مخططات شمال جدة.. أخطاء جسيمة تؤدي لتصدعات في المباني.. والأمانة تخلي مسؤوليتها

ملاك يتذمرون.. مهندسون يحذرون.. جيولوجيون يبادرون.. عقاريون يتهمون

المياه تغمر أحد الشوارع بمنطقة شمال جدة («الشرق الأوسط»)
TT

شهدت مدينة جدة خلال السنوات الـ6 الأخيرة قفزة عمرانية توسعت على أثرها المدينة أفقيا.. وشمالا وشرقا.

ونظرا لطبيعة تربة جدة، التي تختلف عن باقي المدن من حيث كونها أرضا رخوة تحمل في باطنها المياه الجوفية والسطحية، وما تتطلبه عملية البناء على هذه الأراضي من مواصفات خاصة ومراقبة دقيقة لحماية المباني والطرقات من مخاطر هذه المياه، فإن المخططات التي أقيمت في هذه المنطقة، لم تراع تلك المتطلبات الإنشائية، فوقعت أخطاء مدمرة وصلت حد تصدعات في المباني، تنذر بما هو أخطر.

مخطط المروة أحد هذه المخططات، الذي أنشئ قبل 6 سنوات، ويبلغ عدد قاطنيه نحو 200 ألف نسمة، ونسبة المواطنين فيه 90 في المائة. في هذا المخطط الذي يعد من الأهم في جدة، شهد تزايدا في منسوب المياه الجوفية، وتسبب ذلك في دخولها إلى خزانات المياه، وكذلك خزانات الصرف الصحي، مسببة أضرارا على البنايات، أبرزها تشققات اعتبرها مهندسون «نذير انهيار للمباني».

وعلى الرغم من محاولة قاطني هذا المخطط تأمين مساكنهم من خلال طرق أبواب المسؤولين والمعنيين بالأمر، إلا أن شكواهم لن تجد سبيلا للنقاش، ولم يجدوا سوى تبادل الاتهامات بين الجهات المعنية، أمام مرأى من مبان تزداد تصدعا وشوارع لم يبق منها سوى فراغ المساحة. في هذا الخصوص يرى الدكتور زيد الفضيل أحد سكان حي المروة والمعروف بمخطط الحرمين، أن من أكبر المآسي التي يعيشها سكان الحي تجاهل الأمانة لهم، وعدم إعطائهم حقهم الذي فرضه ولي الأمر لهم من واجب الخدمة وكريمها. ويرى أن المشكلة الأعمق التي باتت تحز في نفوس كل أولئك المواطنين، استمراء الأمانة رمي إشكالاتها على الآخرين، وتنصلها الدائم من أي مسؤولية ولو معنوية بحكم وظيفتها كراعية للعمل البلدي في مدينة جدة، وعدم اهتمامها بإيجاد حلول على الرغم من ارتفاع صوت الشكاوى وتكرر تصدع المباني.

وبين الفضيل أن الحي منذ شهرين وأكثر قد انتهى من مشكلة الصرف الصحي، ولم يتبق سوى إعادة سفلتة الشوارع وترميم الأرصفة وهو عمل متعلق بالأمانة، وعلى الرغم من بساطة الأمر المتبقي، إلا أن الصمت والتجاهل هما الحل الذي سلكته الأمانة مع هذا الحي، وهو ما يثير الأسئلة في أذهان سكان الحي. وتساءل الفضيل عما إذا كان هناك خلل إداري هو المعوق للأمانة؛ لأن تقوم بواجبها إزاء حي لم يعرف أهله ما هو ذنبهم لكي تتجاهلهم الأمانة إلى هذا الحد، على الرغم من قربهم من المطار الدولي ووقوع حيهم في طريق رئيس للحرمين، والأهم أنه ليس حيا عشوائيا أو قديما؛ بل هو حي نموذجي على الأصعدة المختلفة.

* اتهامات بالتهاون

* وردا على ذلك أوضح الدكتور عبد العزيز النهاري المتحدث الرسمي لأمانة جدة أنه ومع التقنية الحديثة بإمكان أي شخص أن يبني حتى في داخل البحر؛ شريطة توافر المواصفات الخاصة بهذه المباني، وما يحدث أن الأمانة تصدر ترخيص البناء اعتمادا على خرائط يقدمها المكتب الهندسي مع المالك، ويفترض أن يكون التصميم آخذا في الاعتبار فحص التربة، وبناء على هذا الفحص تمنح الأمانة تصريح البناء.

وبين أن التصميم في المناطق الرخوة أو التي توجد فيها مياه جوفية تختلف أساسات المباني فيها عن أساسات المباني في الأراضي الصلبة، مشيرا إلى وجود حلول هندسية فنية للتعامل مع طبيعة الأراضي، حيث قال: «هناك تهاون بين المالك ومكتب الاستشارات الهندسية والمقاول، وهذا التهاون في الاتفاق على وضع قاعدة خرسانية تمنع خروج المياه الجوفية ذات التكلفة العالية، ينتج عنه تصدعات في المباني لعدم وجود هذه القاعدة».

أما عن تشققات الطرق داخل المخططات السكنية؛ بسبب المياه الجوفية وانهيارها، يؤكد النهاري أن المشكلة سببها ارتفاع منسوب المياه الجوفية في هذه المناطق التي لا بد من تخفيضها قبل الشروع في تخطيط الطرق، مؤكدا أن هذه العملية ليست من دور الأمانة، وإنما هي دور شركة المياه الوطنية. وبين أنه بعد أن تنتهي شركة المياه الوطنية من خفض منسوب المياه الجوفية وعمل توصيلات وأنابيب الصرف الصحي تقوم الأمانة بعد ذلك بسفلتة الطرقات، وأن ما يحدث في مخططات الشمال مثل مخطط الحرمين لا يمكن للأمانة أن تقوم بعملية السفلتة قبل أن تتم المعالجة من قبل شركة المياه الوطنية.

وعن تساؤل الشارع السعودي عما إذا كان هناك تنسيق مشترك بين أمانة جدة وهيئة المساحة الجيولوجية لدراسة طبيعة الأرض قبل بيعها من قبل الأمانة كمخططات سكنية، أكد طارق أبا الخيل المتحدث الرسمي لهيئة المساحة الجيولوجية عدم وجود تنسيق رسمي بين هيئة المساحة الجيولوجية والأمانة، منوها بأن هيئة المساحة الجيولوجية لن تتوانى في حال طلب منها عمل دراسة مباشرة وتقارير على المخططات قبل بيعها من الناحية الجيولوجية.

ولفت إلى وجود أنواع من المياه تشكل خطرا على المباني في مدينة جدة، وهي تلك المياه التي ترتفع مناسيبها لتصل إلى أساسات المباني وتتميز بارتفاع عام في تركيزات العناصر الكيميائية بالمياه الجوفية، خصوصا في كل من عنصري الكلور والكبريتات.

وكشف عن دراسات قامت بها هيئة المساحة الجيولوجية ورسم خرائط الكنتورية لمستويات المياه الجوفية في مدينة جدة لوحظ فيها تشكل الاتجاه العام للجريان في المدينة من الشرق إلى الغرب، ووجود خطوط تساوي المناسيب شبه منتظمة ومتوازية في الجزء الواقع من الشرق إلى طريق المدينة.

واعتبرت الدراسة المنطقة الواقعة بين طريق المدينة والبحر منطقة متأثرة بالكتل الصخرية الكلسية والشعاب المرجانية الممتدة على طول الساحل والتي تلعب دورا بارزا في تغيير حركة اتجاه السريان للمياه الجوفية إلى البحر، وتمثل منطقة تذبذب في حركة المياه. وأوضح أن ظاهرة ارتفاع منسوب المياه الجوفية في مدينة جدة شملت بعض الأحياء في المدينة، خصوصا في الجزء الشمالي منها، والتي كانت ترتفع إلى درجة ظهورها على السطح «خصوصا في المناطق المنخفضة»، حيث ظهرت تجمعات سطحية للمياه في عدد من الأحياء داخل المدينة وتعد بعض هذه المناطق مناطق ردم ولها نفاذية عالية؛ نتيجة وجود رواسب وديانية مدفونة وتكوينات عميقة من الحجر الجيري.

* إمكانية البناء

* وعن إمكانية البناء في مثل هذه المناطق أكد أبا الخيل صلاحية البناء على هذه الأراضي إذا كانت هناك دراسات هيدرولوجية لها توضح ذلك، ويتم عمل معالجة المياه الجوفية المخلوطة بمياه الصرف وعمل شبكات الصرف الصحي وإلغاء حفر البيارات واستخدام الإسمنت المقاوم للأملاح في تنفيذ مشاريع البناء المختلفة. وبين أن تسربات المياه المختلفة ووصولها إلى خزان المياه الجوفية أدت إلى تذبذب وخلل في التوازن الطبيعي المتوقع لمنسوب المياه الجوفية، مشيرا إلى أنه في الأحوال العادية يرتفع منسوب المياه بعد فصل الأمطار وحصول التغذية المباشرة وينخفض خلال فصل الصيف، إلا أن وجود تسربات مياه من المصادر المختلفة قلل الفارق في منسوب المياه بين فصل التغذية والانحسار.

وأوضح أن التذبذب في مستوى المياه الجوفية يشير إلى كمية التغير الحقيقي في مخزون الطبقات المائية وحركة المياه الجوفية، ما أدى إلى خلخلة التربة ويحدث أثرا سلبيا في البنية التحتية، وبالتالي في المباني.

وعن الحلول التي يمكن تبنيها أوضح أبا الخيل وجود حلول تبنى على دراسات هيدروجيولوجية وهيدرولوجية تفصيلية على المنطقة، ومن الحلول العاجلة: معالجة المياه الجوفية، وعمل شبكات للصرف الصحي، وإلغاء حفر البيارات، واستخدام الإسمنت المقاوم للأملاح في تنفيذ مشاريع البناء المختلفة. وقال: «نحن نلاحظ الآن أن المشاريع الضخمة والأعمال التي تقوم بها الدولة ما زالت تحت الإنشاء وسوف تكون - بإذن الله - دعامة قوية لحل المشكلات خلال سنتين».

* أعذار واهية

* من جهته رفض عبد الله الأحمري رئيس اللجنة العقارية في الغرفة التجارية تبرئة الأمانة وإخلاء مسؤوليتها، مبينا أن جميع دول العالم لديها قياسات ومواصفات هندسية خاصة لتخطيط المدن وجميع المكاتب الهندسية لديها تعرف اشتراطات الأمانة. ويرى أن التهاون الذي يحدث بين المالك ومكتب الاستشارات الهندسية والمقاول الذي ذكرته الأمانة كلام ليست له أي مصداقية وأعذار واهية، مبينا أن المكاتب الهندسية تعرف اشتراطات الأمانة، وأن المصادقة على خرائط المكتب الهندسي لا تتم إلا بموافقتها، وأن هذه المصادقة لا تتم إلا بعد التدقيق في الخرائط، والتي من بينها شرح تفصيلي لأساسات المباني.

وبين أن تربة مدينة جدة تختلف عن أي مدينة أخرى من حيث امتصاصها المياه، سواء كانت هذه المياه جوفية أم سطحية أم متسربة من مياه الشرب أو الصرف الصحي التي لم تتشربها الأرض، مبينا أن التعامل مع طبيعة هذه التربة بطريقة علمية سليمة، من خلال استخدام الإسمنت المقاوم والعوازل في الأعمدة لكي لا تسبب لها تصدعات على المدى الطويل.

واعتبر أن الأمانة المسؤول الأول والأخير عن توعية المواطن والتدقيق على المهندسين من خلال عدم قبول خرائط ومواصفات دون المستوى المطلوب للجودة لما تحتاجه منطقة جدة، سواء كانت في الغرب أو الشرق أو وسط البلد. وأكد أن المواطنين أصبح لديهم تحفظ شديد في السكن في المخططات الجديدة، والشراء فيها؛ ما تسبب في حالة عزوف ملحوظة وركود في حركة البيع تسببت في خسائر شديدة لمن اشتروا في بداية بيع المخططات.

* مخالفة للنظام

* وأرجع المهندس جمال برهان عضو هيئة المهندسين مشكلة مخطط الحرمين إلى سنوات عدة قبل اعتماده مخططا سكنيا من أمانة جدة. وبين أن الموقع كان معروفا لسكان جدة بتسرب المياه الجوفية المقبلة من شرق جدة مع المسار الطبيعي، وارتفاعها مع تأثير مياه المجاري في بحيرة المسك التي استمرت سنوات طويلة ولم يتم وقفها والتخلص من مياهها الملوثة إلا عام 2010 بعد وقوع كارثة سيول جدة التي كشفت معطيات تسرب المياه الجوفية مع مياه الصرف الصحي؛ لعدم وجود شبكات تصريف في معظم الأحياء السكنية بجدة.

وحسب المخطط العام لمدينة جدة ودراسة مجاري المياه السطحية والجوفية أوضح برهان أن مخطط الحرمين كان معتمدا له أن يكون تصريح البناء فيه دوران فقط مماثلا لحي الصفا المجاور له، إلا أن سكان جدة فوجئوا باعتماد المخطط عمائر 6 أدوار، محملا بذلك أمانة جدة المسؤولية، وبين أن شوارع المخطط المعتمدة صغيرة ولا تتناسب مع اعتماده مخطط عمائر وارتفاع الكثافة السكانية فيه مع ارتفاع أعداد الوحدات السكنية التي أدت إلى الضغط على الخدمات، وعدم وجود شبكة للصرف الصحي في المخطط؛ ما أدى إلى تفاقم المشكلة ووضوح تسرب المياه في شوارع المخطط واختلاط المياه الجوفية مع مياه الصرف الصحي، التي أصبحت تشكل خطورة بالغة على أساسات المباني.

ومن خلال الحالات التي تم الإبلاغ عنها من سكان أحد العمائر العام الماضي 2012 وعاينها الدفاع المدني مع مؤشر ارتفاع حالات التصدعات المكشوفة، وبالنظر إلى شكاوى المواطنين المستمرة من تشققات العمائر في حي الحرمين، والتي تم رفعها إلى بلدية المطار التابع لها المخطط، يرى برهان ضرورة وجود تقرير فني تقوم به أمانة جدة من خلال المكاتب الهندسية الاستشارية للكشف على حالات أساسات المباني ومعرفة الأسباب ووضع بدائل للعمل على حماية السكان من مخاطر التشققات المستمرة.

وأكد أنه حتى اللحظة لم يتم الإعلان عن التقرير ونتائجه، لافتا إلى أنه من خلال المؤشرات الأولية لتقرير الاستشاري الذي تم تكليفه من الدفاع المدني ومالك العمارة التي تعرضت للتشققات والتصدعات العام الماضي وإخلاء سكانها باتخاذ الإجراءات الاحترازية من الدفاع المدني، اتضح وجود تشققات قطرية على جميع الشقق؛ ما يدل أنها آيلة للسقوط، إلى جانب وجود خلخلة في التربة؛ نتيجة تسربات المياه الجوفية ومياه الصرف الصحي وتأثيرها في أساسات المباني.

وعلق على ما ذكرته أمانة جدة عن تهاون ملاك المباني مع المكاتب الهندسية في وضع قاعدة خرسانية تمنع خروج المياه الجوفية قائلا: «يرتبط ذلك بتصريح البناء ومراقبة البلدية التي لا ينتهي دورها عند تقديم تصريح البناء فقط؛ بل التأكد من التزام المالك بما جاء في تصريح البناء من اشتراطات، والالتزام بسلامة إنشاءات المباني».

* كارثة بيئية

* وحذر المهندس من الوضع الحالي ووصفه بالخطير، وأنه يرتبط بكارثة بيئية تحت سطح الأرض لا يراها السكان، مع استمرار تسرب وارتفاع المياه الجوفية إلى شوارع المخطط، وزيادة أعداد السكان في الوحدات السكنية للمخطط عن السنوات الماضية، وشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة من أمانة جدة والدفاع المدني والمكاتب الهندسية التي قامت بالإشراف على إنشاءات المباني بالإضافة إلى المقاولين.