تباشير الشتاء تعيد للذاكرة مجالس «المشراق» و«المركاز» في السعودية أيام زمان

الحطب قاسم مشترك في معادلة التدفئة قديما وحديثا.. وجلسات الحارة انقرضت نهائيا

الحطب يبقى وسيلة التدفئة الأولى في السعودية قديما وحديثا («الشرق الأوسط»)
TT

حل بداية هذا الأسبوع موسم نوء الغفر، بعد مضي نصف أيام الوسم المحددة بـ52 يوما، ومعه تبدأ تباشير الشتاء في الحلول بهبوب رياحه الباردة، خصوصا على المناطق الشمالية من السعودية، وخلال أيام نوء الغفر الـ13 وما بعدها ستعيش البلاد اضطرابات جوية وفترة تدافع بين المنخفضات الصيفية والمرتفعات الشتوية، وتغييرات مفاجئة في الطقس بين هجمات باردة، ودفء، وأمطار متفاوتة، وفقا لتوقعات خبراء الأرصاد والفلكيين.

وتعيد تباشير الشتاء إلى الذاكرة وسائل التدفئة القديمة مقارنة بالوسائل الحديثة، حيث يظل «الحطب» قاسما مشتركا في معادلة التدفئة في السعودية قديما وحديثا، حيث يحرص السكان على استخدامه كوقود للتدفئة في المنازل أو في البراري أو الاستراحات وأماكن التنزه، ذلك أن التحلق على النار يحقق الحصول على التدفئة بدرجة كبيرة ويجلب المتعة التي لا تضاهيها متعة أمام فاكهة الشتاء، خصوصا إذا اكتملت متعة الشبة بالحطب بإعداد القهوة والشاي والزنجبيل والحليب على نار الحطب أو الفحم، هذا عدا إعداد أكلة الكبسة عليها، والتي لا تضاهيها حاليا أي كبسة، والتي أصبحت تعد على الأفران سواء تلك التي تعمل بالغاز أو الكهرباء، وتزداد أهميتها إذا كانت مطبوخة في قدور مصنوعة من النحاس، رغم المحاذير من استخدامها دون طلائها أو تلميعها، وهي مهنة لا يجيدها إلا «الربابون»، الذين لم يعد لهم وجود حاليا بسبب استخدام السكان للأواني الحديثة التي سحبت البساط من الأواني النحاسية.

وعندما تهب نسمة هواء باردة في مثل هذه الأيام بالسعودية، ومع سقوط أشعة الشمس مع ساعات الشروق الأولى، وعندما يستدير قوس الشمس مرسلا أشعته الذهبية وقت الغروب، يستذكر الكثير من السكان أيام الشتاء، في العقود الماضية، ومجالس المشراق أو الملكاس، حيث يلتقي سكان الأحياء بها وقت الشروق والغروب، أيام الشتاء بحثا عن الدفء، لتتحول هذه المجالس أيام الصيف الساخنة إلى مكان ظليل، يجترون بها أحاديث شبه مكررة ويرمقون المارة، ويبادلونهم السلام والتسليم، كما تعمل هذه المجالس كبرلمانات ورادارات لمراقبة ما يجري في الحي ومنع أي تجاوز يحدث من سكانه.

لقد اختفت كل هذه المظاهر ولم يبق منها سوى ذكريات لا تزال تختزلها ذاكرة الآباء والأجداد بعد أن انقلبت الحياة رأسا على عقب، ولم تعد هي قبل أكثر من أربعة عقود. فمع حلول تباشير الشتاء وسط الصحراء وعلى الشواطئ والمناطق الجبلية، بدأت الأسر في نفض الغبار عن مستلزمات الشتاء بإخراج الملابس الداكنة من خزائنها بعد أن تم إيداعها بها خلال فترة تجاوزت الأشهر التسعة، في حين بدأ هدير أجهزة التكييف الباردة في التوقف، وخضعت المكيفات الصحراوية للتنظيف وإفراغها من المياه، وتغليفها منعا للغبار، ومياه الأمطار المتوقعة من الولوج داخلها، انتظارا لانقضاء الفصل البارد لتعاود هذه الأجهزة ركضها وهديرها مجددا في الصيف المقبل، كما أدارت معظم الأسر أجهزة التكييف الجدارية والمعلقة على درجة عالية لتشغيلها على الهواء الساخن، كما بدأت الأسر في تنظيف المواقد الملحقة في المنازل واختبار مراوح شفط الدخان، كما بدأ بائعو الحطب في المرور على المنازل والمخيمات والاستراحات لإنزال كميات منها لطالبيها في وقت انتشر فيه العديد من بائعي الحطب على الطرقات وأطراف المدن، وداخل الأحياء، لبيع هذه السلعة التي تجد رواجا في مثل هذه الأيام لجعلها وقودا لـ«فاكهة الشتاء»، كما عرضت محلات بيع المستلزمات الشتوية العديد من المواقد ذات الأحجام المختلفة لاستخدامها في التدفئة مع حلول الشتاء.

ونشطت محلات غسيل الملابس استعدادا للفصل البارد، واستقبلت كميات من الأغطية والملابس الشتوية التي حرصت الأسر على تجهيزها باكرا خوفا من مفاجآت دخول الشتاء، ومع تباشير فصل مطير وبارد، كما بدأ أصحاب المخيمات الخاصة وكذا المعدة للتأجير في نصب خيامهم مجددا في المناطق الصحراوية وتجهيزها بالمستلزمات خصوصا دورات المياه المصنوعة من الفيبر غلاس، إعلانا ببدء تشغيل هذه المخيمات لقضاء أيام الشتاء داخلها، كما نشطت محلات تأجير الرحلات من خيام ومواقد وأدوات شواء، ومفارش لتلبية الطلبات المتوقعة على هذه الأدوات من عاشقي البراري والرحلات.

ووسط هذه الأجواء مع حلول الفصل البارد يتذكر كبار السن في مختلف مناطق السعودية كيف كانوا يقضون أيام الشتاء ولياليه قبل دخول البلاد الحياة المدنية الحديثة، وقبل انتشار وسائل التدفئة، التي تعمل بالكهرباء، فعوضا عن المشب الذي توقد فيه النار داخل المجالس من منازل، اختفت المظاهر الشتوية التي كانت سمة المناطق السعودية، ولعل أبرزها ذلك المجلس الذي يجتمع فيه أهالي الأحياء من القرى والمدن يستمدون من أشعة الشمس وقت شروقها وغروبها الدفء، ويطرحون خلاله أحاديث عامة ويعرف ذلك بالمشراق، أو المركاز، ويلتقي فيه السكان صغارا وكبارا ومنتدى يومي، علما بأن المشراق أو المركاز يتحول في الصيف إلى مجلس آخر يعرف باسم (القرنة)، وهي زاوية من داخل الأحياء في مكان ظليل لا تصله أشعة الشمس طوال اليوم.

وغالبا ما تقام المجالس داخل أسواق القرى والمدن، وبعضها أرضية تفرش بسجاد أو بساط أو حتى قطعة من الكرتون، يستند زوارها على جدران طيني أو مسلح مواجه لجهة الشرق، وآخر لجهة الغرب للاستفادة من الشمس في حالتي الشروق والغروب، ممددي الأرجل قابضين على عصيهم المصنوعة من الخيزران، يخططون بها الأرض الترابية ولا ينقطعون عن الحديث، ورد السلام على المارة، ولا تخلو أحاديثهم من مداعبات أو مناكفات، أو حتى التعرض للمارة ممن يجدون عليهم سبيلا، بنقدهم واتهامهم بالبطالة بجلوسهم بالمشراق أو المركاز، وهنا يستذكر أحد كبار السن قصة طريفة كان بطلها أحد رفقائه في جلسة المشراق، عندما كانا يستندان على جدار منزل في حي معكال وسط الرياض وفجأة سقط في حضن رفيقه قط أسود يبدو أن توازنه اختل عندما هم بالقفز من منزل إلى منزل مجاور، فقال له صديقه: «سم بالله»، ليأتي الجواب بكل برود: «لن أسمي بل يسمي القط هوه اللي طايح». وعادة تصنع جلسة المشراق أو المركاز من الخشب أشبه بالكراسي في مكان ثابت داخل الحي أو يعمل بالطوب والاسمنت، وفرشه بالسجاد.

وفي شأن ذي صلة، شهدت الرياض وبعض المدن السعودية منذ عام قيام الجهات البلدية بإنشاء مناطق ترفيهية داخل الأحياء تم تجهيزها بمضامير وأرصفة للمشاة وملاعب وملاه، وزودتها بمقاعد للجلوس والراحة، واستخدمها البعض كما هي جلسات المشراق أو المركاز، مما أعطى للحارة نبضها القديم الذي اختفت مظاهره بعد أن هجرها السكان إلى أحياء جديدة ومساكن أنيقة وواسعة ومتباعدة، لا يعرف السكان فيها بعضهم بعضا، ولا توجد بين ساكنيها جلسات ولا لقاءات إلا من خلال رؤية البعض في المسجد أو السوبر ماركت أو مصادفة في الشارع مكتفين بالتلويح باليد.