حي الجامعة: رمز التعليم العالي.. وحاضن المتناقضات

يضم شوارع شهيرة كـ«بن لادن» و«بغداد» ويعد القلب النابض لجنوب جدة

الشوارع الشهيرة في حي الجامعة («الشرق الاوسط»)
TT

لم تكن المزارع الواقعة في المحلة القديمة بجنوب جدة، التي تربط بين العروس والطريق المؤدية لمكة، إلا نواة لأحد أبرز معالم مدينة جدة الثقافية. وضع بذورها الأولى وزير المالية السابق الشيخ عبد الله السليمان، في حي الجامعة العتيق، كونه امتداداً طبيعياً للنمو العمراني من جهة، والرابط بين مركز البلد ومكة المكرمة. ويعتبر الحي الذي بدأ أول ظهور له في خريطة العروس عام 1388هـ والمتزامن مع انشاء جامعة الملك عبد العزيز الأهلية بجدة. الحي بدأت رسم ملامحه الأولى بالظهور، من خلال شوارع رئيسية، كانت ولا تزال بمثابة شرايين للقلب النابض للحي، تسمّت بأسماء شخصيات عامة مؤثرة، ان كان في محيط المحلة القديمة، مثل شارع عبد الله السليمان الذي يعد حداً فاصلاً بين المدينة الجامعية، وحيِّها المنتسب إليها اسماً. الا أن المفارقة الكبرى تكمن في الامتداد العمراني للجامعة الذي تمثله كلية الهندسة، مقابل عشوائية الحي وسوء تخطيطه، كما أشار عمر زهير حافظ الأستاذ بالجامعة والمسؤول عن دار حافظ للنشر، موضحاً أن وجود هذا الشارع الضخم جاء تعبيراً عن رغبة مدفونة في أعماق المنتسبين للحرم الجامعي في البعد عن عشوائية الحياة داخل دهاليز الحي القديم. ولا يقف أمر شوارع الحي عند حد الفصل، بل إن انقطاع الصلة بين أسمائها بأي حدث يشير إلى تاريخ الحي، يبدو سمة أخرى مكتسبة من التوجه العام لأغلب شوارع جدة، مثل شارع بغداد، من دون أن تكون هناك أدنى علاقة تاريخية بين الحي المنبسط على وجه المدينة الساحلية بمساحة 285كم مربع ومدينة الرشيد.

وفي خضم لغط تسمية شوارع الحي الجامعي، يبرز شارعا باخشب وبن لادن اللذان يعدان من أبرز أسماء تجّار جدة، وفي الوقت الذي تضاربت فيه الآراء حول سبب تسمية الشارع الأخير، بين إقامة بن لادن في الحي أو ارتباط المكان بوجود أعمال ومصالح تجارية لمجموعة بن لادن، يبقى الاتفاق ضمنياً على أن تسمية شوارع حي الجامعة لا علاقة لها بتاريخه. الجامعة التي فتحت أبوابها لاستقبال طلبة العلم عام 1388هـ، حولت معها الحي القديم إلى حي تجاري بامتياز، بدأ مع دور النشر والمكتبات التي تجاوز عددها 24 مكتبة ما بين متاجر تخصصت في بيع الكتاب الجامعي وقرطاسيات ما اعتبره عمر حافظ، المسؤول عن دار حافظ للنشر التي تعد من أقدم الدور في الحي على اعتبار أنها بدأت منذ ما يقارب الـ52 عاماً، سوقاً جيدة حينها ولا تزال. إلا أن الأمر لم يقف عند حدود بيع الكتاب والقرطاسية، بل كان للخدمات التعليمية أو ما تعارف عليه طلبة وطالبات الجامعة العريقة بخدمات الطلاب التي وجدت في عمل البحوث وكتابة الرسائل العلمية سوق أخرى فاقت في أرباحها الكتاب الجامعي، وفتحت الباب واسعاً أمام المجيدين في كتابة الرسائل العلمية من العرب بشكل خاص، حيث يبلغ الحد الأدنى لها 300 ريال فيما يتجاوز الحد الأعلى لكتابتها لحملة الماجستير والدكتوراه 20000 ريال. التوسع العمراني الذي مد لسانه نحو المحلة القديمة، أطال معه الأذرع الحدودية للحي الجديد، لتمتد طرقاً مفتوحة إلى رحاب أم القرى من ناحية الجنوب والشرق، فيما يبحر ذراعها شمالاً نحو المياه الزرقاء، كما أوضح أحمد الغامدي المسؤول الإعلامي بأمانة جدة، وقال «يمثل شارع ولي العهد الحد الشمالي لحي الجامعة، فيما يقطعه من جهة الغرب شارعا الملك خالد جنوباً؛ وشارع الأمير فهد شمالاً». وجود الحرم الجامعي، الذي ألقى بظلاله الإيجابية على تسريع حركة العمران فيه، جاء تزامناً معه انتشار الأسواق خاصة الشعبية منها بزعامة مؤكدة لسوق الأمير متعب، أو ما كان يطلق عليه «حراج الأمير متعب». ويضم تحت سقفه كل أنواع السلع بأسعار رخيصة، في حين يأتي سوق التمور كأحد أبرز ثلاثة أسواق متخصصة في بيعها، بطول المدينة الساحلية، ليحظى حي الجامعة بأكبرها. إلا أن اجتياح مد المولات التجارية للعروس بعد حمى التوسع العمراني التي شهدتها المدينة، بدأت رياحه في تغيير اتجاهها نحو الجنوب، في محاولة لتغيير الخريطة التجارية لحي الجامعة عبر تشكيل نمط اقتصادي جديد، كانت باكورته الجامعة بلازا، الذي يمتاز بجمال العمارة الحديثة؛ الا أن ذلك لم يشفع له عند السكان، وظل خارج المنافسة وهو ما علله محمد حمدان، عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز قسم الجغرافيا، بطبيعة التكوين السكاني للحي، وطريقة المعيشة فيه، إلى جانب الدخول المتدني التي لا تتيح الاستفادة من السلع المعروضة، أمام رخص السلع بالأسواق الشعبية، على الرغم من شكل العمارة القديم لمتاجرها التي تبدو أكثر اتساقاً مع مستوى الدخول.

لم يكتف الحي القديم بأخذ اسمه من وقوع الجامعة في محيطه، بل تجاوز ذلك ليصبح الإسم دلالة على صفة الحي الجاذبة لمختلف شرائح المجتمع بحكم العمل بالجامعة، وهو الأمر الذي حدا ببعضهم للإقامة في سكنها حيث يعد إحدى الواجهات المعمارية المتميزة، مقارنة بحال الحي الذي وصفه البعض بالتعيس نظراً لسوء المرافق الخدمية الموجودة فيه، إلى جانب الأساتذة المقيمين بقرب المدينة الجامعية والطلاّب في شققها السكنية التي وجدت رواجاً بين هذه الفئة بسبب انخفاض حركة البيع في عقارات الحي بقيمة متأرجحة بين 600 – 1000 ريال شهرياً لعمال الورش والطلبة، في حين يصل الحد الأعلى لقيمة شقق التمليك للعائلات 35000 ريال.

وتعتبر المطاعم والمقاهي المنتشرة في نطاق المدينة الجامعية وعلى أطراف الحي، جامعة لمختلف الفئات العمرية ليس فقط على صعيد الطلبة، بل تتجاوزهم لتشمل الصنّاع في الورش الصناعية، وعمال الطباعة في دور النشر، جنباً إلى جنب مع وجوه أخرى تحمل الملامح الآسيوية، بالكاد يمكنك ان تتعرف على مهنهم، إلا أن الطبيعة الاجتماعية للحي جعلت وجود المرأة في الشارع نادراً، ناهيك من وجودها غير المستحب في مطاعمها العابقة برائحة الشواء العربية، باستثناء وجودها داخل جنبات الحرم الجامعي، وهو عكس السائد في مقاهي ومطاعم الشمال.

وفي الوقت الذي يجمع فيه الحي مختلف الشرائح الاجتماعية لذوي الدخل المحدود أو القريب من المتوسط، يبدو أن المنارة التعليمية للحي أخذت على عاتقها محاولة صهر الجميع تحت مظلتها، وهو ما اتضح جلياً في ضم من يعاني من قصر ذات اليد، مع أبناء النخبة في المجتمع الجداوي عبر قرار الملك فيصل بتحويلها من جامعة أهلية إلى حكومية عام 1393هـ. الا أن ذلك لم يغير مسار الحي الموصوف بالتعاسة، في كل ركن من أركانه من خلال طغيان نمط البناء الشعبي باعتباره الملمح الأول لصورة الحي بأكمله.

فيما يبدو أن الظهور الخجول للأبنية ذات الطراز الحديث، على واجهة الشوارع الرئيسية لم تمنع الانعكاسات السلبية للنواة الداخلية للحي التي أدت لتحويل بعض أزقته وشوارعه إلى مسرح مفتوح، شهدت جدرانها ثلاث مواجهات أمنية منذ عام 1424هـ، الأمر الذي أرجعه الحمدان إلى طرز البناء العتيقة لتلك المباني، وضيق الشوارع المؤدية اليها، وهو ما يضع العراقيل أمام دخول الآليات الأمنية؛ إلى جانب سهولة الاختباء في تلك الشوارع، ما يضع تساؤلاً محيراً حول استخدامات هذه المباني، بعد الطفرة وحركة التوسع العمراني التي دفعت كثيرا من أصحابها لتركها أو تأجيرها بأسعار زهيدة.

وفي الوقت الذي تتسق فيه الأبنية التقليدية مع نمط المعيشة، تأتي حدة سكين التباين السكاني في الحي الجامع كأداة قطعت أوصاله إلى ثلاث مناطق، يسكن جزءا منها الطلاّب القادمون من مناطق مجاورة بغرض الدراسة، قبل سقوط بعضهم في مستنقع الإرهاب، في حين تتحمل العائلات القاطنة في المربع الثالث للحي العتيق دفع فاتورة الفكر المضلل. الا أنها ومن جهة ثانية تقع فريسة العمالة الأجنبية الوافدة خاصة تلك المنضوية تحت لواء الإقامة غير النظامية، كونها أحد أهم أسباب انتشار الجريمة، في حي وصفه بعض الكتاب بأنه أمسى «وكراً لتصدير الجريمة»، الأمر الذي يضعف السيطرة الأمنية داخل الحي.