«قس بن ساعدة» يعود مجددا لإحياء «الثقافة» في نجران

بعد أن ظلت لآلاف السنين على علاقة تاريخية مع الفكر والإبداع

TT

في كل مرة يقف فيها خطيب على منبر، ويقول العبارة الشهيرة: (أما بعد) تلوح في الأفق صورة حكيم العرب وأسقف نجران، قس بن ساعدة، الذي كان أول من قالها، والذي اتفقت معظم كتب المؤرخين على أنه هو خطيب من أكبر حكماء العرب قبل الإسلام. رآه النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبيل البعثة يخطب الناس بسوق عكاظ وروى خطبته وعجب من حسنها وأظهر تصويبها ثم قال: «يرحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة وحده».

اليوم وفي نجران عاد «قس بن ساعدة» كصالون ثقافي هو الأول من نوعه في المنطقة التي ألفت لعقود طويلة ثقافة متحفظة في التعاطي مع الأشياء المحيطة وضمنظومة «قبلية» لها معاييرها «الحساسة» في فتح الملفات للحوار والجدل واعتماد اعادة اكتشاف الذات كمنهج أساسي في فهم الآخرين.

يقول صالح عامر آل سالم، وهو مشرف صالون قس بن ساعدة الثقافي، إن الفكرة جاءت كمنبر لتأسيس ثقافة الحوار المفتوح، وتأصيل القيم الثقافية في أنماط التفكير الاجتماعي «هي خطوة لدعوة المثقفين وأصحاب الكلمة والرأي لمناقشة القضايا الوطنية والاجتماعية. كما أنها محاولة لتوضيح دور مؤسسات المجتمع المدني في تحريك عجلة الحياة نحو آفاق أرحب». ومنتدى قس بن ساعدة في رأي كثيرين يعد هو وجريدة «صوت الأخدود» الإلكترونية، نموذجين مثاليين لمتابعة الحراك الثقافي في منطقة نجران، خاصة في ظل عدم وجود ناد أو مركز ثقافي كما تسميه وزارة الثقافة والاعلام في عهدها الحديث رغم تأكيدات من الوزارة بأن افتتاح النادي «مسألة وقت لا أكثر».

والمتابع للساحة الثقافية في نجران يلاحظ الاتجاه للشبكة العنكبوتية (الإنترنت) للتعبير عن ثقافة المنطقة وتجلياتها اليومية، في محاولات فردية لخلق صوت أدبي وثقافي لأبناء المنطقة، ومحاولة اكتشاف المبدعين في مجالات مختلفة ليأخذوا بعد ذلك نصيبهم من كعكة الحضور الاعلامي في واجهة المشهد السعودي الذي يفوز يوميا بأسماء جديدة.

ويقول حسين بالحارث، وهو أحد مؤسسي منتدى قس بن ساعدة، حول رؤيته لدور الصالون في احداث طفرة ثقافية الى جانب الصحف والمنتديات الإلكترونية، بقوله «لم لا، المشكلة أن هناك قطيعة دائمة بين مفهوم «القبيلة» و«الثقافة» رغم أن لا عداوة مباشرة بينهما، وهذا ما نريد أن نطرحه كرؤية عامة» ويضيف «أين المشكلة في أن تجلس القبيلة والثقافة على كرسيين متجاورين ينطلق أحدهما من الآخر أو يتبادلان الادوار. متى ما كان هناك وعي بأهمية التفكير في النسق الثقافي كضرورة اجتماعية وليس كترف أعتقد أننا وقتها سنصبح قادرين على تصدير المثقفين وليس استيرادهم في كل استهلال أو استدلال».

وحول الصعوبات التي يواجهها مؤسسو هذه التجمعات الثقافية داخل المجتمع النجراني الذي يتشكل حاليا برؤية جديدة، تبرز مشكلة أصحاب «الضد» لكل مشروع تنويري تحت طائلة أن هؤلاء «طلاب شهرة» أو «منتفعون» وهو ما رد عليه صالح عامر عبر تصريحات إعلامية بقوله «أي منافع أو مناصب يمكن أن نحصل عليها مقابل احيائنا لهذه التجمعات التي تتم بجهود فردية ومن خلال شباب متطوعين للمنجز الثقافي في نجران».

ويرى بعض من حضروا النقاشات الشهرية التي دارت في صالون «قس بن ساعدة» أن التغيير طال أشياء كثيرة من بينها أنه كسر (التابو) التقليدي في الترحيب بالضيوف والانماط الرسمية في «بروتوكولات» المجالس النجرانية، وهو ما ساهم الى حد كبير في خلق ثقافة جديدة تعتمد على الفكر كهدف لحضور تلك المجالس وليس المباهاة بطرق «الضيافة» فقط دون الالتفات للجانب الثقافي والقيمة المستفادة من حضور تلك النقاشات.

وكانت شخصيات اعلامية وفكرية مؤثرة في البلاد حضرت وألقت محاضرات مهمة في مواضيع اجتماعية ووطنية مختلفة من بينهم، الدكتور محمد آل زلفة، عضو مجلس الشورى السعودي، والاعلامي المعروف قينان الغامدي، والمشرف على العلاقات العامة في الجمعية الوطنية لحقوق الانسان، علي آل مستنير، فيما يستضيف المنتدى الشهر المقبل، الكاتب والمفكر السعودي تركي الحمد، وسط حضور كبير من المهتمين ووسائل الاعلام التي ترصد هذا الحراك كظاهرة جديدة لم يألفها المجتمع النجراني بعد ولكنه بدأ يتقبلها قياسا بعدد الحضور المتنامي لتلك النقاشات، والطرح العميق الذي يتخللها من المشاركين والضيوف، وروح المسؤولية في استغلال المناخ الصحي الذي عززته جلسات الحوار الوطني في التقريب بين أبناء الوطن، وتشكيل وعي معرفي جماعي بين كافة شرائح المجتمع. وبرزت على السطح خلال الأشهر القليلة الماضية دعوات مماثلة من تجمعات شبابية في نجران للخروج بمشاريع إعلامية وفنية وثقافية مختلفة، ودعم الموروث النجراني الشعبي من خلال حركة تأصيل وتنقيح للمفردات والانساب وما في عرفهما، وكذلك الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية لكثير من الاعمال الفنية التي تطرح حاليا على أنها من الفلكلور، وتجاهل حقوق مؤلفيها، كما ظهرت محاولات واجتهادات مشكورة لتصوير أعمال فنية وبرامج وثائقية بأيد نجرانية في وقت لم يكن هذا الأمر مطروحا على طاولة التفكير قبل سنوات قليلة. وهو ما يعزز عبارة حكيم العرب قس بن ساعدة: (أما بعد) بسؤال قادم وملح إجابته لدى آلاف الشبان والشابات من أبناء وبنات منطقة نجران الذين يتلقون علومهم في مختلف الجامعات السعودية والعالمية، وهو: ماذا بعد؟