«التسول».. البوابة الجديدة للمتاجرين بالأطفال

أكثر من 78 في المائة منهم أجانب.. واختصاصيون حمّلوا «تعاطف المجتمع» المسؤولية

TT

حين تقرع نافذة السيارة أمام إشارة المرور، فهذا يعني قدوم أحد المتسولين، الذين في معظمهم من الأطفال ممن يلبسون ثيابا مهترئة وتعلو وجههم ضربات الشمس الحارقة، مرددين «الله يرضى عليك.. الله يخليك» لكسب عطف المارة، الذين يقع كثير منهم في مصيدة هؤلاء المتسولين في إعطائهم مبالغ من المال، دون أن يدركوا أن معظمهم وافدون من الخارج ممن تستغلهم عصابات الاتجار بالأطفال، وتهربهم إلى السعودية لممارسة هذه الأعمال غير المشروعة، مستغلين طيبة المجتمع وتكافل أفراده.

ولا تبدو ظاهرة تسول الأطفال في الشوارع جديدة من نوعها، لكنها أخذت بالانتشار بصورة مخيفة خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي دعا هيئة حقوق الإنسان السعودية مؤخرا إلى عمل برامج توعوية عبر المواقع الإلكترونية للحد من هذه الظاهرة، تقول في إحداها «هل تستهل الريال الذي تعطيه لطفل يتسول؟ يجب أن تعرف أنك تساهم في أرباح المجرمين بهذا الريال».

وحاولت «الشرق الأوسط» محادثة بعض الأطفال الذين يتخذون من الشوارع الرئيسة مكانا لامتهان التسول، لكن كانت هناك صعوبة بإقناعهم للحوار والإجابة على الأسئلة، حيث كان الهرب هو ردهم الوحيد، في حين تحدث أحدهم؛ وهو طفل في حدود العاشرة من عمره، مقابل تقديم حافز مادي له، ولم يكن كلامه مفهوما بصورة كافية، لكونه غير سعودي ويتحدث بلهجة بلاده العامية، إلا أنه كرر كلمتي «فقير، مريض» لكسب مزيد من العطف، دون أن يرد على أي سؤال يخص من أحضره وعلمه ممارسة التسول.

من ناحيته، اعتبر الدكتور إبراهيم الشدي، المتحدث الرسمي باسم هيئة حقوق الإنسان السعودية، تسول الأطفال على أنه يدخل ضمن مفهوم «الاتجار بالبشر»، مشيرا إلى أن تعاطف أفراد المجتمع السعودي مع الأطفال المتسولين يسهم في تزايدهم، قائلا «الأطفال مع الأسف هم مستأجرون لأداء هذه المهمة، ولولا أن هناك عصابات تجد من يقدم المال لهؤلاء الأطفال لتوقفوا عن عملهم».

ويتابع الشدي خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» قائلا «هناك عصابات تجمع الأطفال وأحيانا تؤذيهم ببعض التشويه في أجسادهم لاستدرار عطف الآخرين»، وأوضح أنه بقدر ما يحظى هؤلاء الأطفال بالأموال التي يجمعونها كل يوم؛ بقدر ما تنشط هذه العصابات في جمع الأطفال واستغلالهم، قائلا «في حال توقف الناس عن إعطائهم المال فلن تواصل هذه العصابات استغلال الأطفال في امتهان التسول».

أمام ذلك، يوضح الدكتور عبد العزيز الدخيل، وهو رئيس الجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية في الرياض، بأن المتسولين في غالبيتهم هم من غير السعوديين، معتبرا ذلك مسؤولية مراكز الشرطة وإدارة الجوازات والجهات المسؤولة عن نظام الإقامة، قائلا «كثير من هؤلاء يتسللون عبر الحدود كعصابات أو بشكل فردي بهدف التسول، وبعضهم يأتي إلى السعودية بهدف الحج أو العمرة ثم يستمر بالبلاد لممارسة التسول، وجمع مبالغ مالية كبيرة من ذلك».

وبسؤاله عن دوافع التسول يقول الدخيل «البعض يتسول لحاجة، والبعض الآخر يتسول لكونه كسب سريع ودون عناء وهنا يكون الفرد قد استمرأ التسول، والبعض يتسول لكونه مريض أو مضطرب نفسيا أو مشرد في الشوارع»، وأشار الدخيل إلى وجود شريحة صغيرة من المتسولين السعوديين الذين يرى أن مسؤوليتهم تقع على عاتق وزارة الشؤون الاجتماعية.

وحول ظاهرة تسول الأطفال، يقول الدخيل «منظر مؤلم عندما ترى طفلا مغلوبا على أمره، أو رضيعا في حضن أمه، وهو يجلس في عين الشمس وتحت درجات حرارة مرتفعة، ويستنشق عوادم السيارات، لغرض التسول.. هذا غير إنساني أبدا»، ويضيف «معظم أفراد المجتمع يتعاطف معهم، لكن ما يدرينا إن كان هذا الطفل ليس من ضمن عصابة للتسول؟ أو أنه فعلا محتاج؟ أم أنه مستغل من قبل المحتالين؟!».

ووفقا لإحصائيات وزارة الشؤون الاجتماعية فإن نسبة عالية من المتسولين المقبوض عليهم هم من الأجانب، إذ تتراوح نسبة السعوديين من المتسولين بين 12 و13 في المائة فقط، بينما تتراوح نسبة الأجانب من المتسولين بين 78 و87 في المائة، وذلك من خلال إحصائيات آخر ثماني سنوات، في إشارة واضحة للنسبة العالية التي يمثلها المتسولون الأجانب؛ ممن يستغلون السعوديين في استدرار العطف عليهم.

من جهتها، تبنت جمعية البر بجدة تأسيس مركز لإيواء الأطفال المتسولين، الذي يعد الأول من نوعه في السعودية، حيث يستوعب المبنى أكثر من 500 طفل، وتتولى شرطة جدة (ممثلة في إدارة البحث الجنائي) حراسة مقر الإيواء وتوفير إجراءات الأمن اللازمة، أما ما يتعلق بالتغذية والكسوة والرعاية التربوية والصحية فيتم تأمينها عن طريق الجمعية، في حين تجاوز عدد الأطفال الذين احتضنهم المركز حدود تسعة آلاف طفل منذ افتتاحه وحتى الآن.

ويتحدث لـ«الشرق الأوسط»، المهندس وليد باحمدان، أمين عام جمعية البر بجدة، عن هذا المشروع بالقول «تجربتنا هذه نبعت من تعاطف إنساني بحت تجاه الأطفال ممن خاضوا تجربة التسول في مناطق مختلفة من المدينة، وتم القبض عليهم من مكافحة التسول والشرطة، وبعضهم من المخالفين لأنظمة الإقامة والبعض الآخر لا يحملون هوية، وبعض هؤلاء الأطفال أهاليهم مقيمين هنا أو تم إرسالهم من مناطق ودول أخرى».

ويضيف «في السابق، كان يتم القبض عليهم ووضعهم في مراكز الترحيل، ثم جاءت مبادرة الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز (أمير مكة المكرمة الأسبق) وجمعية البر بجدة، وبالتعاون مع إدارة الجوازات، حيث يتم وضع هؤلاء الأطفال المتسولين في المركز، ونقدم لهم برامج ثقافية واجتماعية ودورات تحفيظ القرآن الكريم وأنشطة رياضية، لشغل وقتهم لحين تسليمهم لذويهم أو ترحليهم للخارج».

وبسؤال باحمدن عن احتمالية عودة الطفل للتسول بعد التأهيل في المركز، يقول «أغلب هؤلاء الأطفال أعمارهم أقل من 12 سنة، وبعضهم يتم القبض عليه من عصابات التسول وتتم إعادتهم لمهنة التسول من جديد»، وعن دوافع تسول الأطفال يقول «هناك ثلاث فئات: من يمارس التسول بدافع الفقر البحت، ومن تدفعهم عائلاتهم للتسول على اعتبار أنهم يمارسون التسول كمهنة عائلة، وهناك من يتسول نتيجة عمل منظم من عصابات تهربهم إلى البلاد، كي يلعبوا على الوتر العاطفي وحس التكافل المعروف عن المجتمع السعودي».

ومع قرب دخول شهر رمضان المبارك، من المنتظر أن تتزايد حالات التسول من منطلق استغلال عاطفة المجتمع خلال الشهر الفضيل، إلا أن التسول ظاهرة مقلقة على مدار العام وفي مختلف المناطق السعودية، ففي المنطقة الشرقية وحدها، أعلنت شرطة المنطقة في أحدث بياناتها أنه تم خلال شهر واحد فقط ضبط 67 حالة تسول في حاضرة الدمام، تمثلت بـ40 امرأة وست رجال و21 طفلا، بلغت نسبة الأجانب منهم 28 في المائة مقارنة بإجمالي المقبوض عليهم، ومن المتوقع أن تتضاعف هذه الأرقام في شهر رمضان.

تجدر الإشارة إلى أن وزارة الشؤون الاجتماعية أفصحت في تقريرها السنوي للعام المالي الماضي، إلى أن عدد المقبوض عليهم يبلغ 23274 متسولا، منهم 2638 سعوديا، أي بما نسبته 11 في المائة، وبلغت نسبة النساء السعوديات المقبوض عليهن 50 في المائة من إجمالي المتسولين، وبلغت نسبة الأطفال السعوديين منهم 38 في المائة، في حين كانت نسبة الذكور الأجانب 62 في المائة، والأطفال الأجانب 22 في المائة، والنساء 16 في المائة.