الاستشارات الأسرية السعودية.. دعوة إلى زيادة الرقابة على المكاتب «العشوائية»

دخول غير المتخصصين ساهم في تزايد حالات الطلاق والتفكك الأسري

الكتاب الإحصائي لوزارة العدل سنة 1432هـ يقدر حالات الطلاق في السعودية بنحو 34 ألف حالة، بمعدل 96 صكا يوميا («الشرق الأوسط»)
TT

مع تسارع إيقاع الحياة وتزايد الضغوط الاجتماعية التي يشهدها المجتمع السعودي، أصبح البحث عن الاستشارات الأسرية يمثل حاجة لدى الأفراد في مواجهة المشكلات الاجتماعية، إلا أن الفوضى التي يشهدها القطاع جعلت من هذه الاستشارات سلاحا ذا حدين، مع توجه غير الاختصاصيين لتقديم الاستشارات الأسرية بلا علم ودراية كافية، وهو ما يحذر منه اختصاصيو هذا المجال، مؤكدين أن لذلك آثارا بالغة في رفع معدلات التفكك الأسري وتزايد حالات الطلاق.

ويرى الدكتور عبد العزيز الدخيل، أستاذ الخدمة الاجتماعية بجامعة الملك سعود، خلال حديث مع «الشرق الأوسط»، بأن «الاستشارات الأسرية أصبحت مهنة لكل من هب ودب»، واصفا الدخلاء على هذا المجال بأنهم يمارسون «الشعوذة الاجتماعية»، وأضاف «نحن في عصر التخصص، وهذا يقتضي أن يكون الشخص مؤهلا مهنيا وعلميا لتقديم هذه الاستشارات، كي يستطيع مساعدة أفراد الأسرة ونقلهم من وضع لآخر، مستخدما الأدوات والمهارات والمعارف اللازمة».

وأكد الدخيل أن الإشكالية في مجال تقديم الاستشارات الأسرية تكمن في استسهال الكثير من غير المتخصصين الدخول بهذا المجال، إلى جانب ما سماه بـ«الجهل» من قبل بعض الإدارات والوزارات بشأن توظيف غير المؤهلين في ذلك، وحذر الدخيل من دخول أصحاب الشهادات الوهمية في مجال تقديم الاستشارات الأسرية، الذين يقدمون أنفسهم في موقع «تويتر» بصفتهم معالجين أسريين، ومن ثم تتم استضافتهم في الإعلام ويصدقهم الناس، حسب قوله.

وتابع بالقول «البعض يتوقع أن الخطأ الاجتماعي أمره سهل، لكني أراه أخطر من الخطأ الطبي، ولدينا أدلة كثيرة، من أمثلة ذلك الحادثة الشهيرة لأحد من يدعون التخصص والذي ساهم في طلاق زوج من زوجته على الهواء مباشرة في التلفزيون». ويضيف «بسبب خطأ اجتماعي قد يتم تقدير وضع أحد الأشخاص بأنه سليم بينما هو مريض نفسي، فيخرج للمجتمع ويرتكب حماقات يضر بها من حوله، وقد يقتل هنا زوجته أو أبناءه أو يقتل نفسه، وحصلت هذه الحالات».

وتتفق المستشارة الأسرية هيفاء صفوق، وهي رئيسة الأخصائيات في المركز الخيري للإرشاد الاجتماعي بالرياض، مع ما يراه الدخيل قائلة «ظهرت مراكز ومكاتب استشارات أسرية في الآونة الأخيرة، لكنها للأسف تفتقد الأسس العلمية المهنية، حيث نجد هذه الاستشارات الأسرية تبث في القضايا والمشكلات الأسرية بتدخلات سريعة غير مدروسة، تعتمد فقط على الاجتهادات الشخصية بعيدا تماما عن المنهج والنظرية، وللأسف بعض منها يبحث عن الربح المادي السريع، والضحية هم الأفراد».

وتابعت المستشارة الأسرية بالقول «للأسف تتم هذه الاستشارات بطريقة المخدر الموضعي المؤقت للمشكلة، دون الوصول لجذورها، مما يجعل العملاء يترددون باستمرار على هذه المراكز بحثا عن الحل وفي نفس الوقت يعانون من الاستنزاف من الناحية المادية، وأيضا يعانون من الناحية النفسية بسبب طول معاناتهم التي لم يجدوا لها حلا».

وأكدت رئيسة الأخصائيات بمركز الإرشاد الاجتماعي بالرياض أن بعض المشكلات الزوجية والأسرية يتم التعامل معها من قبل هذه المراكز والمكاتب الاستشارية بطرق فوضوية وغير مدروسة تعتمد على الاجتهادات الشخصية والتدخل في حق تقرير المصير وإصدار التدخلات دون الاطلاع على الأسباب الحقيقية للمشكلة، حسب قولها، ودون التعرف على سمات وأنماط هؤلاء العملاء، وعدم معرفة ردود أفعالهم وحيلهم الدفاعية، متابعة بالقول «النتيجة هي الوصول إلى تفاقم هذه المشكلات وعدم حلها».

تجدر الإشارة إلى أن الدكتور يوسف العثيمين وزير الشؤون الاجتماعية اعتمد قبل نحو شهر القواعد التنفيذية للائحة التنظيمية لمراكز الإرشاد الأسري الأهلية في السعودية، وتضمنت القواعد التنفيذية للائحة التنظيمية 35 مادة تهدف إلى تنظيم عمل مراكز الإرشاد الأسري الأهلية، وتفعيل دورها في المجتمع، وتمكينها من تقديم خدمات إرشادية متخصصة تسهم في بناء واستقرار الأسرة، ورعايتها اجتماعيا، ونفسيا، وتربويا، وترابط المجتمع بجميع فئاته.

وأوضحت القواعد التنفيذية الاشتراطات في مالك المركز، ومن أبرزها أن يكون سعوديا وأن لا يكون موظفا حكوميا، وأن يتولى الإشراف العام على المركز بنفسه وتحت مسؤوليته المباشرة، وأن يكون لكل مركز مدير متفرغ يشترط فيه الجنسية السعودية والحصول على البكالوريوس أو أعلى منها، مع الإلزام بتوفير القوى اللازمة في العملية الإرشادية، والأعمال الإدارية والكتابية من السعوديين فقط، كما اشترطت في مقدمي العملية الإرشادية أن يكونوا ممن يحملون مؤهلات في (الإرشاد الأسري - الإرشاد النفسي - العلاج الأسري - الإرشاد الاجتماعي - علم الاجتماع - علم النفس - الخدمة الاجتماعية - الطب النفسي)، إضافة إلى تخصصات أخرى متى توافرت الخبرة اللازمة واشتراطات أخرى وضحتها القواعد التنفيذية.

ووفقا لبيان وزارة الشؤون الاجتماعية الصادر مؤخرا، فإن القواعد التنفيذية خصصت عددا من المواد التي تبين العقوبات لمن يخالف أي حكم من أحكام هذه اللائحة وقواعدها التنفيذية، والقرارات الصادرة فيها، وأبرز تلك المخالفات تقديم خدمات الإرشاد الأسري عبر مركز إرشادي غير مرخص له من الوزارة أو من خلال غير المتخصصين وذوي الخبرة وفق الشروط الواردة في القواعد التنفيذية للائحة.

ويتفق هذا التوجه مع المطالب التي ينادي بها اختصاصيو الإرشاد الأسري، حيث تعود المستشارة هيفاء صفوق للقول «علينا أولا إيجاد مراكز متخصصة في هذا المجال قائمة على أسس ونظريات علمية، يلي ذلك الاعتماد على الأساليب العلمية في كيفية التعامل مع هذه المشكلات والقضايا، وثالثا توفير كوادر من المعالجين والأخصائيين والمستشارين الخاضعين لتدريب مهني جيد وخبرة في هذا المجال، ومعرفة مدى توازنهم النفسي والانفعالي».

وتشدد صفوق على ضرورة «أن تكون هذه المكاتب والمراكز الاستشارية قائمة على الدراسة والتشخيص ومن ثم العلاج»، قائلة «لن تكون هناك حلول لكل هذه القضايا والمشكلات إن كانت أسرية أو زوجية أو طفولة دون دراسة كــــــــافية ووافية ومن ثم وضع الفرضيات والأسباب لهذه المشكلات وعند التعرف عليها نستطيع بعد ذلك إيجاد خطة علاجية مدروسة وواضحة وسهلة التطبيق، وهنا نكون تخلصنا من الاجتهادات الشخصية والتدخلات السريعة، ونكون أدينا الأمانة على أكمل وجــــــه».

وفي السياق ذاته كشفت دراسة تعد الأولى من نوعها في السعودية حول المعايير المهنية لممارسة الإرشاد الأسري، بأن عدد المتخصصين في الخدمة الاجتماعية وعلم الاجتماع وكذلك علم النفس لم يتجاوز 28 مفردة في مراكز ومكاتب الإرشاد والاستشارات الأسرية «الحكومية والخيرية»، بنسبة قدرها 8.12 في المائة للخدمة الاجتماعية، و3.8 في المائة لعلم الاجتماع، و19.2 في المائة لعلم النفس، وأن هناك شحا كبيرا في عدد المراكز، على الرغم من المحاولات الكبيرة للنهوض بهذا المجال، وإيجاد عدد من المراكز، لكنها لا تزال محدودة العدد.

وأبانت الدراسة التي أجرتها الباحثة جميلة العمري وحصلت بموجبها على درجة الماجستير من قسم الدراسات الجامعية بجامعة الملك سعود، سنة 2010، بأنه لا توجد جهة محددة مسؤولة عن حصر هذه المراكز، إلى جانب أن النتائج أوضحت عدم وجود اتساق في آليات العمل في المؤسسات المختلفة التي يمارس فيها الإرشاد الأسري، وقد تكون تلك المؤسسات تتمتع بأنظمة إدارية جيدة تنظم العمل، وتكفل حقوق العمل وحقوق العاملين، لكنها تفتقر لوجود أنظمة مهنية مقننة.

وأوصت الدراسة بضرورة التوسع في البرامج الجامعية المتخصصة في الإرشاد الأسري لمواجهة احتياج المجتمع، مع حث طلاب الدراسات العليا على تناول مواضيع «الإرشاد الزواجي والأسري»، وإيجاد برامج دبلومات متقدمة في هذا المجال للممارسين، إلى جانب المطالبة بضرورة إنشاء هيئة أو جمعية متخصصة للإرشاد الأسري، تتولى حماية حقوق المرشدين الأسريين، وحقوق العملاء، ويتم عن طريقها منح تراخيص لمزاولة الإرشاد الأسري.

يشار إلى أن وزارة العدل السعودية كشفت ضمن كتابها الإحصائي الأخير والصادر لعام 1432هـ عن إجمالي صكوك الطلاق والخلع والفسخ المثبتة في محاكم المملكة، الذي قدرته بما يزيد على 34 ألف صك، بمعدل 96 صكا يوميا، وبينت أن حالات الطلاق سجلت ما يربو على 29 ألف حالة طلاق، بنسبة 86 في المائة، وأن حالات الخلع بلغت 1468 حالة، بنسبة 4.2 في المائة ورصدت 3382 حالة فسخ نكاح، بنسبة 9.8 في المائة من إجمالي القضايا المرصودة بالمحاكم الشرعية بالبلاد.

بينما رصد الكتاب أعلى عدد لحالات الطلاق والخلع والفسخ في العاصمة الرياض، حيث بلغ 10460 حالة، بنسبة 30.2 في المائة من إجمالي الحالات في المملكة، تليها منطقة مكة المكرمة، حيث بلغت 9996 حالة، بنسبة 28.9 في المائة، في حين أن أدنى عدد لتلك الحالات كان في منطقة الحدود الشمالية بعدد 319 حالة، وبنسبة 0.9 في المائة.

ويرى اختصاصيو الإرشاد الاجتماعي أن الأرقام تعكس الحاجة الملحة لمعالجة حالة الفوضى التي يشهدها قطاع تقديم الاستشارات الأسرية، لترميم حالات التفكك الأسري والمحافظة على كيان الأسرة من التشتت والضياع، الأمر الذي يسهم بدوره في حفظ المجتمع من المشكلات النفسية وانعكاساتها على التركيبة الأسرية والاجتماعية.