القضاء السعودي.. من الأحكام المشافهة إلى أنظمة قابلة للتطوير

راعت تحقيق العدالة وضمان سلامة التطبيق * الملك عبد العزيز: إذا أصلحنا المحاكم هانت الأمور واستقامت الأحوال * الملك المؤسس تقاضى مع مواطن وخسر القضية

شارع جرول في مكة حيث كانت تقع دار الضيافة التي تحولت الى مجمع المحاكم الشرعية
TT

مر القضاء السعودي ومؤسساته منذ عهد الملك المؤسس وحتى اليوم بمراحل من التطوير لتحقيق هدف تحكيم الشريعة الاسلامية. والتحاكم إليها كأساس من أسس منهج الدولة الذي تقوم عليه وتسعى جاهدة في سبيل تحقيقه لضمان تحقيق العدالة وسلامة التطبيق.

وقد اعتنى الملك عبد العزيز بتنظيم احوال الدولة ومؤسساتها ومنها مرفق القضاء، حيث بدأ في ترتيب وتنظيم اوضاع المحاكم من خلال عدد من البلاغات والاعلانات وصدور جملة من التنظيمات لعل أهمها اعلان في جريدة «أم القرى» قبل 86 عاما عن «تعيينه للقضاء الشيخ محمد المرزوقي، وقد عادت الدعاوى في المحكمة الشرعية تسير ضمن الاحكام الشرعية. وتعلن الحكومة بأنه لا يجوز لأحد من الناس كائنا من كان ان ينظر في شأن أي قضية من القضايا التي قدمت للمحكمة الشرعية للنظر منها. والحكومة ترغب ان ترى المختصمين يختصمان أمام القضاء ليجيز حكم الشرع في القضايا بغير محاباة ولا مراوغة».

وفي ذلك حفظ لاستقلالية القضاء وسيطرة جهة العدالة على موارد المنازعة وتوحيد جهة الحكم بحيث لا يسمح لاحد ان يتدخل في المنازعات سوى الجهة المعنية بقطع الاحكام، كما وحد الملك المؤسس مصادر الاحكام، وأسس في عام 1926 تشكيلا لدائرة رئيس القضاة في مكة المكرمة. ووضع الملك عبد العزيز في بدايات تأسيس الدولة السعودية، التنظيم القضائي ضمن أولويات اهتماماته، وشيّد الملك المؤسس تنظيما لهذا القطاع يماثل في مراحل تطوره تلك المراحل التي مرت بها تنظيمات الأجهزة الأخرى في الدولة الناشئة.

ونجح الملك عبد العزيز بعد دخول الحجاز في توحيد مصادر الأحكام وتطوير الجهاز القضائي من أشكاله الأولية البسيطة الموروثة من الدول السابقة، إلى صوره المتعددة والمتداخلة التي اقتضتها ضرورات الحياة الحديثة المعقدة والمتشابكة، على الرغم من أن هناك اختلافا واضحا بين الأجزاء التي تكونت منها المملكة، من حيث مصادر الأحكام وأنظمة القضاء وتنظيمه. وذلك لأن الكيان الذي شيده الملك المؤسس، ديني المنشأ والتوجه، فجعل للشريعة مكانا سامقا متميزا في تنظيماته وهو القائل: «...دستوري وقانوني ونظامي وشعاري دين محمد صلى الله عليه وسلم».

ودفع عامل آخر الملك عبد العزيز إلى الاهتمام بالقضاء وتنظيماته، والمتمثل في أن الملك كان ينظر إلى إشاعة العدل كأساس للاستقرار في ربوع دولته ولحفظ كيانها، فالعدل في مفهومه هو القائم على تحكيم الشريعة في جميع مظاهرها، وإخضاع أنظمة الدولة لها. ومن هنا، تظهر أهمية تنظيم الجهاز القضائي وإنشاء المحاكم على اختلاف درجاتها وأنواعها وتخصصاتها، وتمهيد الطريق لبسط نفوذها في البادية والحاضرة معا.

ورصد العقيد الدكتور إبراهيم بن عويض العتيبي، واقع القضاء في البلاد والمراحل التي مر بها التنظيم القضائي في بدايات توحيد الدولة السعودية، والمتمثلة في مرحلة تعدد الأحكام قبل انضمام الحجاز، ومرحلة توحيدها بعد ذلك، ولاحظ الباحث أن التنظيمات الإدارية التي أرسى قواعدها الملك عبد العزيز، شملت جميع الدوائر الحكومية، وكان القضاء من أوفرها حظا، إذ حظي بعناية الملك شخصيا، تقديرا منه لأهمية القضاء في حفظ كيان الدولة.

وأورد الباحث ضمن دراسة تاريخية للتنظيمات الإدارية في عهد الملك عبد العزيز، معلومات عن تعيين القضاة وحصانتهم، وتحذير الملك من التدخل في شؤون القضاء، والتنبيه إلى مخاطر إفساد القضاء بالرشوة واتهام القضاة بها، والتأكيد على استقلال الجهاز القضائي، وإجراءات أخرى بخصوص إعطاء المتخاصمين فرصة المرافعة الشرعية أمام القضاء.

وسجل الباحث حوادث عن عزل قضاة ارتكبوا أخطاء، حيث كان عزلهم من صلاحية الملك. كما لمح الباحث إلى معارضة بعض القضاة لأوامر الملك، وحضوره إلى القاضي في دعوى أقامها مواطن ضد الملك وانتهت لصالح المواطن. كما سجل الباحث ظهور بدايات استئناف الأحكام وإن كانت بصورة بطيئة ومتدرجة.

القضاء قبل الحجاز

* كانت السِّمة البارزة في أسلوب التقاضي خلال هذه الفترة هي البساطة في الأداء، وفي طريقة إصدار الأحكام وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية وآراء الفقهاء من أهل السنة، إلا أنه وجدت مذاهب مختلفة في المناطق التي تكونت منها المملكة العربية السعودية، فتأثر القضاء بهذه المذاهب تأثرا كبيرا. ويستطيع المرء أن يقسّم هذه المناطق من حيث التأثير المذهبي إلى أنواع. ففي منطقة نجد ساد فيها المذهب الحنبلي، ومنطقة الأحساء تعددت فيها المذاهب السنية إلى جانب المذهب الشيعي، لكن المذهب الرسمي للقضاء كان المذهب الحنفي، وهو مذهب الدولة العثمانية. وبعد أن آلت المنطقة إلى الأمير عبد العزيز عام 1912، ساد فيها المذهب الحنبلي، وشبيه بهذا الوضع ما كان سائدا في المنطقة الجنوبية، فقد كانت الغلبة فيها للمذهب الشافعي، أما منطقة الحجاز فقد تعددت فيها المذاهب السنية، وإن ساد المذهب الحنفي مع العثمانيين ثم مع الشريف حسين الذي طور تنظيمات العثمانيين القضائية، مما جعل منطقة الحجاز تختلف اختلافا كبيرا عن بقية المناطق.

ولا شك أن تبني الدولة السعودية، عبر مراحل تكوينها، للدعوة السلفية، رسخ وحدة المذهب الحنبلي في منطقة نجد. وكان من نتائج وحدة المذهب، المساعدة على حفظ الحقوق وعلى الترابط الاجتماعي في فترة الاضطرابات التي عمت المنطقة في أواخر عهد الدولة السعودية الثانية وبعد زوالها، فازدادت مكانة القضاة في نفوس الناس، يفصلون في الخصومات ويقبل المتخاصمون أحكامهم عن قناعة في أغلب الأحيان، حتى في الأوقات التي ضعفت فيها السلطة السياسية، خاصة قبل قيام الدولة السعودية الثالثة.

ومما ساعد على ترسيخ مكانة القضاة أنهم كانوا في الغالب من أهل المنطقة التي يعملون فيها، وكانوا في نفس الوقت يقومون بأعمال توجيهية وتربوية كالتعليم والإفتاء والإمامة والخطابة في المساجد والوعظ والإرشاد، ومنها الاحتساب. وبالإضافة إلى ذلك، فإنهم أعرف بطباع الناس وتقاليدهم، فمثلا ولّي القضاء في الرياض قاض من أهلها هو الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (ت1901). كما ولّي قضاء بريدة من أهلها الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم (ت1905).

بقي القضاء في نجد في بداية عهد الملك عبد العزيز على وضعه السابق، من بساطة في الإجراءات القضائية وعدم وجود محاكم متخصصة. فالقاضي يقوم بنظر القضايا والأحداث التي تقع في منطقته والقرى المجاورة ومناطق البادية التي بالقرب منها، ويحكم بين المتخاصمين أينما كان حتى وهو سائر في الطريق. فيتخذ من مكان وجوده مكانا للحكم بين المتخاصمين، وغالبا ما يصدر الحكم شفاهة، وقلّ أن تجد حكما في قضية مسجلا ما عدا قضايا العقار التي توثق، كما قال حمد الجاسر في لقاء صحافي معه سجل قبل 20 عاماً «...ولا يعدم الإنسان مشاهدة أناس مجتمعين أمام المسجد أو في الطرقات ينتظرون الشيخ ليحكم بينهم». وإلى جانب القضاء يقوم القاضي، أحيانا، بالإمامة والخطابة في مسجد مدينته والوعظ فيها، ويشرف على الإفتاء والإرشاد، ويعقد الأنكحة، ويقوم بمهام كتابة العدل ومأمورية بيت المال.. ويمكن أن يطلق على الأعمال التي يقوم بها القاضي قضاء شمولي، فالقاضي يقوم بأكثر من مهمة دينية. وكان هذا النوع من القضاء متبعا في كافة العصور الإسلامية، وبدرجات متفاوتة من حيث المهام.

ومما زاد في هيبة القضاة واحترام أحكامهم مع بداية حكم الملك عبد العزيز، أن السلطة التنفيذية، المتمثلة في أمير المدينة، أصبحت تتولى تنفيذ الأحكام الصادرة من القضاة بصورة سريعة وفعالة أشعرت الناس بقوة الحكم، ولم يلغ ذلك حق طلب إحالة المتخاصمين إلى قاض آخر في حالة عدم قناعتهم بالحكم الصادر.

وكان القاضي يقوم بتحرير ملخص للقضية وما ظهر له من أسباب الحكم، ويرسلها إلى غيره من القضاة. وإذا اختلف أحد أطراف الدعوى مع القاضي بعد ذلك أو لم يقتنع الأمير بوجاهة الحكم، رُفع الأمر للملك عبد العزيز. وهكذا ظهرت بدايات استئناف الأحكام، لكن في صورة بطيئة ومتدرجة. ولا ريب أن جذور الاستئناف وجدت في القضاء الإسلامي في عهد الخلافة الإسلامية في ما يمارسه والي المظالم.

وإذا حرر أحد القضاة حكما، وتطلب الأمر تصديقه، فإن الملك عبد العزيز يقره ويصدق عليه ويأمر بإنفاذه. وكان (رحمه الله) لا يعترض على ما يأمر به القاضي، ويتشدد أحيانا في تنفيذ الأحكام ليس رغبة منه في العقاب، لكن ليزيد من هيبة الشرع، وليثبت سلطان الدولة في نفوس الناس، ومع ذلك لم يخرج عن صلاحية الحاكم المسلم.

وبلغ من حرصه على مصلحة مجتمعه، وضبط الأمور في الدولة الفتية، أن عين في الرياض قاضيين، أحدهما للبادية والآخر للحاضرة. فالشيخ سعد بن حمد بن عتيق، كان مكلفا بالنظر في قضايا البادية التي تستلزم سرعة البت. وخصص لأبناء الحاضرة قاضيا هو الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ولم تمنع الغزوات الملك عبد العزيز من تحكيم الشرع، فإذا خرج للحرب صحبه قاض للجيش، وقد كان يتولى هذا المنصب في بداية الأمر الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ.

وسار الملك عبد العزيز على ما وجده من تقليد في تولية القضاء لأهل المنطقة التي تنضوي تحت حكمه، ويبقي غالبا على مَن يراه من قضاة المنطقة أو ممن كان على رأس القضاء وقت انضمامها. فقد أبقى قاضي المبرز الشيخ عبد اللطيف عبد الرحمن الملا في منصبه بعد استرجاع الأحساء، وكان قاضيا لها في عهد العثمانيين. وأبقى قاضي الرس، صالح القرناس، من أهلها في وظيفته. وكان معظم قضاة منطقة عسير وجيزان من أهلها. ولعل هذا التقليد هو الذي أخر تعيين علماء من نجد في محاكم مكة المكرمة في بداية انضمامها إلى سلطنة نجد وملحقاتها. غير أن هذا التقليد لم يدم طويلا، فما لبث أن تولى عدد من القضاة النجديين العمل في محاكم الحجاز عامة، وفي مكة المكرمة والمدينة المنورة خاصة، وظهر هذا واضحاً مع بداية إعادة تنظيم المحاكم في الحجاز، ثم أصبح ظاهرة بارزة في جميع مناطق المملكة، مما ساعد في ترسيخ المذهب الحنبلي في كافة مناطق المملكة، لا سيما أن الملك عبد العزيز كان يرسل نخبة من علماء نجد إلى المناطق التي تضعف فيها الثقافة الشرعية.

ولم يعرف القضاء في نجد وملحقاتها تنظيما للجهاز القضائي من مرافعات أو محامين أو تحديد مسبق للجلسات أو درجات للمحاكم أو تنظيم إداري، وكانت الإجراءات القضائية مبسطة ومرنة تلائم طبيعة مجتمع ذلك الوقت.

ويختلف الوضع في منطقة الأحساء، التي كانت متصرفية عثمانية للفترة من 1871 إلى 1912، حيث جعل العثمانيون القضاء يسير بأساليب منظمة، على شاكلة ما كان في أنحاء الدولة العثمانية، وأخضعوها لقوانينهم المكتوبة التي يسود المذهب الحنفي مسائلها الشرعية، فقد كان في المبرز محكمة شرعية تقوم بنظر جميع القضايا الشرعية، وفيها سجلات للضبط، ويعين القضاة من قِبل السلطات العثمانية وتصرف مرتباتهم من مالية المتصرفية. وبعد أن استعاد الأمير عبد العزيز الأحساء عام 1912، أخضع محاكم المنطقة للمذهب الحنبلي.

وكان حال القضاء في منطقتي عسير وجيزان شبيها بما كان في الأحساء، فقد كان القضاة من أهل المنطقة ويرشحهم الوالي العثماني ويصدر تعيينهم من قِبل الأستانة، وتدفع لهم المرتبات من خزينة الدولة يحكمون وفقا للمذهب الحنفي مع أنهم قد لا يكونون من أهل ذلك المذهب.

وكان في أبها محكمتان شرعيتان، إحداهما متنقلة مع القوات العثمانية التي كانت تقوم بحملات تأديبية على القبائل التي تخرج عن طاعة الدولة، ويوجد في المناطق البعيدة عن عاصمة المتصرفية قضاة متعاونون تصرف لهم مكافأة لقاء ما يقدمون من خدمات قضائية للقرى التي يوجدون بها. وبعد أن ضمت المنطقة إلى نجد عام 1920، سارت على المذهب الحنبلي، فقد تولى القضاء في أبها في ذات العام الشيخ ناصر عبد العزيز الفضلي من أهل جلاجل.

وفي صبيا بمنطقة جيزان، أيام الأدارسة، محكمة شرعية عليا مؤلفة من خمسة قضاة يقومون بمراجعة الأحكام التي تصدر من محاكم القرى، وكانت تعقد جلسات على فترتين صباحية ومسائية، ومحاكم منطقة جيزان اتجهت إلى الأخذ بالمذهب الحنبلي بعد التفاهم الذي تم بين السلطان عبد العزيز وبين السيد محمد الإدريسي عام 1919. ثم خضعت كامل محاكمها للتنظيم القضائي في الحجاز بعد اتفاقية مكة المكرمة عام 1926.

أما في الحجاز، فكان التأثير العثماني أكثر وضوحا من غيره من مناطق نفوذهم في أطراف جزيرة العرب، فقاضي مكة المكرمة يعين من قِبل الأستانة مباشرة، ويرتبط بشيخ الإسلام فيها، واستمرت تقاليد القضاء العثماني معمولا بها في الحجاز خلال فترة الشريف حسين، وكان في عهده ثلاثة أنواع من التنظيمات القضائية، فهناك محاكم المدن والبادية والأشراف، لكن الشريف حسين راعى تعدد المذاهب السنية في تعيين القضاة، فقد كانت محكمة مكة المكرمة، تضم رئيسا وثلاثة قضاة، يمثل كل واحد منهم مذهبا من المذاهب الفقهية الأربعة، غير أن محكمة المدينة المنورة تكونت من قاض واحد هو الشيخ عمر كردي، وهو شافعي المذهب. وأنشأ الشريف حسين محكمة للأمور المستعجلة في مكة المكرمة، من رئيس وأربعة قضاة، ومحكمة تعزيرات في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومحكمة تجارية من ستة أعضاء في جدة.

ويُعرض أمام المحكمة الشرعية الكبرى قضايا الإرث وشؤون الأوقاف والمبايعات المالية، وأوكل إلى محكمة الأمور المستعجلة النظر في قضايا الزواج والمطالبات المالية التي لا تتجاوز خمسة آلاف قرش. وتتولى محكمة التعزيرات تقرير العقوبة في القضايا الجنائية، وتقوم المحكمة التجارية بالفصل في المنازعات التجارية والنظر في قضايا الأجانب الذين لا يرغبون التحاكم أمام المحاكم الشرعية. ويدعم هذا التنظيم القضائي إجراءات إدارية مثل رصد أقوال المترافعين وتقسيم الدعاوى وتأجيل الجلسات.

وكان في بادية الحجاز تنظيم قضائي يفصل في قضايا البادية بناء على العرف السائد فيها، ويشرف على تنفيذه موظفون رسميون من قِبل الشريف حسين. أما إذا حصل نزاع بين قبيلتين، فإن الشريف حسين يتولى شخصيا أمر الفصل بينهما، هذا بينما يخضع الأشراف عامة لقانون أبانمي الخاص.

ومما يؤكد توجه الشريف حسين نحو تعدد المذاهب، أنه أشرك مفتين لبعض المذاهب في تشكيل مجلسي الوكلاء والشيوخ، فقد عين السيد عبد الله سراج مفتي المذهب الحنفي، نائبا لرئيس مجلس الوكلاء، وقاضيا للقضاة. كما عين السيدان عبد الله محمد الزواوي مفتي الشافعية، والسيد عابد بن الحسين مفتي المالكية، عضوين في مجلس الشيوخ. ثم ان الشريف حسين سعى إلى تنظيم القضاء من حيث الكفاءة المعرفية والمكانة الاجتماعية، فأسس «مدرسة قضاء الشرع»، لتخريج القضاة، وعلى الرغم من أن هذا التنظيم يوحي ظاهريا بحسن الأداء الوظيفي، إلا أن القضاء في الحجاز في عهد الشريف حسين كان موصوفا بعدم الكفاءة.

وكل هذا يشير إلى أن الشريف حسين أراد الابتعاد عن هيمنة المذهب الواحد على القضاء. ويؤكد ذلك ما يروى أن الشريف فكر في اتخاذ المذهب الزيدي مذهبا رسميا لدولته، لكنه عدل لقلة مراجع هذا المذهب. إن التجربة العثمانية القضائية التي كانت سائدة في الأحساء، وفي منطقة الجنوب، وتطورت بصورة واضحة وجلية مع الشريف حسين في الحجاز، وورثها الملك عبد العزيز وطورها إداريا وتنظيميا، لهذا أثرت في تشكيل التنظيم القضائي في عهده، خاصة أن البلاد قد انفتحت على تجارب حديثة، وبدأ المجتمع يتطور تدريجيا من البساطة إلى التعقيد ومن البداوة إلى التحضر، واستجدت أمور استوجبت تنظيم مسائل الناس في الخصومات والحقوق وغيرها.

توحيد مصادر الأحكام

* ورث السلطان عبد العزيز تلك التجربة القضائية في الحجاز، فأخذ ما فيها من إيجابيات وحاول أن يعالج ما فيها من سلبيات، وكان تعدد المذاهب التي سارت عليه المحاكم في الحجاز قبل توحيد مصادر الأحكام من معوقات الفصل في القضايا، علاوة على طول إجراءات المرافعات الشرعية التي تؤخر إصدار الحكم أحيانا «...لاعتماد الخصوم على استصدار إعلامات شرعية من قضاة ينتمون إلى مدرسة معينة في الفقه». فقد كان القضاة يصدرون أحكامهم وفقا لأحد المذاهب الفقهية الأربعة، وأمام هذا التعدد، رؤُي أنه من المصلحة توحيد مصادر الأحكام والإجراءات القضائية مع الأخذ بالفسح الشرعية من المذاهب الأخرى. وبدأ توحيد مصادر الأحكام بالتدرج لأن وضع الحجاز في تلك الفترة يحتم على السلطان عبد العزيز أن يتريث في اجراء تعديلات سريعة في شؤون الحجاز تحسبا لردود الفعل الداخلية والخارجية.

لقد تعود أهل الحجاز على تعدد المذاهب في التقاضي وتأصل فيهم من أيام العثمانيين، وان أي تغيير مفاجئ في تعاملاتهم القضائية سينظرون اليه بعدم الرضى. وكيف يفرض عليهم السلطان عبد العزيز أمرا من دون قناعتهم؟ وهو الذي وعدهم بالشورى وبالمشاركة في ادارة شؤونهم. ولهذا السبب لم يتسرع السلطان عبد العزيز في فرض المذهب الحنبلي على محاكم الحجاز وقاوم مطالب الاخوان الملحة بتغيير بعض العادات والأنظمة التي كانت سائدة في الحجاز. وحتى لا يغضب السلطان الفريقين. الاخوان وأهل الحجاز، استصدر فتوى جاء فيها: «...وأما القوانين، فإن كان موجود منها شيء في الحجاز فيزال فورا، ولا يحكم إلا بالشرع المطهر». وهذه الفتوى تعالج القضايا التي يحكم فيها بالقوانين الوضعية إذا كانت تخالف الشرع.

وليتجنب الملك عبد العزيز تعريض سمعته لنقد العالم الاسلامي، الذي كان يراقب ما يجري في الحجاز باهتمام شديد، أبقى على بعض التنظيمات القضائية القائمة، التي لا تتعارض مع الشرع، مثل النظام العثماني الخاص بالعقار، فصدر أمر سامي رقم 1166 في 27 يونيو (حزيران) 1927، موجه للنائب العام ورد فيه: «...ان احكام القانون العثماني ما زالت جارية الى الآن. لأننا لم نصدر ارادتنا بالغائها ووضع أحكام جديدة مكانها. لذا نوافق على اقتراحكم بشأن استمرار احكام ذلك القانون. ونطلب منكم أن تبلغوا رئاسة القضاء والحكام الاداريين بالملحقات».

علماء من الأزهر

* وبعد أن استتب الأمر للملك عبد العزيز سعى لتوحيد مصادر الأحكام في محاكم الحجاز. وقد مهد لذلك باستصدار فتاوى ونشر عدة مقالات تدعو الى وحدة المذهب، شارك فيها علماء من الأزهر. فعمل على اعادة تشكيل المحاكم وترتيب أوضاعها الإدارية، وأصدر عددا من الأنظمة القضائية. وخير ما يصور مدى اهتمام الملك عبد العزيز بأمور القضاء قوله: «...فإذا أصلحنا المحاكم هانت الأمور واستقامت الاحوال».

وحتى يضمن الملك عبد العزيز استمرارية التنظيم، أمر باصدار التعليمات التي تنظم الاجراءات الادارية، وتوزع العمل بين الجهات القضائية بما يحقق العدالة ويضمن سلامة التطبيق دون المساس بجوهر الشريعة، فأمر بسن الأنظمة الادارية التي تساعد على تنظيم القضاء، طلبا لحسن الأداء، وتركيزا للمسؤولية وتوزيعا للعمل ليؤدي الجهاز القضائي وظيفته في الاطار العام للشرع ضمن السياسة العامة للدولة.

وحرص على استقلال القضاء وابعاده عن المتناقضات الادارية التي تعارض غالبا كل تنظيم جديد. فكان من أوائل الاجراءات الادارية التي أمر باتخاذها بعد أن دخل مكة المكرمة التحذير من التدخل في شؤون القضاء، داعيا الى اعطاء المتخاصمين فرصة المرافعة الشرعية أمام القضاء، وان يترك للقاضي حرية اصدار الحكم حسب ما يظهر له من الحق. يقول في بلاغ رسمي: «...عين للقضاء الشيخ محمد المرزوقي، وقد عادت الدعاوى في المحكمة الشرعية تسير ضمن الاحكام الشرعية.. وتعلن الحكومة بأنه لا يجوز لأحد من الناس كائنا من كان، أن ينظر في شأن أي قضية من القضايا التي قدمت للمحكمة الشرعية للنظر فيها.. والحكومة ترغب ان ترى المختصمين يختصمان أمام القضاء، ليجري حكم الشرع في القضايا بغير محاباة ولا مراوغة». وعندما صدرت التعليمات المؤقتة للمحاكم عام 1925، حذرت من اتهام القضاء بالرشوة افتراء. وهذا يؤكد حرص الملك عبد العزيز على اصلاح حال القضاء.

ان تعيين مدير القضاء، والتأكيد على ممارسة المحاكم لأعمالها وفقا للشريعة خلال حصار جدة، والتنبيه الى مخاطر افساد القضاء بالرشوة، والتحذير من اتهام القضاة بها، كلها اجراءات قصد منها تأكيد استقلال الجهاز القضائي، ومن ثم توجيه المواطنين الى احترام القضاة وما يتخذونه من أحكام، وحرصا على سلامة الاجراءات، وتناسق الأحكام، كجزء من تطوير القضاء وحسن هيئته، رؤي توحيد مصادر الأحكام.

أسباب الخلاف المذهبي

* أوضح السلطان عبد العزيز في أول بلاغ رسمي وجهه لأهل الحجاز ان القرآن الكريم والسنة النبوية، وما أقره علماء الاسلام بطريق القياس أو الاجماع، ستكون مصادر التشريع، ولم يتسرع في فرض المذهب الحنبلي على محاكم الحجاز. فقد سمح ولفترة وجيزة بتعدد القضاء من المذاهب الاسلامية الأربعة في المحكمة الشرعية بمكة المكرمة، وسعى الى توحيد مصادر الأحكام بتوحيد المذهب بعدة خطوات، منها أمر بعقد لقاء بين علماء نجد ومكة المكرمة في 18 ديسمبر (كانون الأول) 1924 لتقصي أسباب الخلاف المذهبي بينهم وازالته، فكان مما اتفق العلماء عليه ايقاف العمل بجميع القوانين التي تتعارض مع الشرع ان وجدت.

وكان من ضمن اختصاصات المجلس الأهلي بمكة المكرمة اعادة ترتيب أوضاع المحاكم الشرعية: «بصورة تضمن العدل، وتطبيق الأحكام الشرعية». وهذا يعني ان السلطان عبد العزيز أشرك المجلس الأهلي، وهو مجلس استشاري في أمور القضاء حتى يضمن قبول الأهالي للتغييرات بمشاركتهم فيها. ووجه بعد ذلك اهتمامه لتنظيم القضاء ومحاكم الحجاز، فأصدر في 3 مارس (آذار) 1926 تشكيلات مؤقتة لرئاسة القضاء بمكة المكرمة ومعها تعليمات باسم «مواد اصلاحية مؤقتة للمحاكم الشرعية». وتمثل هذه الاجراءات أول تنظيم قضائي بعد مبايعة السلطان عبد العزيز ملكا، ويلاحظ فيها مراعاة تمثيل المذاهب الفقهية الأربعة، ولهذا تشكلت المحكمة الشرعية في مكة المكرمة من: الحنفي السيد محمد المرزوقي أبو حسين، والمالكي السيد عباس مالكي، والشافعي الشيخ أحمد ناضرين، والحنبلي الشيخ حسين عبد الغني، ونصت التعليمات على اعتماد أمهات كتب المذاهب الأربعة في اصدار الاحكام. ويبدو ان الملك عبد العزيز أراد من اجازة هذا التنظيم أن يتأكد القضاة أنفسهم من أن التعدد المذهبي لا يخدم العملية القضائية برمتها، ولا يستغرب بعد ذلك ان تنص التعليمات الأساسية الصادرة في 20 أغسطس (آب) 1926 على أن الاحكام: «...تكون دوما في المملكة الحجازية منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه الصحابة، والسلف الصالح». وهذه اشارة الى توحيد المذهب المعمول به في المحاكم، ولا ريب ان هذا الاتجاه يمثل بداية انحسار حدة التعصب المذهبي والتوسع في اعمال الفكر في التراث الفقهي كله، والاستفادة منه في أحكام القضاء.

وحتى يحد الملك من تعصب قضاة كل مذهب لمذهبهم، تدرج بتعليماته وتوجيهاته آخذا بأيديهم للانفتاح على المذاهب الفقهية الأخرى، فانتقل بهم وبالاجراءات القضائية الى مجال أرحب، فحث علماء الحجاز عام 1927، للأخذ من كل مذهب بما هو اصلح وأوفق لحال المحاكم الشرعية في الحجاز، وخاطبهم قائلا: «...ولما كانت المحاكم الشرعية... من القضايا التي تهمني بنوع خاص... أحببت أن انظر في شؤون المحاكم الشرعية وترتيبها من الوجه المطابق للشرع... والمذهب الذي تقضي به، فليس مقيدا بمذهب مخصوص، بل تقضي حسب ما يظهر لك من أي المذاهب كان ولا فرق بين مذهب وآخر».

وليؤكد الملك عبد العزيز حرصه على تطبيق هذا التوجيه رفض نقض رئاسة القضاء عام 1926، لأخذ الأحكام المبنية على مذهب بعينه، فقد حكم قاضي المدينة وهو شافي المذهب في قضية على مذهبه، فاعترضت رئاسة القضاء على حكم القاضي، ولما عرض الأمر على الملك عبد العزيز قال: «...الذي أرى أنه ما دام القاضي حكم على رأي إمام من أئمة المسلمين وهو الإمام الشافعي، وما دام ان المدعي والمدعى عليه على نفس المذهب، والقاضي يرى أن في هذا تيسيرا للرعية، فالذي أرى أن يؤخذ بهذا وان يؤخذ بكل أمر فيه تيسير على الرعية، إذا وافق مذهبا من مذاهب أئمة المسلمين المعروفين».

ظل نظام المحاكم الشرعية في الحجاز على هذا الحال الى ان صدر مرسوم نظام «أوضاع المحاكم الشرعية وتشكيلاتها» في 2 أغسطس 1927. فقد نص هذا النظام على تشكيل المحاكم بصورة تراعي التخصصات والتدرج في اجراءات الأحكام وتمييزها، كما أخذ بتعدد القضاة في المحكمة الواحدة في مدن الحجاز الكبرى دون الصغرى، فنص النظام على تشكيل محاكم الأمور المستعجلة والمحاكم الشرعية الكبرى في المدن الرئيسية، مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، ومحاكم القرى التي سُميت بمحاكم الملحقات التي تقوم بمهام المحاكم الكبرى والمستعجلة، وتشكلت محكمة للتمييز باسم هيئة المراقبة القضائية في مكة المكرمة، وفي كل محكمة من هذه المحاكم حددت الاجراءات التي ينبغي اتباعها، وواضح من هذا التنظيم الاهتمام بتسجيل الأحكام وتوثيقها، وأوجد التنظيم نوابا ومساعدين للقضاة. وأحدث ادارتين هما: كتابة العدل وبيت المال، وبذلك أصبح القضاء مهيئا للخطوة الثانية وهي توحيد مصادر الأحكام.

بعد مضي سنة على التنظيم الجديد للمحاكم والدوائر الملحقة بها، صدر أمر ملكي ينص على: «...أن مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبق على المفتى به من مذهب الامام أحمد بن حنبل»، نظرا لسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين من بعده بذكر الأدلة، أما اذا وجد مشقة في تطبيق الحكم على المذهب الحنبلي أو مخالفة مصلحة عامة نظر في المذاهب الأخرى».

أما مصادر الفقه الحنبلي التي وردت في أمر توحيد مصادر الأحكام فهي نوعان، أولية وثانوية، فالمصادر الأولية هي: «منتهى الإرادات» للشيخ الفتوحي (ت1565) و«شرح منتهى الإرادات» للشيخ منصور البهوتي (ت1641) و«الإقناع» للشيخ موسى الحجاوي (ت1541) وشرحه «المسمى كشاف القناع عن متن الإقناع» للشيخ منصور البهوتي. فما اتفق عليه الشرحان أو انفرد به أحدهما أخذ به، وما اختلفا فيه فالعمل بما في المنتهى.

وأما المصادر الثانوية فهي: «شرح زاد المستقنع مختصر المقنع» للشيخ موسى الحجاوي وشرح «الروض المربع» للشيخ منصور البهوتي، و«شرح الدليل» للشيخ مرعي بن يوسف المقدسي (ت1623) وشرح «منار السبيل» للشيخ إبراهيم محمد الضويان (ت1934). ويضاف إلى هذه المصادر «المغني» لشمس الدين عبد الله بن قدامة (ت1223) و«الشرح الكبير» لعبد الرحمن ابن قدامه (ت1283). وجميع هذه الكتب في المذهب الحنبلي.

ويبدو أن التطبيق العملي للآراء الفقهية على ضوء المذهب الحنبلي يسر عمل المحاكم فبعد أن كان التنظيم السابق يستوجب اجتماع أعضاء المحكمة جميعهم لإصدار حكم وجدوا أنه لا ضرورة لذلك في التنظيم الجديد، وهذا يعتبر تخفيفا للإجراءات بعد أن صدر أمر ملكي ينص على عدم الحاجة إلى اجتماع اعضاء المحكمة جميعهم فيما نص عليه المذهب الحنبلي، أما ما يتطلب استنباط الحكم اجتهادا، فإن اجتماع أعضاء المحكمة لإصدار الحكم أمر واجب.

تعيين القضاة وحصانتهم

* أدرك الملك عبد العزيز أن قوام العدل إنما يتم في وجود القضاء النزيه، فأولى موضوع اختيار القضاة اهتماما خاصا. فكان يختار القضاة من أعف العلماء وأصلحهم ويحيطهم برعايته، فجعل تعيينهم وفصلهم ونقلهم متعلقا به شخصيا ولم يسمح لأحد من أسرته أو كبار المسؤولين في دولته بالتدخل في شؤونهم. أو في شؤون القضاء. وخير ما يصور رعاية الملك عبد العزيز للقضاة هو تصنيفهم في السلم الوظيفي لموظفي الدولة، فعندما صدرت التعليمات المؤقتة عام 1927 كان القضاة ضمن المجموعة الأولى التي سميت أركان الدولة، وأكد هذا الاتجاه ما صدر في عام 1928 من تنظيم لموظفي الدولة إذ كان القضاة من ضمن المجموعة الأولى التي يعينها الملك شخصيا. وثبت وضعهم هذا في أول نظام صدر للموظفين عام 1931.

ولما أعيد تصنيف الموظفين عام 1945 إلى إحدى عشرة مرتبة، أصبح رئيس القضاة في المرتبة الممتازة. وباقي القضاة ضمن مجموعة المرتبة الثالثة. ولم يتغير هذا السلم الوظيفي للقضاة عندما عدل سلم الوظائف عام 1954.

وكانت مرتبات القضاة الشهرية عالية إذا قيست بغيرهم من الموظفين، فمثلا كان راتب قاضي مدينة الأحساء عام 1940 ألفا وستمائة وخمسين قرشا (1650) بينما راتب مدير المعارف في المقاطعة في الفترة نفسها ألفا وخمسمائة قرش (1500) ولعل هذا يوضح توجه الملك عبد العزيز إلى المحافظة على سمعة القضاء وحصانته، ولذلك لم تخفض مرتبات القضاة عندما خفض ثلث مرتبات موظفي الدولة كجزء من خطة تقليل الإنفاق الحكومي لمواجهة الأزمة العالمية التي واجهت المملكة كما واجهت معظم دول العالم بسبب الحرب العالمية الثانية، يقول خطاب رئيس الديوان الموجه إلى النائب العام «...أما ما يتعلق بإنقاص راتب قاض.. فإن جلالته لا يوافق على ذلك، وإن الذي أشار بالتنقيص يعتبر غاشا للحكومة». ويحرص الملك عبد العزيز على عدم تأخر صرف مرتبات القضاة، فقد علم أن راتب قاضي حائل تأخر صرفه، وأن رواتب الوعاظ في أبها لا تكفي لمتطلباتهم. علاوة على تأخر صرفها، فوجه خطابا للنائب العام يقول فيه: «..من أين تريدون الناس يأكلون حالا الذي للشيخ... يسنع (يصرف) بدون تردد والوعاظ الذين في أبها واسوهم بأمثالهم، واصرفوا لهم حالا. لا يتأخر لهم شيء أبدا». وكان يخصص للقضاة عوائد سنوية علاوة على مرتباتهم. ويعفيهم من بعض الرسوم التي كانت تؤخذ على موظفي الدولة.

وكان عزل القضاة من صلاحية الملك عبد العزيز شخصيا، فقد ارتكب قاضي بلدة الليث عام 1939 خطأ استوجب فصله، فلم يفصل إلا بعد أن صدر أمر ملكي بعزله. وعُزل قاضي الظفير عام 1940 بأمر ملكي. ويرتبط بهذا تشديد الملك عبد العزيز على حصانة القضاة. فأول بلاغ أصدره بعد أن دخل الحجاز كان يقضي بعدم التدخل في شؤون القضاة والقضاء. ويحذر من اتهام القضاة بالرشوة أو الافتراء حماية لهم من الادعاءات الباطلة. ومما درج عليه مخاطبة القضاة بعبارات الود والاحترام. يقول في رسالة إلى الشيخ عبد الله بن بليهد رئيس القضاة مؤرخة في 24 أبريل (نيسان) 1926 «...الله يديم لنا وجودكم ويكثر من أمثالكم». ويقول في أخرى إلى الشيخ عثمان بن بشر قاضي الجفر «...مع إبلاغ السلام العيال ومن عندنا العيال يسلمون». وكان يجل العلماء ويقربهم منه في مجلسه، ويصحبونه في سفره، ويأكلون معه على مائدته. ووصى الأمير سعود ولي عهده قائلا: «...أوصيك بعلماء المسلمين خيراً. احرص على توقيرهم ومجالستهم وأخذ نصيحتهم». وهذه الرعاية والمكانة للقضاة أعطتهم الاحساس بالأمان على مستقبلهم الوظيفي، وأشعرتهم بالحرية في العمل القضائي دون الخوف من تدخل أحد في شؤونهم.

ومما أكسب القضاة الاحترام، أنهم كانوا على قدر كبير من الصلابة في الحق، فأحيانا كانوا يعارضون أوامر الملك عبد العزيز حتى لا تخرج عن أحكام الشرع. وعلى ذلك عدة شواهد منها.

حصل خلاف في عام 1923 بين أقرباء في تقسيم إرث، وكلف السلطان عبد العزيز من يصلح بينهم، فأرسل ورقة الصلح للقاضي سعد بن عتيق ليصادق عليها. ولكن القاضي رفض التصديق ما لم يحضر أمامه المتصالحون. وأعاد الورقة مع المندوب قائلا: «...إن صلحا يا ولدي يحصل على يد من بيده السلطة قد يكون أحد الطرفين مغبونا، ويخشى الاعتراف بغبنه». ولما حاول الأمير عبد العزيز إقناع القاضي بأن الصلح تم بقناعة الورثة وبمعرفته هو شخصياً أصر القاضي على موقفه، فاحترم الأمير عبد العزيز رأي القاضي.

وعندما استعاد الأمير عبد العزيز الأحساء من العثمانيين أصدر أمرا يحظر على المحاكم التعرض لحجج الاستحكامات التي صدرت في عهد العثمانيين، ولكن قاضي الاحساء عبد العزيز بن عبد الرحمن بن بشر نظر قضية رجل أعمى، أخذ عقاره ظلما في عهد العثمانيين، وحكم القاضي بإعادة العقار لصاحبه. إلا أن المتغلب على العقار اشتكى للأمير عبد العزيز الذي كان موجوداً في الأحساء. فغضب الأمير عبد العزيز وأنب القاضي على تجاهله أمر منع نظر الإعلامات السابقة، وأمره بنقض الحكم، ولكن القاضي رفض نقض الحكم واستقال لما أصر الأمير عبد العزيز على نقض الحكم، وما لبث أن أعاد القاضي إلى عمله بعد ثلاثة أيام، ونفذ حكم القاضي نفسه.

وحكم قاضي الرياض في عام 1920 على امرأة بالرجوع إلى بيت زوجها. ولكنها هربت إلى منزل أحد الأمراء طلبا الحماية. ولما بلغ الأمير عبد العزيز الأمر أمر بإنفاذ حكم الشرع وإلا فانه شخصياً سيقوم بدخول المنزل وإخراج المرأة «...لتنفيذ أمر الشرع».

وادعى شخص بعد أن مات الإمام عبد الرحمن (ت1927) أن له في ذمة الإمام مبلغا من المال. وطالب الملك عبد العزيز بالوفاء عن والده. ولما طالبه الملك عبد العزيز بالبينة قال المدعي اذهب معي إلى الشيخ، وذهب معه بعد صلاة الفجر إلى منزل القاضي سعد بن عتيق، ولما عرف القاضي أن بينهما دعوى لم يدخلهما منزله بل أجلسهما على الأرض أمام المنزل.. وبعد أن انهى الحكم لصالح المدعي، انصرف راضيا، وهنا أدخل القاضي الملك عبد العزيز إلى منزله، وقال: «...أنت الان ضيفي».

وشددت الأوامر على أمراء المناطق بعدم التدخل في شؤون القضاء. يقول الملك عبد العزيز في خطاب للنائب العام: «...إن المواد التي اتفق فيها مجلس الشورى مع رئاسة القضاء تنفذ.. والتي لم توافق.. رئاسة القضاء على تنفيذه لا ينفذ».. ويقول في تعميم الدوائر الحكومية، «...أي أمر قد خلصه قاض من علماء المسلمين وعليه خطه (أي ختم القاضي) فهذا لا نجيز لأحد من قضاتنا اعتراضه بل يبقى على ما هو عليه قطعيا. ويلزم العمل به». ويوجه أمير المدينة بخطاب يقول فيه: «...ولا تمضي بشيء إلا بأمر المحكمة الشرعية.. أما ترتيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحاكم... فالعمل على ما يرى الشيخ عبد الله بن حسن فيعمل به».

وأصدر مجلس الشورى في عام 1938 أمرا يقضي بعدم تدخل أمراء المناطق في شؤون المحاكم. وأكد على ذلك نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي الصادر في العام ذاته، حيث نبه على مفتشي المحاكم عدم التدخل في شؤون القضاء، أو التعرض لإجراءات المرافعات الشرعية، وعندما صدر نظام الامراء والمجالس الإدارية عام 1940 حظر على الأمراء التعرض للمحاكم أو التدخل في شؤونها.