مكة المكرمة تاريخ ثقافي يهمله الحجاج والمعتمرون

السياحة الدينية بحاجة لثقافة جديدة

TT

مدينة أسطورية لا تشبه سواها. تعتق ساكنوها من قداسة أرضها التي تتنفس رائحة التاريخ، وهي تعيش تحت الشمس اللاهبة. التصق بكنوزها المقدسة مسمى السياحة الدينية، حيث تتجه أنظار أكثر من مليار مسلم في العالم نحو مكة المكرمة كلها تتمنى حزم أمتعتها مولية الوجهة نحو البيت العتيق والمشاعر في البلد الحرام.

ولأن مفهوم السياحة المحلية منها بشكل خاص يعد من المفاهيم الجديدة التي دخلت قاموس السعوديين أخيرا فأخرجت الخضرة والماء من معاييرها عند الرغبة في زيارة أم القرى المغروسة في واد غير ذي زرع. لكنها تعوض ذلك في بشاشة أهلها المكيين وحضنهم الدافئ عند استقبال الراغبين في تمضية إجازتهم بجوار الكعبة المشرفة والحطيم والإرتواء بشرب ماء زمزم. وكما يقال.. أن أهل مكة أدرى بشعابها، كان تحويل السياحة الدينية في مكة إلى عمل ثقافي يحتاج الى جهد جبار لتنشيطها إستنادا على قاعدة صلبة تتمثل في الدور التنويري الذي كانت تلعبه مكة المكرمة عبر التاريخ.

ولا زال احد المعايير الموضوعة لإنجاح السياحة الثقافية ولاعتبارات الخصوصية الدينية المتميزة بها مكة كان العمل من خلال المهرجانات التي تقيمها غرفة تجارة مكة المتأرجحة بين مهرجاني الربيع ومدته أربعة أشهر هي وقت الذروة للمعتمرين القادمين من أصقاع الأرض منذ بدايته في عام 1996 فيما اقتصر مهرجان «مكة خير» على إستقطاب جمهور الصيف من المقيمين والمواطنين وبعض الزوار من الخارج.

وفي ظل الحديث عن الخصوصية الدينية وعلاقتها بالتنشيط السياحي يبرز السؤال حول وجود مقومات السياحة الثقافية، يقول عبد الجليل كعكي مدير غرفة تجارة مكة المكرمة «تحظى مكة المكرمة بالكثير من الآثار التي تمثل حقبة طويلة من التاريخ الإسلامي ولدى الهيئة العليا للسياحة تصور كامل حول استغلالها مثل جبل حراء حيث طرحت حوله مشروعات لتذليل صعوبة الوصول إليه وموقع ولادة الرسول الذي لازال محفوظا داخل مكتبة مكة المكرمة وهناك محاولة لإعادة ترتيبه لكن تقف مخافة التبرك به عائقا أمام ذلك».

ولا تقف محاولة القائمين على التنشيط السياحي عند المعالم الأثرية بل تتجاوزها لتستفيد من النشاط الثقافي الذي تقيمه المكتبات والجهات ذات العلاقة وعن مدى توفر مراكز ثقافية تخدم هذا الغرض قال الكعكي «لا توجد في الحقيقة مراكز أو قصور للثقافة بالمفهوم المتعارف عليه ونحن نطمح لذلك إلا أننا نحاول الإستفادة من القاعات المتاحة في الإدارات الحكومية ومؤسسات الطوافة إلى جانب الإستعانة بقاعات الأفراح»، مشيرا إلى أن الغرفة التجارية بصدد تجهيز مبنى جديد يخدم هذا الغرض في غضون العامين القادمين، ويعد معرض الكتاب السنوي الذي يقام بجامعة أم القرى أحد الأنشطة الثقافية التي يتم تفعيلها في مواسم الذروة.

وكما أوضح الكعكي «لا تقتصر المشاركة فيه على جامعة أم القرى بل هناك مشاركة من قبل مكتبة الحرم المكي التي تحتضن مخطوطات نادرة جدا ومكتبة مكة المكرمة».

المتاحف الأهلية هي الأخرى تشكل ملمحاً من ملامح الجذب السياحي، ولا سيما تلك التي قامت بجهود شخصية من ملاكها مثل متحف طارق سندي والمخرج التلفزيوني الراحل فيصل عراقي الذي لم يعرف مصيره ومتحف حسن خوجة الذي يحتل جزءا منزله الواقع بحي النورية، ولأن هذه المتاحف تحمل الصفة التراثية ولا تتجاوز في مقتنياتها سوى ملامح البيت المكي القديم وبعض القطع الأثرية والعملات والطوابع البريدية والأجهزة القديمة، كان لابد من العمل على تأهيلها. وحول ذلك علق الكعكي بقوله «هناك محاولة لجمع هذه المتاحف في مكان واحد بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم لكن تقف عوائق كثيرة أمام هذا التوجه» وتحفظ الكعكي على ذكر هذه المعوقات، فيما يظل العمل على قدم وساق للإنتهاء من تجهيز كل من متحف الحرمين الشريفين بأم الجود؛ والمتحف الإسلامي الذي أنشيء في 1998 على مساحة 1200 متر مربع، ويحوي سبع قاعات وقد اختير قصر الملك عبد العزيز بحي الزاهر ليكون مقرا له.

وأوضح عبد الجليل كعكي أن ترسيخ مفهوم السياحة الثقافية لابد أن يشارك فيه رجال الأعمال من خلال طرح مشروعات استثمارية ترفيهية مثل المتنزهات وملاه ومطاعم ترقى لمستوى طموح السائح إلا أن «ارتفاع سعر الأراضي دائما ما يعترض إقامة المشاريع» هي المشكلة التي تقف سدا منيعا أمام فرص الإستثمار كما قال الكعكي، الذي أكد على دور أمانة العاصمة في طرح مواقع للإستثمار بين الحين والآخر.

وفي الوقت الذي يبدو فيه أن استعداد المدينة المقدسة كبير جدا في هذا النطاق في ظل فتح باب العمرة وتنظيمها على مدار العام وإعداد برامج تضم رحلات ترفيهية للزائرين في المناطق المجاورة لمكة حيث تجاوز عدد الفنادق فيها 750 فندقا من الفئات الخمسة التي تخضع لمعايير معينة خاصة تلك القريبة منطقة الحرم والمستثمرة من قبل شركات.

وأوضح الجندي «هناك ما يربو على 10 ملايين زائر هم في الحقيقة ناقلون للصورة التي يرونها لذلك يلزم أصحاب الفنادق بمعايير لا بديل لها أهمها توفر السلامة وتوفير أكبر قدر من الراحة»، وأرجع الجندي ذلك إلى أن «السائح الديني مسؤولية أكثر منه وسيلة للإستغلال».

إلا ان النمو المتسارع لمكة المكرمة وعملية التطوير والتخطيط المستمرة لها يجعل من فاعلية الترويج السياحي ضريبة مدفوعة تقع على عاتق قطاع الخدمات سلفا على الرغم من اهتمام الدولة به وعلل عبد الوهاب الجندي نائب غرفة تجارة مكة ذلك بـ «التسابق المحموم بين رجال الأعمال دائما ما تكون وجهته نحو منطقة الحرم مما يؤثر سلبا على قطاع الخدمات الذي يمثله المواصلات والمتنزهات والمطاعم والمستشفيات».

البرامج والفعاليات التي يمكن أن تستقطب جمهور الصيف لم تخرج عن المألوف كما يقول الكعكي «كانت الغرفة قد أبرمت عقدا مع إحدى الشركات المتخصصة في وضع مثل هذه البرامج إلا أنها لم توفق، والآن هناك دراسات مع شركات أخرى في السياق ذاته»، وحول العوائق التي تقف أمام تحقيق ذلك قال «هذه البرامج احترافية وتحتاج لمحترفين في وقت كانت فيه توجهات أن مثل هذه البرامج لا يمكن أن تنفذ في مكة بسبب الخصوصية الدينية لكن استطعنا تجاوزها ولازلنا في طور النمو لصناعة السياحة الثقافية لمكة المكرمة».