رئيس المنظمة العالمية لطب الأسرة: غياب مفهوم الرعاية المنزلية فاقم الأمراض السارية في الخليج

د. نبيل القرشي في حوار لـ «الشرق الأوسط»: التوزيع الدولي طبيب لكل 2000 مريض

يعاني المجتمع من ضعف إدراكه للدور الهام لطبيب الأسرة في المنظومة الصحية... وفي الإطار د. نبيل القرشي رئيس المنظمة العالمية لأطباء الأسرة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا («الشرق الأوسط»)
TT

وضعت الكثير من الدراسات المسحية «طب الأسرة» في الخطوط الأمامية لمكافحة الأمراض، في وقت يكتسب فيه «طب الأسرة» أهمية كبرى لدوره الأساسي في تقديم الرعاية الصحية للمواطنين وفق التوزيع المناطقي للسكان، بهدف توفير عناء الانتقال للبحث عن مصدر طبي معالج لهم، إلا أن هذا النوع من الرعاية لم يجد التطبيق الفعلي في منطقة الخليج العربي، مما نجم عنه الكثير من المشاكل الصحية، وتفاقم الأمراض السارية، خاصة عند الأطفال وكبار السن.

الدكتور نبيل ياسين القرشي، رئيس المنظمة العالمية لأطباء الأسرة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يكشف في حديث لـ«الشرق الأوسط» جوانب الخلل في مفهوم الرعاية الصحية الأولية وطب الأسرة، والتجارب الدولية في تقديم هذا النوع من الخدمة الطبية، ومدى مساهمتها في تقديم رعاية طبية للمرضى، وتخفيف معاناتهم دون عناء الذهاب المستشفيات الرئيسية المزدحمة.

فإلى نص الحوار:

* بداية ما هو مفهوم الرعاية الصحية الأولية؟

- تعرف منظمة الصحة العالمية، مفهوم الرعاية الصحية الأولية، على أنها الرعاية الصحية الأساسية، القائمة على وسائل علمية وعملية ومقبولة اجتماعيا، والتي يقدمها الجهاز الصحي لكافة أفراد المجتمع وعائلاته وبمشاركتهم الكاملة، على أن تناسب المجتمعات والحكومات التي تطبقها، من حيث التكلفة بحيث تحافظ على تطورها في كل مرحلة من مراحلها، مع مراعاة الاعتماد على الذات، وتحديد المشاكل الصحية الخاصة.

وتمثل الرعاية الصحية الأولية المستوى الأول، لاتصال الأفراد والأسرة والمجتمع، وهي المدخل الأساسي للنظام الصحي العلاجي، والذي يجعل من الرعاية الصحية أقرب ما يمكن لأماكن معيشة وعمل الأفراد، وهي تمثل أول عنصر أساسي، لعملية الرعاية الصحية المستمرة، وتشمل مجموعة من الخدمات الأساسية المقدمة، التي توفر علاجا ذا تكلفة مردودة الأثر، للمشاكل الصحية الهامة لأفراد المجتمع، إلى جانب الوقاية من الأمراض، وتحسين السلوك الصحي بطريقة متكاملة ومقبولة اجتماعيا، مع التركيز على مشاركات الأفراد والمجتمعات المحلية.

وترتكز خدمات قطاع الرعاية الصحية والأولية، على مفهوم طب الأسرة، والذي هو اختصاص منفرد بما تفرضه سعة وعمق وتنوع مسؤوليات طبيب الأسرة، فهو يبنى على أساس متخذ من اختصاصات الطب المختلفة، ولكنه يكون وحدة واحدة متناسقة ملتحمة، تجمع بين العلوم الإنسانية والسلوكية من ناحية، ومن ناحية أخرى بين العلوم البيولوجية السريرية المعروفة.

وتشتمل خدمات الرعاية الصحية الأولية وطب الأسرة علاج الأمراض، والمشاكل الشائعة بين كل أفراد العائلة رجالا ونساء وأطفالا. والاكتشاف المبكر للكثير من الأمراض، وذلك عن طريق الكشف العام والكشف الدوري، لبعض الفئات وبرامج المسح الطبي الميداني، حسب أهمية المشكلة الصحية الموجودة أو المتوقعة. ومتابعة وعلاج الأمراض المكتشفة بعد تشخيصها، ومنها الأمراض المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم وارتفاع سكر الدم، والأمراض المعدية، مثل النزلات المعوية والتهابات الرئة، والأمراض النفسية، وبخاصة الأمراض العصبية، مثل القلق والمخاوف، العناية بالأم، قبل وأثناء الحمل، وأثناء وبعد الولادة، لتحقيق المعادلة الصحية المرجوة، العناية بالطفل، متابعة نموه وتطوره من خلال الزيارات المنتظمة، وتسجيل الملاحظات في بطاقة متابعة الطفل السليم، مع تقديم التطعيمات الأساسية للطفل، إحالة الحالات التي تحتاج إلى عناية خاصة، إلى تخصصها المناسب، التوعية والتثقيف الصحي وهذه من أهم واجبات طبيب الأسرة، خاصة في مجال التعريف بأسلوب الغذاء الصحي المتوازن.

* كيف تقيم واقع الرعاية الصحية في منطقة الخليج وتحديدا في السعودية؟

- الحديث عن طب الأسرة وطبيب الأسرة له أهمية خاصة، لأن وزارات الصحة في منطقتنا ما زالت متأخرة كثيرا في تنفيذه، ولكن للأهمية الكبيرة لطبيب الأسرة، ليس في السعودية فحسب، بل على نطاق العالم، وخصوصا في زمننا الحاضر، وانتشار أمراض ومشاكل صحية لم تكن على هذا المستوى، من ارتفاع معدلات الإصابة والخطورة، كما كان عليه الحال سابقا، كما يتطلب سرعة تقديم الرعاية الصحية وشموليتها، ومتابعتها ليس على مستوى المريض أو المصاب فحسب، بل على مستوى الأسرة، حتى يمكن معرفة وتحديد أبعادها، ومن ثم معالجتها بصورة صحيحة، وهذا هو الدور الذي يقوم به طبيب الأسرة، وقد انتبه مسؤولو الخدمات الصحية في الكثير من بلدان العالم، إلى أهمية هذا الموضوع في البلدان المتقدمة والنامية على السواء؛ لأن ذلك ينعكس على صحة المجتمع بأسره، علما بأن تحقيق هذا النظام أو المشروع، لا يحتاج إلى إمكانيات مادية ضخمة كما هو الحال بالنسبة لخدمات الرعاية الصحية بالمستشفيات، بل يحتاج إلى إمكانيات مادية تتماشى مع إمكانيات وموارد كل دولة، وهذه من المميزات الفريدة لهذا النظام، وقبل كل شيء فإن ذلك يحتاج في مبدئه إلى القناعة الأكيدة، والرغبة الصادقة والجدية في التطبيق، من أجل صحة ومصلحة الفرد والمجتمع. وقد ثبت للعالم، أن الدول التي طبقت الرعاية الصحية، من خلال الطبيب العام أو طبيب الأسرة نجحت وتطورت بسرعة، والدول التي لم تطبق نظام طب الأسرة، ما زالت في المؤخرة في خدماتها الصحية والطبية.

* كيف تقيم ثقافة المواطن السعودي فيما يختص بأهمية وجود طبيب للأسرة؟

- قبل أن أتحدث عن ثقافة المواطن السعودي، فيما يخص أهمية طبيب الأسرة فسوف أكون صريحا، وهو أن المجتمع الطبي نفسه بما في ذلك وزارة الصحة، وقبل المواطن السعودي يفتقد كثيرا إلى الثقافة والمعرفة بأهمية طبيب الأسرة، حيث إن الثقافة السائدة لدى الأطباء، وخصوصا في الدول العربية ومن ضمنها المملكة، هو ثقافة العلاج السريري أي العلاج بالمستشفيات، وعليه، نحن في حاجة إلى بذل الكثير من الجهد، لتصحيح هذا المفهوم من خلال إعداد وتنفيذ برامج تثقيفية للأطباء والمجتمع على السواء، لترسيخ ثقافة أهمية طبيب الأسرة في المجتمع السعودي.

طبيب الأسرة يمكن تعريفه، بأنه هو ذلك المتخصص الذي لديه المقدرة والكفاءة العالية لرعاية جميع أفراد الأسرة، برعاية شمولية شخصية ومستمرة، وتنسيق مع الآخرين لرعاية مريضه، ولجميع أفراد الأسرة بغض النظر عن الجنس أو العمر أو العضو المصاب، وسواء كانت المشكلة اجتماعية أو عضوية أو نفسيه أو روحية، فهو يسعى لاستقرار وصيانة صحة من يرعاهم من أسرة. إنه الطبيب المعالج، الذي يتولى مسؤولية معالجة جميع المرضى، أطفالا ومراهقين وبالغين وكبار السن رجالا ونساء، ويشمل ذلك النواحي الاجتماعية والجسدية والنفسية، وهو الطبيب القادر على استخدام أعضاء فريق الرعاية الصحية الآخرين، مثل الممرضات والاختصاصي النفسي واختصاصي التغذية واختصاصي العلاج الطبيعي والاختصاصي الاجتماعي وفني المختبر وجميع الأعضاء الآخرين. كما أنه هو القادر أيضا على تنشيط وتفعيل عملية تأسيس الرعاية الصحية المنزلية، من أجل تقليل الضغط على المستشفى والمبادرة بتقديم الرعاية الصحية بالمنزل. إن طبيب الأسرة يمكنه القيام وبسهولة بتقديم التثقيف الصحي، وتقديم الكثير الذي يؤدي إلى تعزيز الصحة. وباختصار، يمكن القول إن طبيب الأسرة هو ذلك الطبيب الذي يقوم بتقديم الرعاية الصحية في مفهومها العام، الذي يرتكز على الصحة بدلا من المرض والخدمات الشاملة (وقائية، علاجية، تأهيلية، وتطويرية) بصورة مباشرة ومستمرة لجميع أفراد الأسرة، أي أن طبيب الأسرة هو من يقوم بتقديم الرعاية الصحية لكل فرد من أفراد الأسرة وبصورة مستمرة من ميلاده إلى وفاته.

* كيف يمكن توزيع الخدمات الصحية بشكل أمثل على المناطق؟

- توزيع الخدمات الصحية يعتمد على الكثافة السكانية، ونوعية الأمراض المنتشرة في كل منطقة على حدة، وكل ذلك يجب أن يكون مبنيا على دراسات وإحصائيات دقيقة، وفي هذا الخصوص يجب الاهتمام بالمناطق الريفية، من حيث توفير الخدمات الصحية فيها، تفاديا لما يلاقيه مواطنو هذه المناطق من عناء السفر للمدن الكبرى لتلقي العلاج، ولا شك أن بذل المزيد من الاهتمام بمراكز الرعاية الصحية الأولية وطبيب الأسرة وتوفير الإمكانيات البشرية والمادية التي تمكنها من أداء واجبها على الوجه المطلوب يجب أن يلقى كل الاهتمام من جانب مسؤولي الخدمات الصحية، لأنه سيرتقي بمستوى صحة الناس، وتقل حاجتهم للمزيد من المستشفيات. وأعتقد أن توزيع السكان بمعدل 1500 – 2000 شخص لكل طبيب يعمل في الرعاية الصحية الأولية، سوف يجعل توزيع الخدمات الصحية الأساسية عادلا ويصل للجميع.

* ما هي أبرز الأمراض التي يمكن السيطرة عليها؟

- هناك الكثير من الأمراض التي يمكن السيطرة عليها، فمنها أمراض حادة ومزمنة معدية أو غير معدية، مثل أمراض الجهاز التنفسي العلوي والسفلي، والأمراض غير الوراثية وأمراض الملاريا واللاشمانيا والبلهارسيا والحميات والأمراض الناتجة عن سوء التغذية، كما أن هناك أمراضا مزمنة غير معدية يمكن السيطرة عليها، مثل ما يطلق عليها أمراض العصر، كارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب والشرايين، وذلك من خلال الالتزام الدقيق بنمط الحياة الصحي والالتزام بالعلاج الدوائي والنظام الغذائي، وكذلك من خلال برامج تثقيفية صحية للمرضى والمجتمع، ويمكن للمدارس والجامعات والكليات أن تلعب دورا كبيرا في هذا الخصوص.

* ما رأيك في مراكز الرعاية الصحية الأولية في السعودية، وما هي الطريقة الأفضل لتطويرها؟

- هذه المراكز تلعب دورا أساسيا في توفير الرعاية الصحية للمواطنين، ولكنها للأسف تفتقر في معظمها إلى الإمكانيات البشرية والمادية والأجهزة والمعدات، التي تمكنها من تقديم الخدمة المطلوبة لأن معظم الميزانية تنفق على المستشفيات. كما يجب أن يكون العمل في هذه المراكز معتمدا على نظام الفريق الصحي المتكامل، وليس على الطبيب بمفرده، ولا بد من البدء فورا في تطبيق نظام طبيب لكل أسرة. وفي اعتقادي أننا لا يجب أن نقيد أنفسنا بنمط مراكز الرعاية الصحية السائد حاليا، بل يمكن أن نوفر الرعاية الصحية الأولية، والطبيب المسؤول عن الأسرة من خلال بناء عيادات، توفر جميع المطلوب، ولو حتى في شقة في بناء متعدد الأدوار.

* ما رأيك في فكرة تطبيق التأمين الطبي على المواطنين في السعودية؟

- لا شك أن تطبيق التأمين الطبي على المواطنين السعوديين هو فقط طريقة من طرق تغطية تكلفة العلاج، فمعروف أن شركات التأمين لا تقدم الخدمة، بل تكون وسيطا ماليا لتقديم هذه الخدمة، وهو شيء إيجابي وهام وسيعود بالفائدة على المواطن، ولكن يحتاج ذلك لوضع أنظمة ولوائح تضمن توفير الخدمة المطلوبة وبجودة عالية، ويمكن ذلك إذا طبق مشروع طبيب لكل أسرة، والاستفادة من مراكز الرعاية الصحية الأولية كمراكز مقدمة للخدمات الصحية.

* بصفتكم رئيسا للمنظمة العالمية لأطباء الأسرة لمنطقة شرق حوض البحر المتوسط ما هي أبرز الخطوات والمقترحات التي قمت بها؟

- أهم ما قمنا به، هو تأسيس فرع المنظمة العالمية لأطباء الأسرة، لمنطقة شرق حوض المتوسط، وعدد الدول الأعضاء المعتمدين حاليا (9) دول، هي، المملكة العربية السعودية، مملكة البحرين، الإمارات العربية المتحدة، عمان، سوريا، الأردن، مصر والعراق. وقد قمنا بعقد عدة لقاءات ومؤتمرات علمية بالمنطقة في تخصص طب الأسرة.

* هل هناك نية لمشروع صحي خليجي؟

- نعم، هناك فكرة مشروع شبكة الصحة الخليجية، وشبكة الصحة السعودية، وهو مشروع يهدف لأن يمتلك أطباء الرعاية الصحية الأولية المراكز الصحية، وأحلم بأن يتحقق لمنطقتنا أسلوب مختلف للتعاقد مع أطباء الأسرة، بحيث يكون هناك التعاقد المباشر بين وزارة الصحة والأطباء أصحاب العيادات، أو المراكز الصحية من خلال سلة الخدمات المعمول بها في الكثير من دول العالم، مثل بريطانيا وأستراليا وكندا واليابان وكوريا، وهي تجارب رائدة.

* ماذا ينقص طب الأسرة في الخليج وكيف تقيم تجارب دول الخليج من حيث التطبيق الأفضل؟

- أعتقد أن طب الأسرة في الخليج مشروع في بداية المشوار، ويحتاج إلى المزيد من الجهد، وقبل ذلك، القناعة من جانب المسؤولين بوزارة الصحة بدول الخليج، بأهمية وفائدة هذا المشروع. وأهم ما ينقص طب الأسرة، هو تطبيق طب الأسرة بنفس الطريقة التي نجحت بسببها دول العالم الأخرى.

* ما هي مقترحاتكم لتطوير طب الأسرة؟ وماذا سيوفر من ناحية تحسن الخدمات الصحية؟ وما هو العدد الفعلي لاحتياج المملكة للأسرة الطبية؟

- إذا طبق نظام الرعاية الصحية الأولية وكذلك (مشروع طبيب أسرة لكل أسرة) بجدية، ووجد الاهتمام اللازم من مسؤولي الصحة، لن يكون هناك حاجة لأعداد كبيرة من الأسرة في المستشفيات لأن هناك الكثير من الأمراض والحالات يمكن علاجها في المراكز الصحية، وكذلك من قبل أطباء الأسرة دون الحاجة لمراجعة المستشفيات أو التنويم فيها.

وقد كانت لي تجربة شخصية عند زيارتي عام 1994 لكندا، للتعرف على النظام الصحي وتجربتهم في تطبيق طبيب الأسرة، حيث أدى تطبيق نظام طبيب الأسرة، إلى انخفاض عدد المرضى وتقليل الحاجة لأسرة المستشفيات؛ مما أدى إلى أن اتخذت وزارة الصحة الكندية في معظم المناطق تخفيض 50% من الأسرة وأعيد استخدام المبالغ المالية لتطوير الرعاية الصحية الأولية.

وأقترح أن يتم البدء في توزيع السكان، على أطباء الرعاية الصحية الأولية، بحيث يكون لكل طبيب عدد من الأفراد ما بين 1500 – 2000 شخص وأن يتم وضع نظام وقائمة خدمات يقدمها الطبيب وأن يتم التعاقد المباشر مع الأطباء، وإلغاء نظام توظيف أطباء الرعاية الصحية الأولية بنظام الراتب الشهري، لأنه غير مجد للمريض.

* هل ترى أن اعتذار المستشفيات بحجة عدم توفر سرير أمر مقبول وفقا للمعايير الدولية؟

- لو طبقنا نظام الرعاية الصحية، لانتفت الحاجة إلى توفر المزيد من الأسرة، حيث إن تطبيق نظام طبيب الأسرة بالصورة المطلوبة، سيحد بصورة كبيرة من الحاجة لتوفير مزيد من الأسرة بالمستشفيات.