مؤسسات المجتمع المدني.. «قوة ثالثة» عطلتها صراعات الوجاهة والظهور الإعلامي

بعضها حاد عن أهدافه في خدمة المجتمع ودخل في صراعات هامشية

TT

يشهد الحراك المدني في السعودية نهضة تنموية خلال السنوات العشر الأخيرة، مع التزايد اللافت لمؤسسات المجتمع المدني التي أصبحت تمارس أدوارا متعددة داخل المجتمع، إلا أن هذه التنامي رافقه أداء محبط من بعض المؤسسات التي حادت عن أهدافها الرئيسة وانشغلت بالصراع الإداري، على اعتبار أن الوصول لكرسي الرئاسة فيها هو أسهل وسيلة للظهور الإعلامي ومنبر للوجاهة الاجتماعية.

في حين جاء حضور بعض جمعيات النفع العام الأخرى مخيبا للتوقعات، بعد أن أصبحت تعصف حوله الانقسامات والاحتجاجات والطعون الانتخابية مع كل دورة رئاسية جديدة، وهي أحداث أصبحت تطغى في حضورها الإعلامي على حساب إنجازات ومشروعات هذه المؤسسات التي كان من المأمول أن تكون نافذة مشرقة لقيادة التغيير المجتمعي في البلاد.

وربما هذا المشهد المشوش يدفع لتقييم واقع الحراك المدني السعودي، الذي ما زال غضا، إذ إن تجربة مؤسسات المجتمع المدني أو المنظمات الشعبية غير الربحية، تعد حديثة نسبيا في البلاد إذا ما قورنت بالدول الأخرى، بما تشمله هذه المؤسسات من جمعيات حقوق الإنسان، وحماية المستهلك، والحماية الأسرية، والجمعيات العلمية، وجمعيات حقوق المرضى، والنقابات المهنية.

ويقرأ الدكتور عبد الرحمن الحبيب، وهو أكاديمي بجامعة الملك عبد العزيز، واقع الحراك المدني السعودي، بقوله «هناك من يتخوف من مؤسسات المجتمع المدني ويخشى أن تهدد الاستقرار الاجتماعي، كونها قد تعد نموذجا غربيا يحمل ثقافة غربية، أو لنقل الدول الغربية نشطت فيها مؤسسات المجتمع المدني بشكل أكبر وبمراحل عن دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية». ويستطرد الحبيب في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، قائلا «هذا المفهوم بدأ يتغير وبدأنا نعيش تجارب هذه المؤسسات في مجتمعاتنا العربية، حيث ينظم الأفراد والمؤسسات بمختلف أشكالهم وانتماءاتهم مؤسسات للدفاع عن مصالحهم المشتركة، كما نعرف أن الأمم المتحدة تنمي هذا المفهوم وتمارس جهودا كبيرة، خاصة في ما يتعلق بالتنمية وحقوق الإنسان والبيئة».

ويلخص الحبيب رؤيته قائلا «مؤسسات المجتمع المدني تتفاوت في عملها وعطائها من مؤسسات لا تحمل إلا اسمها فقط (مكانك سر)، إلى مؤسسات تأخذ من الواجهة والحضور الإعلامي أكثر مما تعمل، إلى مؤسسات تصارع ذاتها وتتضارب على من سيكون المدير»، ويضيف «أطالب بوضع معايير لقياس أداء هذه الجمعيات أو المؤسسات أو المنظمات بشكل أكبر، فلا بد من قياس الأثر الاجتماعي والمخرجات، ولا بد من الشفافية والموضوعية والواقعية، فنحن لا نريد شعارات براقة لكنها جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع. نريد منظمات تبحث عن الخلل ومسبباته ودوافعه وظروفه، ثم بعد ذلك تخضعه للتحليل الدقيق والاستنتاج الجاد ثم تتبناه إذا كان يستحق ذلك».

من ناحيته، يرى الدكتور مسفر القحطاني، وهو أستاذ مشارك في قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، أن «مؤسسات المجتمع المدني هي القوة الثالثة لأي مجتمع، والقلب النابض لحياة المجتمع، وهي مقياس حيويته الأخلاقية والقيمية»، مضيفا «مهما تفوقت الدولة في خدماتها تبقى هناك حاجة لا تغطيها إلا مؤسسات النفع العام واللجان التطوعية، وأظن أن ما ينقصنا في مجتمعنا السعودي حتى تنجح تلك المؤسسات ونشعر بوجودها الحقيقي أمور عدة».

ويوضح القحطاني خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن أهم هذه الأمور «الحاجة الماسة لصدور نظام ولائحة الجمعيات الأهلية الذي وافق عليه مجلس الشورى منذ عام 2008 ولم يصدر بحقه قرار من مجلس الوزراء»، حسب قوله، مضيفا «هذا له دور في ضبط العمل الأهلي والتطوعي ويحمله المسؤولية والاستقلال الذاتي ويطلق دوره داخل المجتمع دون الحاجة لوصاية عدد من الجهات التي قد تؤخر وتضيق مهام هذه الجمعيات».

ومن منطلق أن أهم السمات الأساسية لمؤسسات المجتمع المدني هي التطوع غير الجبري، فإن القحطاني يستكمل حديثه، قائلا «العمل التطوعي كثقافة وممارسة يحتاج إلى توعية تدخل ضمن مناهج التعليم ويدرب الطلاب على مجالاته حسب الرغبات، ويحمسون للمشاركة في أنشطة النفع العام، وهذا الدور شبه مفقود في تعليمنا الأولي والعالي». ويردف «العمل التطوعي ليس معصوما من وقوع الأخطاء، ومعالجتها لا تكون بإيقاف العمل كله أو التوجس الأمني من أهله.. يجب التعامل مع الأخطاء وفق قدرها وطبيعتها دون اتخاذ إجراءات شمولية، كمن يغلق طريقا مهما وواسعا بسبب وقوع حادث بسيط!».

في حين تبدو حداثة تجربة مؤسسات المجتمع المدني في السعودية غير بعيدة كثيرا عن حال نظيراتها في دول الخليج المجاورة، فعلى الرغم من نمو وتطور المجتمع المدني الملحوظ في دول الخليج خلال العقدين الأخيرين، فإن التحول النوعي على المستويين الكمي والنوعي لمؤسسات المجتمع المدني، شهد النقلة المميزة مع الألفية الثالثة والتحولات التي شهدتها المنطقة، بحسب ما تكشف دراسة حديثة أعدها المركز الوطني للدراسات في المنامة.

وتوضح الدراسة أن الجمعيات الأهلية والنفعية في دول مجلس التعاون الخليجي وبمختلف أنواعها وأشكالها، سواء كانت خيرية أو نسائية أو متعلقة بذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام ومن في حكمهم وكبار السن وغيرهم، والمؤسسات المهنية والتعاونية والعمالية والجمعيات والاتحادات جميعها، عددها كمؤسسات في مجمله يقارب العشرة آلاف، موزعة بين دول مجلس التعاون الخليجي، بحيث يتركز وجودها في المدن والمناطق الحضرية دون المناطق الصحراوية والقروية، بينما يبلغ عدد العاملين فيها نحو مليون شخص.

وحتى اليوم لا توجد إحصاءات سعودية تقدر عدد مؤسسات المجتمع المدني الموجودة في البلاد، إلا أن عدد الجمعيات الخيرية وحدها يتجاوز الـ610 جمعيات مرخصة، توجد في السعودية، بحسب ما تفيد وزارة الشؤون الاجتماعية، إذ تعد الجمعيات الخيرية من أبرز مؤسسات النفع العام الأهلية في المجتمع السعودي، بصفتها تؤدي الكثير من المهام الاجتماعية المساندة للدور الحكومي في الرعاية المقدمة للمحتاجين.

وخلال السنوات العشر الأخيرة، بدا من اللافت وجود حالة أشبه ما تكون بـ«الهوس» لدى النخب السعودية، في الانجذاب إلى تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، كل حسب اختصاصه، في حين تكتفي شريحة كبيرة منهم بالحصول على عضوية هذه الجهة وتضمينها في السير الذاتية كنوع من «البرستيج» دون إلزامية بالحضور الفاعل والمشاركة في العمل المجتمعي للجهة التي ينتمي إليها، بينما يبدو من اللافت كذلك أن كرسي الإدارة في الكثير من جمعيات النفع العام ما زال يسيطر عليه ذات الأشخاص بعد مرور سنوات طويلة على التأسيس، مما يجعلها تراوح مكانها في معظم الأحيان.

تجدر الإشارة هنا إلى أن مجلس الشورى السعودي كان قد أقر قبل نحو خمس سنوات مشروع نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي يقنن اللوائح، ويتضمن تأسيس هيئة وطنية للإشراف عليها، وهذا المشروع يضم 51 مادة مقسمة على سبعة فصول، تناولت الأهداف والتعريفات والتصنيفات، إلا أن هذا النظام لم ير النور على أرض الواقع حتى الآن، في حين يتوقع الخبراء أن يفتح هذا النظام نافذة جديدة لآلية عمل مؤسسات المجتمع المدني في السعودية، لتكون أكثر فاعلية وإنتاجية مستقبلا.