المشرف العام على مركز التراث العمراني الوطني: مدننا تفتقد للهوية المعمارية

د. مشاري النعيم في حوار مع «الشرق الأوسط» عن الهوية الثقافية للمدينة السعودية

التراث العمراني السعودي فيه النواة الثقافية.. وأكسير المدن الذي يضمن لها الخلود هو ارتباطها بنواتها الثقافية («الشرق الأوسط»)
TT

أكد الدكتور مشاري بن عبد الله النعيم، أستاذ تاريخ ونظريات ونقد العمارة بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الدمام، المشرف على مركز التراث العمراني الوطني، أن الهوية المعمارية للمدينة السعودية تعرضت خلال السنوات الأخيرة لعمليات تشويه معماري أفقدتها الروح الاجتماعية، وجعلت «المدينة السعودية مجهدة ومنهكة، لا تعمل على راحة من يسكنها».

وأضاف النعيم أن التجارب المعمارية التي قطعت الصلة مع الموروث الثقافي، والتراث العمراني جعلت المدينة «تزيد من التشتت الذهني ولا تصنع السعادة، تزيد من الضغط النفسي ولا تحث على التواصل الاجتماعي».

يعتبر النعيم أحد أبرز أساتذة نقد العمارة، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في النقد المعماري من جامعة نيوكاسيل، ويعمل مشرفا عاما على مركز التراث العمراني الوطني في الهيئة العامة للسياحة والآثار، وأستاذ النقد المعماري بقسم العمارة بجامعة الدمام، كما عمل مستشارا للعديد من المشاريع المعمارية والتخطيطية الكبرى في السعودية.

«الشرق الأوسط» التقت بالدكتور مشاري النعيم في الدمام، شرق السعودية، وأجرت معه الحوار التالي:

* هل ترى أن ثمة «هوية» ثقافية للنمط المعماري في المدينة السعودية؟

- هناك إشكالية كبيرة تواجهها الشخصية المعمارية في المدينة السعودية فحتى هذه اللحظة لا يمكن أن نقول إن هناك هوية معمارية سعودية، فرغم أننا نملك تراثا معماريا عميقا لكنه للأسف الشديد لم يتم اكتشافه ليسهم في تحديد ما يمكن أن نسميه «الملمح الثقافي» الذي يمكن أن يقودنا إلى بناء هوية للمدينة السعودية.

دعني أطرح سؤالا هو: إذا كان هناك من يدعي أن هناك هوية معمارية للمدينة السعودية فما هي أهم خصائص هذه الهوية؟ في المكسيك مثلا يمكن أن نتعرف على خصائص العمارة المكسيكية المعاصرة بسهولة شديدة لأن المعماريين المكسيكيين خلال العقود الأخيرة حاولوا أن يكتشفوا المشترك الذي يميز الثقافة المكسيكية وحولوا هذه الخصائص إلى منتج معماري صار يترسخ مع الوقت في أذهان الناس حتى تحول إلى «هوية» بصرية وثقافية وجمالية متعددة ومتجددة وقابلة للتطوير. نحن بحاجة إلى مثل هذا العمل المهم حتى نرسخ الهوية المعمارية في مدننا.

* لماذا هذا الصعود السريع لمدن الإسمنت المكلفة والمتعارضة مع البيئة المحلية، على حساب الهوية المعمارية المحلية؟

- المسألة هنا ليست صعودا لمدن الإسمنت، ولكن هي تغيير في الحالة الثقافية للمجتمعات وتحولها من مجتمعات بسيطة مرتبطة ببيئتها المحلية إلى مجتمعات معقدة ذات إيقاع سريع وبالتالي فإنها لا تملك الوقت للممارسات الاجتماعية السابقة، ولا يهمها أن تتفاعل مع المحيط. مدن الإسمنت هي محصلة لرسملة المدينة وتحولها إلى سلعة تباع وتشترى، على عكس السابق حيث كانت المدن والأمكنة تقيم بما يبنى عليها وبمن يسكن تلك المباني ولم تكن العقارات سلعة اقتصادية كما هو الحاصل الآن. تراجع الهوية المعمارية ليس سببه فقط «الإسمنت» فهو مادة بناء ولكن سببه الرئيس هو تغير «روح المجتمعات» التي صارت تسكن مدن الإسمنت.

* كيف ترى صورة المدينة الحالية؟ ألا تفتقد للرؤية الجمالية، كما تبتعد عن التراث الحضاري؟! - المدينة السعودية اليوم مجهدة ومنهكة، لا تعمل على راحة من يسكنها، مدينة تزيد من التشتت الذهني ولا تصنع السعادة، تزيد من الضغط النفسي ولا تحث على التواصل الاجتماعي. يحدثني أحد الزملاء ويقول لي «مدننا كئيبة» ويزيد بقوله، حاولت أن أفهم لماذا هي كئيبة ولم تسعفني الإجابات.. الكآبة في بنيتها العمرانية أم في تركيبتها الاجتماعية أم في النمط الاقتصادي الذي تنتهجه، المهم أنها كئيبة، فقلت له: عندما تشعرك المدينة بالكآبة فهذا يعني أنها يجب أن تتغير، وأن استمرارها بنفس الإيقاع يعني «موتها» ونحن لا نتمنى أن تموت مدننا.

* كيف غدت منازلنا وأحياؤنا واجهات «تجريبية» لمهندسين لا يمتون للتراث والثقافة المحلية بصلة.. بحيث افتقد الشكل المعماري في المدن السعودية للرؤية الجمالية، واتسم بأشكال متنافرة؟

- هذه قصة طويلة بدأت مع بداية تحديث المدينة السعودية، وفي وقت لم يكن هناك متخصصون سعوديون يعون قيمة تراثهم وبيئتهم ويعملون على المحافظة عليها. الكارثة الحقيقية هي أنه بعد أن أصبح لدينا المتخصصون في العمارة فقدنا الهوية بالكامل، بل فقدنا الرغبة في التفكير في هذه الهوية وتجاهلنا الجذور التي تربطنا بهذه الأرض. تخيل معي أننا نملك كليات عمارة في جميع مناطق المملكة ولم تقم أي منها بأي دراسة حول تراثنا العمراني، وقد مر على بعضها تقريبا نصف قرن والمحصلة لا شيء.

بيوتنا التي تتحدث عنها تعبر عن الخواء الذي نعيشه وعن الفراغ الأكاديمي الذي يميز جامعاتنا.

* وما هي الحلول؟

- لن أحدثك عن حلول نظرية فما هو مطلوب أكثر من الكلام ويحتاج إلى فعل ويتطلب أن يقوم مجموعة من المعماريين والمثقفين السعوديين بالعودة إلى جذورهم الثقافية ويعيدوا اكتشافها من الجديد ويتبنوها كميثاق وطني معماري يلتزمون به جميعا. نحن نحتاج إلى هذا «الميثاق» اليوم قبل الغد.

* نلاحظ أن المدينة الأوروبية عميقة التواصل مع جذورها الثقافية من الناحية المعمارية، بقدر ما هي متصلة بالتطور الحضاري.. لماذا يحدث لدينا هذا الانفصام؟

- عندما تتواصل المدينة مع جذورها التاريخية تستطيع أن تجدد من نفسها كل مرة، فهي تملك النبع والمصدر الذي يساعدها على التجدد، ولكن عندما تنقطع عن هذا الينبوع تجف وتموت وتندثر، المدينة الأوروبية دائمة الشباب رغم أنها مدن تقع في القارة العجوز ومدننا التي لم تعرف الحداثة إلا من بضعة عقود بدت عليها علامات الشيخوخة. أكسير المدن الذي يضمن لها الخلود هو ارتباطها بنواتها الثقافية وهذه النواة موجودة في قلبها، فعلينا أن نفتش في قلب المدينة السعودية ونستخرج هذه النواة.

* ما هي خصائص الهوية المعمارية التي تحرصون على تأكيدها؟

- ليس من السهولة بمكان الكشف عن خصائص الهوية المعمارية، هذه الخصائص تحتاج إلى دراسة وبحث وممارسة واتفاق وتدوير وإعادة اكتشاف وعمل شاق ومضن. الهوية المعمارية لا تصنع بمجرد الكلمات، لذلك فإنني لن أدعي أني أعرف خصائص الهوية المعمارية السعودية، لكني أستطيع أن أوجه المهتمين إلى كنوز التراث العمراني الذي ملأ ربوع بلادنا ففيه توجد هذه الخصائص وبفهمه يمكن أن نخرج بتوجهات ومفاهيم ونتعلم بعض الأساليب ونستخلص بعض التجارب.

تراثنا العمراني فيه النواة الثقافية التي نبحث عنها لكن يجب أولا أن نتعلم كيف نقرأه ونفك رموزه ونكشف أسراره. يجب أولا أن نتعلم كيف نحبه ونعتز به فهذا هو المدخل الحقيقي له.

* احتفل العالم، ومن بينه السعودية، في 18 أبريل (نيسان) الماضي بيوم التراث العالمي، وتحدثتم في مركز التراث العمراني الوطني عن مبادرة «البعد الحضاري» التي تبنتها الهيئة العامة للسياحة والآثار، ما هي هذه المبادرة؟ وماذا تستهدف؟ وهل جرى اعتمادها وتوفير الميزانية التي تحتاجها؟

- مبادرة البعد الحضاري في طور الاعتماد وهي خطة ومشروع متكامل سوف ينقل المملكة ثقافيا نقلة جديدة على مستوى البنية التحتية التي تحتاجها النشاطات الثقافية من متاحف ومراكز وقرى تراثية وغيرها. هذه المبادرة تهدف بشكل مباشر إلى بناء روح المواطنة والانتماء للمكان للمواطن السعودي، فالهدف هو تعزيز «الهوية الوطنية» وتعميق المرجعية الثقافية لهذه الهوية.

* دعوتم لتنشيط دور «مؤسسات المجتمع المدني» في الحفاظ على التراث.. كيف يمكنها العمل إذا كانت إدارة التخطيط العمراني في الأمانات تغض الطرف عن التشويه المعماري في وجه المدن؟

- إذا كانت الأمانات تغض الطرف - كما تقول - عن التشويه، فأعتقد أن المجتمع يتحمل جزءا من المسؤولية لأن من يقوم بهذا التشويه هم أفراد المجتمع، يجب أن نعرف أن الأمانات والبلديات لا تملك المقدرة البشرية والمادية الكافية لمراقبة كل صغيرة وكبيرة تحدث في المدينة لذلك فأنا أعول دائما على المواطن المثقف الذي يعي مسؤولياته ويقوم بدوره الكامل في مجتمعه فهو الحارس الأول لمدينته وهو الذي يجب أن يدافع عنها ولا يسمح لنفسه ولا لغيره أن يعيش في بيئة عمرانية مشوهة.

* ما هي استراتيجية مركز التراث العمراني الوطني في المحافظة على مواقع التراث العمراني وإعادة تفعيلها من جديد؟

- الخطة الوطنية للتراث العمراني هي خطة طموحة ونعمل من اليوم على تنفيذها بدعم من الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، ورئيس المركز الوطني للتراث العمراني. وتتكون الخطة من 8 مجالات أساسية وكل مجال له تفرعات عدة تبدأ بالسجل الوطني للتراث العمراني وهو يشمل مرحلة التوثيق والتصنيف وتسجيل المواقع والمباني التراثية.

أما المجال الثاني فهو تنمية وتطوير مواقع التراث العمراني ونحن نعمل الآن على عدد كبير من القرى ومن الأسواق الشعبية ومراكز المدن وعدد كبير من المباني.

والمجال الثالث هو الترميم والتقنية وكودات البناء والإجراءات التنظيمية وتأهيل المقاولين والمكاتب الهندسية العاملة في مجال التراث العمراني. والرابع يهتم بعملية التعليم الأكاديمي وتطوير برامج تعليمية متخصصة في مجال التراث العمراني وهو يشمل كذلك عملية التدريب الميداني وتدريب أفراد المجتمع على ترميم مواقع التراث. المجال الخامس يركز على التوعية المجتمعية وتأهيل المجتمعات المحلية وبناء مجموعات أصدقاء التراث العمراني.

والسادس يهتم بالشركاء المؤسسين مثل البلديات والجهات الحكومية الأخرى، فقد صدر قرار بإنشاء إدارة عامة للتراث العمراني في وزارة الشؤون البلدية والقروية وبدأت الأمانات والبلديات في إنشاء إدارات إقليمية ومحلية للتراث العمراني يقابلها إدارات للتراث في الهيئة العامة للمناطق. العمل مع الشركاء طموح ونعتقد أنه هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يوصلنا إلى أهدافنا.

المجال السابع هو إدارة وتشغيل مواقع التراث العمراني. والثامن هو تمويل تطوير مواقع التراث والاستثمار فيها وقد تم أخيرا إنشاء شركة الفنادق التراثية، والمجال مفتوح في المستقبل لبناء سوق متكاملة تهتم بمواقع التراث العمراني في المملكة.