«جدة التاريخية».. طائر الفينيق الذي لن ينتفض من الرماد بمفرده

الواقع لا يسر.. وماضيها يغوي المنقبين

جانب من مباني المنطقة التاريخية في مدينة جدة («الشرق الاوسط»)
TT

ليست المنطقة التاريخية في مدينة جدة بطائر الفينيق الأسطوري الذي ينتفض من الرماد كل ما انتهى عمره، فهي وإن كانت حية في قلوب عشاق هذه المدينة التي تفتح ذراعيها لما يلقيه البحر كأم حنون، إلا أنها أصيبت بالاهتراء والهزال في السنوات الأخيرة.

ما لم يسقط بالحرق.. سقط بغيره من مباني هذه المنطقة التي يعود بعضها إلى مئات السنين، فانتشار الحرائق وكثرة الانهيارات وتحول كثير من مباني هذه المنطقة إلى مستودعات وملاجئ للمخالفين والوافدين، كان كافيا ليغير كثيرا من معالمها ويهدد تاريخها بالأفول.

وفور ما تولي وجهك شطر المغرب إلى حارة البحر التي كانت تحتضن في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي مرافق ميناء جدة وسقالة القوارب وساحات الجمرك ومرسى السنابيك، أو عندما ترفع بصرك إلى الشمال حيث حارة الشام التي تحتل الجزء الشمالي من المدينة العتيقة، ثم اذرف طوعا من إحدى عينيك دمعة على الشوارع والأزقة التي كانت مرصوفة بدقة وعناية تشي بجمال غابر، وستذرف عينك الأخرى كرها من بقايا الأتربة والركام المتناثر حولك.

وإن كان حاضر جدة لا يسر الناظرين، إلا أن ماضيها المعتق لا يزال يسكر ذاكرة «الجداويين»، ويغوي هواة التاريخ والتراث العالميين، وهو ما دعا الدكتور فالي إيريك الباحث الفرنسي عضو جامعة السوربون في باريس رئيس كرسي حوار الحضارات التاريخي، إلى استعراض هذا التاريخ مع رواد النادي الأدبي الثقافي في مدينة جدة من باحثين وأكاديميين ومهتمين بعراقة عروس البحر الأحمر.

وقدم الدكتور فالي، أول من أمس، سردا لتاريخ مدينة جدة خلال 600 عام خلت، بين عامي 800 و1400هـ، مثيرا باختياره هذه الفترة من نشوء مدينة جدة جدلا مع حضور محاضرته التي احتضنها النادي الأدبي في جدة أول من أمس.

وأكد الباحث الفرنسي فالي، الذي يجيد لغات عدة وقدم محاضرته باللغة العربية، عراقة تاريخ جدة، مشيرا إلى أنها مدينة عالمية كانت منذ القدم مفتوحة على كل الشعوب وشهدت «العولمة» الأولى في ذلك الوقت بين شعوب العالم الذي جاؤوا إليها في التاريخ الإسلامي قاصدين مكة المكرمة للحج والعمرة من خلال جدة.

واستعرض الدكتور فالي تطور هوية جدة بين القرنين السادس والثامن الهجريين كمدينة إسلامية عرفت بسورها وبواباتها التاريخية، مستعرضا موقع «شرمة» في المرفأ التجاري على المحيط في اليمن الذي كان محورا للتجارة والبضائع لقارات العالم وارتباطه مع محور مرفأ جدة على البحر الأحمر، وهو ما أعطى الأهمية التجارية والاقتصادية لمدينة جدة وانفتاحها على العالم.

وأكد الأديب أحمد باديب في مداخلة له بالمحاضرة على تاريخ جدة الممتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، مستشهدا بالصراع على موقع جدة بين الفرس والرومان قبل الميلاد.

ولفت الباحث فالي إلى أن مدينة جدة قاومت الصراعات الدينية والطائفية التي لم تعرفها رغم وجود محاولات في التاريخ «بحسب قوله» لإدخالها في صراعات بين السنة والشيعة! فيما أوضحت الدكتورة هدى عبد الغفور أمين، الباحثة في تاريخ جدة، بعد انتهاء المحاضرة، أن مدينة جدة لم تشهد في تاريخها أي صراع ديني وطائفي.

وتطرق الدكتور عبد الله مناع إلى علاقة باريس بمدينة جدة، من خلال اتفاق الصداقة والتعاون الذي بدأ أيام عمدة باريس - آنذاك - جاك شيراك وأول أمين لجدة المهندس محمد سعيد فارسي.

وأوضح المهندس جمال برهان، عضو هيئة المهندسين ومؤسس مجموعة من أجل إنسان جدة، لـ«الشرق الأوسط»؛ أن موقع جدة التاريخي وارتباطه بالميناء، يعتبر تاريخيا وقديما من أفضل مواقع المدن الساحلية في العالم حسب دراسات مدن العالم من الجانب البيئي.

وألمح إلى أن منطقة البلد وبيوت جدة التاريخية والحارات التي كانت داخل سور جدة، لم تتعرض خلال كارثة السيول إلى ما تعرضت له الأحياء السكنية الحديثة شمال جدة، مما يؤكد موقعها البيئي الذي تم اختياره بعيدا عن مجاري الأودية والسيول والأودية الواقعة في جنوب وشمال سور جدة القديم، وتمتد من سيول أودية جبال الطائف إلى البحر الأحمر، مبديا في الوقت ذاته أسفه على ما تتعرض له المدينة حاليا من إهمال يهدد معالم تاريخها العريق.