60 عاما من التغيرات تلقي بثقلها على الرياض وطبائع سكانها

التعدد الثقافي أحدث انصهارا محليا وصف بـ«الوحدة الاجتماعية»

الرياض كما تبدو الآن («الشرق الأوسط»)
TT

عقب مضي أكثر من نصف قرن على صدور المرسوم الملكي بإنشاء أمانة مدينة الرياض في عهد الملك سعود بن عبد العزيز 1953، في خطوة للنهوض بالعاصمة السعودية وتحويلها إلى عاصمة عصرية، طرأت عليها جملة من التغييرات الاجتماعية والثقافية لسكانها لا تقل أهمية عن حجم التغيير الذي طرأ على بنائها وطرقاتها.

ستون عاما مضت منذ أن استقدمت العاصمة التي قدر عدد سكانها حينها بـ300 ألف نسمة طائفة من المهندسين والخبراء في فن المعمار قدروا حينها بحسب أمين سعيد في كتابه «النهضة السعودية في عهد الملك سعود» بـ80 ألفا، حشدوا من جميع الأقطار العربية، آخذة في شق شوارعها وطرقاتها التي تغزل بها الكاتب، «الأشجار على جانبي الشارع والحديقة في الوسط تنبت فيها الزهور والرياحين لا فرق بين شارع الملز وشارع البطحاء وشارع الشميسي».

هذه التغيرات كانت كفيلة بأن تلقي بثقلها على الرياض، وبالأخص طبائع سكانها وأحلامهم وأنماطهم المعيشية، وهي المدينة المصنفة كإحدى أسرع المدن نموا في العالم، حتى قدر عدد سكانها اليوم بسبعة ملايين و500 ألف نسمة.

وتحدث الكاتب أمين سعيد عن التغيرات الحاصلة في المملكة خلال زيارته لها في خريف 1960، بقوله: «ولقد ساعد انتشار التعليم وازدياد عدد المتعلمين، مع شدة الإقبال على مطالعة الكتب العصرية، على تكوين رأي عام متنور متحرر في السعودية، يزداد عدد قادته ودعاته يوما بعد يوم، بمن ينضم إليهم من المتعلمين الذي يعودون بعد إتمام دراستهم، ولا ريب أن مثل هذا التطور يساعد على بلوغ مستقبل أفضل وأمثل، آخذا بسنة النشوء والارتقاء».

فبات طفل الأمس الذي قضى لهوه ولعبه في حارات حيه مع رفاقه ورفيقاته بما أتيح له من وسائل حينها، ليس هو ذاته اليوم بعد أن استبدل بكراته وعرائسه «الآي باد» و«البلاكبيري» و«الواتس آب»، وكذلك هو الحال مع الشباب السعودي بجنسيه الذين تعددت علاقاتهم مع المجتمعات الخارجية إثر العولمة، حتى باتت ما يشبه التحول الاجتماعي الجذري على مختلف جوانب حياة العاصمة.

وبحسب الدكتور صالح السبعان، أستاذ إدارة الأعمال في جامعة الملك عبد العزيز والباحث الاجتماعي، فإن المجتمع السعودي اليوم بات يتمتع بتعدد ثقافاته، محدثا بذلك انصهارا ثقافيا محليا وصفه بـ«الوحدة الاجتماعية»، مضيفا أن المجتمع السعودي لا يختلف عن غيره بتأثره وتأثيره، ليتولد عن ذلك «قيم هجينة» من جراء تعدد الثقافات إثر التنمية والانفتاح، وبات يشهد تحولات متسارعة مبررة لدى العامة نتيجة تفوق السعوديين في استخدام وسائل التقنية الحديثة وخدمات الإنترنت، إضافة إلى اعتبارهم أكثر سكان المدن سفرا وترحالا.

وتابع: «وهو ما انعكس على البناء والبشر، فلم تعد المنازل تشترط مدخلي الرجال والنساء المنفصلين، ولم تعد حجرات استقبال الزوار منعزلة عن بعضها بأبواب خشبية، واستبدل بما يسمى (المقلط)، وهو الغرفة المخصصة لتناول الطعام، سفرات غربية مع كل متعلقاتها وطقوسها التي أبرزها تناول الطعام بالملعقة عوضا عن (اليد)، التي أصبح طفل اليوم يجهلها تماما، وأخذت الحدائق المنزلية وبرك السباحة تمثل أولويات لدى المشترين، كما بدأت تغيب عن الأعين مشاهد الأسوار المرتفعة».

وأكد السبعان أن المفاهيم والآيديولوجيات باتت تتحول هي أيضا جنبا إلى جنب مع المفردات المحكية بعد أن اختزلت اللهجة المحلية بلهجة جديدة عامة ومعولمة انصهرت بداخلها المناطق الجغرافية السعودية من الشمال حتى الجنوب، وكل ذلك نتيجة ثورة الاتصال التكنولوجي وفورة السفر التي لم تعد مقتصرة على طبقة اجتماعية واحدة دون سواها.

وبحسب السبعان، كان التغير بالنسبة لواقع حياة الأنثى في المنطقة الوسطى الأكثر إثارة في إطار المفاهيم المحلية، فما كان من أعراف وتقاليد عدت عقودا من المحرمات، باتت اليوم أمرا طبيعيا، سواء كان على صعيد الحياة الأسرية أو الزواج والعمل وإلغاء الفجوة بين الفتاة والشاب، مفيدا بأن الواقع مفروض لا يمكن إيقافه، قائلا: «هو تطور تلقائي ينبغي التحكم فيه فقط من خلال التوجيه بأخذ النافع واحترام وعي الشباب»، داعيا إلى ضرورة الارتقاء بأنظمة ولوائح المؤسسات المحلية من مدارس وجامعات وغيرها، لاحتواء سلوكيات الأبناء والشباب تفاديا للتعارض مع الواقع المعيش.

من جانبه أكد الدكتور زهير الحارثي عضو مجلس الشورى السعودي إحداث القرارات السياسية تحولات أسرع في الجوانب الاجتماعية على الحياة السعودية، رغم حاجة التحولات الإيجابية إلى وقت زمني ليس بالقصير لتحققها، مشبها ذلك بحالة أشبه ما تكون بـ«زلزال» ثقافي انعكس إيجابيا على الحياة العامة رغم وجود بعض الانعكاسات السلبية.

وأضاف الحارثي: «قدمت الثورة المعلوماتية جرعة هائلة لعامة الأفراد بعد أن كان المجتمع يعيش في بيئة بسيطة وتركيبة اجتماعية محافظة اضطر المجتمع إلى التعامل مع إفرازات الانفتاح والتعايش معها».

وأوضح عضو مجلس الشورى أن أبرز ما طرأ بشأن الآيديولوجيات المحلية كان مبدأ الحوار والرأي الآخر الذي دخل إلى المجتمع بقوة بعد سيطرة الخطاب الواحد، مشيعا ذلك التعددية على مستوى رجل الشارع وتقبل الأنماط المغايرة.

وزاد قائلا: «تمكنت المرأة السعودية من إيجاد حيز كبير لنفسها بعد تفهم المجتمع لدورها واعتبارها شريكا في التنمية وممثلة لبلادها، وذلك كله نتيجة الانفتاح والتأثر بتجارب الدول الأخرى»، وأضاف: «اليوم لم يعد المجتمع السعودي مختلفا وشاذا عن باقي المجتمعات الأخرى، بل بات مجتمعا طبيعيا».

كما انعكس التغيير في الحياة المعيشية على الزي واللباس، فبعد أن كان زي الرجل السعودي في الرياض مقتصرا على ثوب مصنوع من القطن أو الصوف إضافة إلى الشماغ الأحمر أو الغترة البيضاء التي دخلت لاحقا، وكانت العباءة السوداء للنساء إضافة إلى الطرحة أو النقاب، أصبحت اليوم السوق السعودية أكثر الأسواق العربية والخليجية استقطابا لرؤوس الأموال في الترويج للملابس العصرية، نتيجة اهتمام الجنسين بآخر صيحات الموضة محاكاة للمجتمعات الغربية، فانتفى الخجل الاجتماعي بلبس البنطال والشورت، سواء على صعيد الحياة العامة أو الأكاديمية، بما في ذلك تنوع قصات الشعر، وتلونت عباءات النساء بزخارف ونقوش مختلفة، وانتشر الأخذ بالأقوال الفقهية المجيزة لكشف الوجه أو اكتفاء الأخريات بحجب الأنف والفم، بما في ذلك منافستها العربيات والغربيات في اتباع أحدث صرعات وخطوط الموضة العالمية في سهراتها النسائية.

ورغم تطور الحياة وطبيعة المعيشة في مدينة الرياض خلال الستين عاما الماضية في مختلف الجوانب العمرانية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، حتى بلغت مساحتها 4900 كيلومتر مربع، فإن العاصمة التي احتفلت منذ عقود بإنشاء المدينة السكنية الحديثة التي سميت حينها «الرياض الجديدة» الواقعة مع نهاية شارع الملز وبجوار جامعة الملك سعود والمكتبة العامة وحديقة الحيوانات، ممتدة بذلك 30 كيلومترا طولا من الشرق والغرب و20 كيلومترا من الشمال وإلى الجنوب، ما زالت تثير بعض الغيرة لدى سكان العاصمة اليوم، فهي المدينة التي لم تعرف وقتها المحامين والمحاماة ولم تنشأ فيها كلية للحقوق، فسمات أهلها حينها كما يذكرها الكاتب أمين سعيد في كتابه «النهضة السعودية في عهد الملك سعود»: «الثقة عندهم أصل، فإذا قال أحدهم قولا نفذه وتمسك به، وإذا استدان دينا فلا بد أن يقضيه، ولا يحتاجون إلى السندات والإيصالات في بيعهم وشرائهم، والإفلاس عندهم غير معروف».