرق برية رئيسية فقط كانت مخصصة لقوافل الحجاج قديما.. واتفاقيات ومعاهدات بين القبائل للمعاملة بالمثل

الملك عبد العزيز يهم بتقبيل الحجر الأسود.. لقطة صورها «ستوديو مصر» لإنتاج الأفلام السينمائية عام 1939م
TT

شتان اليوم والأمس، فقبل 100 عام كان طريق الحج محفوفا بالمخاطر، فإن سلم الحاج من خطر الحيوانات المفترسة والكوارث الطبيعية، لم يسلم من قطاع الطرق؛ فقد ينجو وقد يهلك، واليوم أكثر من 2.5 مليون حاج يفدون إلى مكة برا وبحرا وجوا بأمن وأمان وراحة واطمئنان.

وذكرت المصادر التاريخية أن قوافل الحجاج عليها حراسات مشددة في مقدمة القافلة ومؤخرتها، ولها طرق محددة تسلكها، وأيضا جدول زمني محدد، فعند مرور القافلة بأراضي قبيلة معينة يكون هنالك تحصيل رسوم تسمى الإتاوة نظير الحماية من قطاع الطرق، كما أن هنالك اتفاقيات ومعاهدات أبرمتها بعض القبائل بينها وتضمن المعاملة بالمثل.

وذكر الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي، أستاذ التاريخ الإسلامي، أن الحجاج قديما كانوا يفدون إلى مكة عبر 4 طرق برية، وطريق بحري واحد عبر البحر الأحمر، والطرق البرية في الغالب تحدد من العواصم، فمثلا بغداد عاصمة الخلاقة العباسية، أو من دمشق عاصمة الخلافة الأموية، أو اليمن، أو القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية.

وقال الدكتور أحمد الزيلعي الطريق الشامي يمر بعدد من المحطات حتى المدينة المنورة، والطريق اليماني له 3 طرق فرعية، طريق ساحلي يخرج من عدن، وطريق الجادة السلطانية ويمر بحلي ثم يلتقي بالطريق الساحلي، والطريق الثالث من صنعاء ويمر بصعدة ونجران والطائف ثم مكة.

وأكد الزيلعي أن السفر عبر هذه الطرق محفوف بالمخاطر السيول والأمطار وشح المياه، وكانت في حالة أمنية سيئة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قطاع الطرق، ودرج الناس على دفع إتاوات متعارف عليها في حينه، نظير السماح لهم بالمرور عبر ديارهم، وتتمثل في دفع مبالغ نقدية لأمير أو شيخ القبيلة.

وقال الدكتور حسين عايض آل حمد، باحث في التاريخ والآثار: «كان السفر إلى مكة للحج فيه من المشقة والعناء الشيء الكثير قبل توحيد الوطن على يدي صقر الجزيرة الموحد الملك عبد العزيز آل سعود، وكان أقرباء الحاج وأصدقاؤه يودعونه عند نيته الحج وداع الفراق، وذلك من شدة العناء الذي يتجشمه الحاج في رحلة تستغرق أشهرا ذهابا وإيابا يقطعونها بين الفيافي والقفار مشيا على الأقدام، ولا يركب الإبل وغيرها إلا الأغنياء وهم قلة، والغالبية يحملون أمتعتهم على ظهورهم ويمشون على أقدامهم، ومن هم أحسن حالا يجتمعون مع 10 أشخاص تقريبا ويستأجرون جملا يحمل أمتعتهم فقط».

واستشهد الدكتور حسين عايض آل حمد بنجران التي كانت ملتقى طرق للقوافل، فالقادمون من اليمن للحج أو التجارة عند دخولهم حدودها مخيرون بين أمرين، أولا من كانت لهم مع قبائلهم عادة واتفاق فيكون معهم رفيق ويسمى «سير»، يؤمنهم خلال عبورهم بأراضيهم من أي اعتداء، وهذا من دون مقابل، بل يكون الاتفاق والعادة حسب المعاملة بالمثل ثانيا من لا يكون بينهم معاهدة مع قبائل نجران فإنهم يدفعون مقابل المرور إتاوة.

تعتبر فريضة الحج من الفرائض العظيمة عند المسلمين، ولها في نفوسهم مكانة سامية، ولطالما حظيت هذه الفريضة باهتمام خاص واستعداد معين تختلف تفاصيله منذ عصر الأسلام الأول أي قبل 1400عام مرورا بالعصور المتعاقبة وصولا للعهد السعودي الذي أولى الركن الخامس والحرمين الشريفين جل الاهتمام والعناية. فالحج قديما لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنته بالحج الآن بعد الثورة الهائلة التي طالت الأمن والخدمات ووسائل التنقل والترحال بحيث اختصرت رحلة الحج في الوقت والجهد الشيء الكبير من واقع في السابق يستغرق عدة شهور إلى أيام وساعات.

وأبرز ما كان يشغل الحكام والخلفاء في العصر القديم والحديث أمن الحجيج، حيث كانت رحلة الحج قديما محفوفة بالمخاطر والمهالك، وفي هذا التقرير تركيزنا على الجانب الأمني في الحج حيث يروي لـ«الشرق الأوسط» عبد الله بن سعيد الزهراني الباحث المتخصص في تاريخ وآداب الحرم، لمحات تاريخية لأمن الحجيج قديما وحديثا، حيث ذكر الزهراني أن قوافل الحجاج كانت تتحرك على شكل مجموعات يحرسها عدد كبير من الجنود، وكان المحمل المصري والمحمل الشامي والعراقي يصحبها عدد من العسكر والجنود لحمايتها من قطاع الطرق خلال الطريق إلى الحج.

ويستطرد الزهراني في القول إن شبه الجزيرة العربية كانت قبل توحيدها على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (رحمه الله) عبارة عن إمارات ومشيخات متنافرة تسودها الفوضى وعدم الاستقرار، لا يأمن الناس فيها على أموالهم وأنفسهم لكثرة السلب والنهب والسرقة وقطع الطريق، وكان أعظم المتضررين من فقدان الأمن في شبه الجزيرة العربية هم حجاج بيت الله الحرام؛ فقد كانوا عرضة لقطاع الطرق وغارات القبائل التي تمر قوافلهم بها، ويذكر الباحث أن كتب التاريخ سجلت ألوانا ومظاهر مفزعة تعرض لها الحجاج، حتى إن بعض قوافل الحجيج يتم سلبها بالكامل وقتل جميع حجاجها، بل إن السلب والنهب والسرقة في ذلك الزمان كانت تقع داخل حدود الحرم، وقد سجل صاحب كتاب «مرآة الحرمين» أن على من يريد زيارة جبل النور، وهو جبل قريب من المسجد الحرام يوجد به غار حراء، أن يحمل معه الماء الكافي، وأن يكونوا على شكل جماعات يحملون السلاح حتى يدافعوا عن أنفسهم من اللصوص الذين يتربصون بالحجاج لسلب أمتعتهم، وقد ذكر في ذلك الكتاب على لسان كاتبه: «لقد بلغني أن إعرابيا قتل حاجا فلم يجد معه غير ريال واحد فقيل له: تقتله من أجل ريال؟ فقال وهو يضحك: الريال أحسن منه».

ويقول أيضا إن هناك عدم مبالاة من السلطة في ذلك الزمن حيث يقول: «وليلة أن وصلنا من منى إلى مكة حصل قتال بين الأعراب أمام ديوان الحكومة دون أن يبالوا بها، وقد قتل فيها ثمانية».

ويقول الباحث عبد الله الزهراني إن مما سطر في التاريخ للكتاب عن معاناة الحجيج في ذلك الزمان في الأمن ما ذكره محمد طاهر الكردي صاحب كتاب «التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم»، حيث ذكر عددا من الفتن والقتال داخل حدود الحرم خلال موسم الحج، ويذكر أنه في شهر الحج من عام 1326هـ اشتعلت فتنة بين الصفا وباب الوداع، وترامى الطرفان بالرصاص، ونتج عنها قتل عدة أنفار من العسكر والمدنيين.

ولفت الباحث في شؤون الحرم وآدابه إلى أن بعد تلك الأجواء المظلمة والصعبة على ضيوف الله وحجاج بيته، وبعد فقدان الأمن وتجرع الظلم والقهر والهوان والمكوس، جاءت تباشير الصباح، حيث تلطف المولى عز وجل بعباده ورحمهم بأن سخر لهذه البلاد رجلا جمع الكلمة، ولم الشعث، وحكم فيها بشرع الله تعالى، فاجتمع الناس عليه ووحد البلاد، وهو مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (رحمه الله)، حيث عقد العزم منذ توليه الملك على بسط الأمن، وتأمين طرق الحجاج، وتوفير الأمن في الحرمين الشريفين وكل أنحاء البلاد، وقد طبق الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة، مما جعل أحكام الشريعة الغراء تتمكن من قلوب الناس بادية وحاضرة.

ويستطرد الباحث في حديثه قائلا إن الملك عبد العزيز قام بخطوة كبيرة لترسيخ الأمن في طرق الحجاج، وهي إصلاح شؤون البادية، فتحسنت أخلاق الأعراب من الفساد، وتوقف الغزو بينهم، حيث تفهم الجميع أن الملك عبد العزيز قد جعل تأمين طرقات الحجاج وغيرهم جزءا هاما من تأسيس البلاد، ويصف الكاتب والمؤرخ أمين الريحاني تحول الحالة في جزيرة العرب من الخوف والظلم والنهب والسرقة إلى الأمن والرخاء في تلك الفترة ويقول: «إذا كان العدل أساس الملك، فالأمن أول مظهر من مظاهر العدل». ويؤكد كلامه بقوله: «إن المسافرين من قطر إلى قطر، وفي القوافل التي تسير أربعين يوما في ملك ابن سعود من طرف إلى طرف، من القطيف مثلا إلى أبها، ومن وادي الدواسر إلى وادي السرحان، دون أن يتعرض لها أحد من البدو أو الحضر». ويضيف قائلا: «إن القلاع التي بناها الترك في الطريق إلى الحسا هي اليوم مهجورة متهدمة، فالقوافل تسير ثمانمائة ميل شرقا وغربا ومثلها جنوبا وشمالا في ملك ابن سعود، وهي تدعو له بطول العمر وشكر الله».

ويسرد الباحث عبد الله الزهراني أن من إجراءات الأمن التي اتخذها الملك عبد العزيز لتوفير الأمن وبسطه، أنه أمن رؤساء القبائل والعشائر على أنفسهم، وطمأنهم على عوائدهم، مع اشتراط حفظ الأمن في حدود أراضي قبائلهم، وتحميل رؤساء القبائل مسؤولية كل صغيرة وكبيرة تحدث في ديارهم، وفي الحاضر قام بإسناد مهمات الشرطة لحرسه الخاص في مكة المكرمة، ثم أرسل مفارز صغيرة ثابتة من الجنود إلى القرى والمدن لتولي حفظ الأمن، مع تسيير دوريات متنقلة في شتى أنحاء البلاد، وشهد أمير البيان شكيب أرسلان الذي حج في عام 1348هـ، أي بعد خمس سنوات فقط من دخول الملك عبد العزيز مكة المكرمة، قائلا: «أما الأمان فقد توافر في أيام ابن سعود إلى حد لا يتطلع فيه متطلع إلى مزيد، وإنما نرجو دوام هذه النعمة». وقال: «لو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الأمنة الشاملة الوارفة الظلال على الأرواح والأموال التي جعلت صحارى الحجاز وفيافي نجد، آمن من شوارع الحواضر الأوروبية، لكان ذلك كافيا في استجلاب القلوب واستنطاق الألسن في الثناء عليه».

كما يسجل المؤلف عباس متولي في كتابه «مشاهداتي في الحجاز» ما لمسه من توفر الأمن في طرق الحجاج، ويقول بعد أن تعطلت بهم السيارة في الطريق من مكة المكرمة للمدينة المنورة وتجمع الأعراب عليهم حيث قال: «جاء بعض الأعراب يطلبون إحسانا، فتقدم إلي أحدهم يطلب مني صدقة فأعطيت غيره متظاهرا بالغنى والثراء، فقال أعطني يا حاج، فقلت خذ ما تريد من جيبي! فقال: حرام عليك وما جنيت؟ أتريد قطع يدي لا يا بوي لا أطلب شيئا، فقلت: إننا في عزلة عنهم (يقصد بذلك الحكومة)، فقال: إنهم يرونني حتى في داخل هذه المغارة. فدهشت لهذا ورددت قول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه (إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن) وأعطيته ما تيسر، ولقد مكثنا في مكاننا إلى ساعة متأخرة من الليل أحضروا أثناءها الماء واللبن وأكرموا وفادتنا من غير أن يتعرض أحد منهم لنا بسوء». ويقول: «استتباب الأمن بهذا الشكل لم يوجد في الحجاز إلا بعد تنفيذ قانون الله، وإقامة حدود العليم الخبير».

وأضاف الباحث الزهراني أن الملك عبد العزيز (رحمه الله) قام بعد استتاب الأمن للحجاج بإلغاء الرسوم التي تؤخذ على الحجاج باسم رسوم الحج اعتبارا من عام 1371هـ، ومن تمام نعمة الله تعالى على هذا الملك الصالح وعلى هذه البلاد التي تحتضن الحرمين الشريفين، أن رزق المولى عز وجل هذا الملك أبناء بررة سلكوا مسلكه، وترسموا خطاه، حتى أثمرت شجرة الأمن التي زرعها والدهم المؤسس وحافظوا عليها في عهد الملك سعود، ثم الملك فيصل، ثم الملك خالد، ثم الملك فهد (رحمهم الله جميعا)، حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حيث أصبح الأمن في هذه البلاد أنموذجا يحتذى به، وهو مكسب غال ينبغي المحافظة عليه، وقد ساهم توفر الأمن في مكة المكرمة والمدينة المنورة خصوصا، والمملكة العربية السعودية عموما، في تزايد عدد الحجاج، حتى اقترب من 3 ملايين حاج عام 1406هـ، ينعمون بالأمن والأمان ويحجون فرضهم على أكمل وجه.