مجابهة فوضى «الاستشارات الأسرية» بـ35 مادة نظامية

وسط تعدد رافعي شعار «خبراء ومدربون في الشأن الأسري» من دون مؤهلات علمية أو مهنية

تعقد الحياة اليومية أوجد مشكلات أسرية يبحث أصحابها عن طوق نجاة للخروج منها («الشرق الأوسط»)
TT

شهد المجتمع السعودي خلال الفترة الماضية تحولات كثيرة، نتجت عنها نشأة مراكز للإرشاد الأسري، وتعدد الأشخاص الذين يقدمون أنفسهم كخبراء ومدربين لتقديم حلول للمشكلات الأسرية، في وقت لا يحمل فيه أي من أولئك الخبراء المؤهلات العلمية التي تخولهم ممارسة ذلك النشاط؛ «بل إن بعضهم لا تتجاوز شهادته العلمية سوى شهادات حضور دورات تدريبية يعقدها مركز تدريب للاستشارات الأسرية نالها بعد خمسة أيام»، بحسب مختصين في مجال الاستشارات الأسرية تحدثوا مع «الشرق الأوسط» حول هذا الجانب.

وأرجع المختصون الفوضى وبروز هذه الفئة من المستشارين المزيفين على السطح إلى غياب النظام واللوائح التي يمكن من خلالها محاسبة المرشدين الأسريين المخالفين، فضلا عن غياب جهة لتنظيم مجال الإرشاد الأسري، في ظل غياب كيفية ضبط ذلك المجال، وانعدام الأجهزة الجيدة للقيام بذلك. وبينوا أن تكاليف الدورات التدريبية للراغبين في العمل بمجال الاستشارات الأسرية وصلت إلى مستويات قياسية فاقت عشرة آلاف ريال، مقابل منحه هذه الشهادة دون النظر في مؤهلاته الدراسية.

وفي السياق ذاته، تؤكد وزارة الشؤون الاجتماعية أنها ستتصدى بحزم لفوضى الاستشارات الأسرية التي تقدمها بعض المراكز الأهلية، ومن يصنفون أنفسهم بالخبراء الاجتماعيين ليظهروا عبر وسائل الإعلام بقنواتها المختلفة.

وأعلنت الوزارة مسبقا لائحة عمل تتضمن 35 مادة نظامية ملزمة تنظم أداء مراكز الاستشارات الأسرية، وتحدد مؤهلات ومستويات المستشارين الأسريين، والواجبات والمسؤوليات الملقاة عليهم. وجاء إصدار هذا الإطار استجابة للحاجة الماسة والضرورية لتنظيم عمل الاستشارات الأسرية، وإيجاد مراكز أهلية قادرة على القيام بهذا الدور بكل كفاءة واقتدار، ضمن مسؤوليات وواجبات واضحة.

وتهدف القواعد التنفيذية للائحة التنظيمية لمراكز الإرشاد الأسري الأهلية إلى تنظيم عمل مراكز الإرشاد الأسري الأهلية، وتفعيل دورها في المجتمع، وتمكينها من تقديم خدمات إرشادية متخصصة تسهم في بناء واستقرار الأسرة، ورعايتها اجتماعيا، ونفسيا، وتربويا، وترابط المجتمع بجميع فئاته.

من جهته، أكد لـ«الشرق الأوسط» المستشار جزاء المطيري، نائب رئيس اللجنة النفسية بالغرفة التجارية والصناعية في جدة، أن هناك فرقا بين الإرشاد الأسري والإرشاد الزواجي، مبينا أن الإرشاد الأسري يتضمن إرشاد الأسرة كلها نفسيا بدلا من إرشاد الفرد وحده، باعتبار أن الأمراض النفسية اضطرابات أسرية، وفيها يقوم المرشد بإمداد الوالدين وباقي أفراد الأسرة بالمعلومات والخبرات التي تساعدهم في التغلب على المشكلات التي تواجه الأسرة، ويشمل جميع أعضاء الأسرة، أما الإرشاد الزواجي فهو مجموع الخدمات الإرشادية التي تقدم للأزواج بهدف تحقيق الاستقرار وحل المشكلات التي قد تعصف بالحياة الزوجية، وهو يختص بالزوجين فقط، مشيرا إلى أن هناك خلطا بين المفهومين من قبل أغلبية أفراد المجتمع الذين لا يعرفون الفرق بينهما.

وقال المطيري «للأسف الشديد هناك بعض من يمارس العمل في مجال الاستشارات لا يعرف الفرق بين الإرشاد الأسري والإرشاد الزواجي ويمارس المجالين بشكل عشوائي، ومن هؤلاء المستشارين من هم غير مختصين في هذا المجال، وما جعلهم يمارسون هذا العمل هو حصولهم على دورة تدريبية في مجال الاستشارات الأسرية قد لا تتجاوز الخمسة أيام، وبعدها يبدأ إطلاق مسمى المستشار، واستقبال الاتصالات لحل المشكلات الأسرية».

وبين المطيري أن هناك أسبابا عدة لفوضى انتشار ما يعرف بـ«المستشار الأسري»، منها كثرة الأزمات والاضطرابات التي تتعرض لها الأسر والضغوط النفسية والاضطرابات التي يتعرض لها الفرد، إلى جانب كثرة البرامج والدورات التدريبية التي تعمل في مجال الاستشارات الأسرية، ويلتحق فيها متدربون من الجنسين غير مؤهلين في هذا المجال، وبعد الدورة التدريبية يبدأون تقديم الاستشارات، وقد يفتتحون مكاتب لاستقبال طالبي الاستشارات، كذلك أغلبية من يعمل في مجال الدورات التدريبية أصبح يطلق على نفسه «مستشار أسري»، ومن أسباب ذلك أن الجهات ذات العلاقة تهاونت في هذا المجال، وليست لديها صلاحيات كثيرة لمحاسبة المخالفين.

واعتبر التغيرات السريعة والمتلاحقة التي طرأت على المجتمع في جوانبه المختلفة كان لها تأثير كبير في الحياة الأسرية، وأدت إلى ظهور العديد من المشكلات في محيط الأسرة؛ مما ترتب عليه ظهور هذه المشكلات بوجود خلل في البناء الأسري، وهذا ما يؤكد تزايد الحاجة إلى الإرشاد الأسري الذي يجب أن يكون العامل في مجاله ذا معرفة ومهارة عالية في مجال الاستشارات، ومتخصصا، حتى يستطيع إيصال هذه الأسرة وذلك الفرد إلى بر الأمان بدلا من إغراقهما، وهذا - للأسف - ما يحدث لبعض الأسر والأفراد ممن يذهبون إلى غير المختصين؛ حيث إن مشكلتهم تزداد وحلولها تتعقد.

وأوضح المطيري أن اللجنة النفسية في الغرفة التجارية والصناعية بجدة أنشأت مركزا للاستشارات وهاتفا استشاريا قائما عليه نخبة مختصين من الأطباء والإخصائيين النفسيين والأسريين أصحاب الكفاءة العالية، والمؤهلين في هذا المجال، كما تعمل اللجنة في المرحلة المقبلة على وضع لائحة لكيفية التعاون مع الجهات المختصة لتنظيم عمل مكاتب الاستشارات، وكيفية العمل على إيجاد رخصة مهنة للعاملين في مجال الاستشارات.

واتفق الدكتور محمد عاشور مع ما قاله جزاء المطيري، بأن كثرة المشكلات الأسرية والزوجية في السنوات الأربع الأخيرة أفرزت نوعا من المستشارين الأسريين غير الحاصلين على مؤهلات دراسية؛ لكنهم حاصلون على شهادات من دورات تدريبية لم تتجاوز مدتها الخمسة أيام، ومن ثم أطلقوا على أنفسهم أنهم «مستشارون أسريون»، وهم لا يحملون شهادة الثانوية على أقل تقدير.

وأرجع الإقبال على مراكز تدريب الاستشارات الأسرية للحصول على الشهادات وعملهم كمستشارين إلى حب الوجاهة الاجتماعية في المقام الأول أكثر من رغبتهم في المردود المادي؛ لأنهم يعلمون جيدا أن عدم تمكنهم من هذا المجال، وعدم درايتهم به، لن يجلب لهم المال. ولفت إلى أن وزارة الشؤون الاجتماعية وضعت آلية ومعايير معينة لعمل المستشارين الأسريين لعمل حاضنات ومؤسسات تستقبل الاستفسارات والمشكلات الأسرية، وتقدم لها المشورة والنصيحة والحل، وهذا الأمر سيقنن المسألة كثيرا ويلغي كثيرا من المراكز والمستشارين المزيفين الذين وجدوا على الساحة دون علم وخبرة.

ورأى أن المستشارين الأقوياء يمنحون أصحاب المشكلات منهجيات في طريقة حل المشكلات داخل الأسرة، ولا يكتفون بتقديم النصيحة والحل للمشكلة فقط، ويميزون بخبرتهم بين الحالات التي تحتاج حلولا جذرية، وإن كانت قاسية على بعض الأطراف، والحالات التي لا تكون ذات مصداقية في طرحها، وتقود الاستشاري غير المتمكن إلى طرح الحلول التي تكون على هوى ومزاج طالب الاستشارة.

وبين أن سبب انتشار المستشارين غير المؤهلين ثلاثة عوامل هي غياب الجهات القانونية والرسمية المعنية بالإشراف على الاستشاريين الأسريين، والإعلام الذي أظهر أن كثيرا منهم لديهم مهارات الإلقاء وليست لديهم منهجيات وفكر الاستشارات، بالإضافة إلى التعليم، مطالبا بضرورة وضع جزء في المناهج يعلم الطلاب كيفية وضع منهجيات لحل المشكلات والمعايير الصحيحة لاختيار المستشار، والتي بناء عليها سيجد الطالب مستشاره ضمن أقرب الناس حوله مثل أخيه أو جاره أو أستاذه.

من جهة أخرى، عد ماجد قنش، الاستشاري النفسي والسلوكي والأسري، الاستمرار في زيادة نسبة الطلاق بالسعودية في الآونة الأخيرة هو الذي جعل المختصين ينشئون المراكز الاستشارية لتقريب وجهات النظر بين الطرفين وتوعيتهما، وعلى الرغم من أن هذه المحاولات من قبل الاستشاريين وإقبال المجتمع عليها خطوة جيدة بدأت تؤتي ثمارها، فإنها لا ترقى إلى المطلوب. وحذر قنش من الذهاب إلى مستشارين غير متمكنين في استشاراتهم، مبينا أن الاستشارات الخاطئة تتسبب في مشكلات نفسية يطول علاجها، مرجعا عزوف البعض عن الذهاب إلى مراكز الاستشارات الأسرية والنفسية إلى غلاء أسعار الجلسات التي تصل عند بعض الاستشاريين أصحاب الأسماء المشهورة إلى 1000 ريال في الساعة، مشددا على ضرورة متابعة مثل هذه المراكز من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية، وضبط الأسعار، ووضع سقف معين للأسعار في مراكز الاستشارات. ولفت إلى ضرورة التمييز والأخذ في الاعتبار أن الطبيب النفسي يحق له صرف عقاقير نفسية، أما المعالج السلوكي الذي درس علم النفس السلوكي لا يحق له صرف أي عقار، وإنما علاجه يكون عن طريق دخوله اللاوعي واسترجاع الماضي للوصول إلى العقدة التي تسببت له في مسيرة حياته، وعلاجه عن طريق خط الزمن أو التنويم الإيحائي أو الاسترخاء.