معدلات الانتحار في السعودية تقفز إلى 185% خلال 12 عاما

دراسة ميدانية تطالب بإنشاء مكاتب على مدار الساعة في المستشفيات لاستقبال أصحاب المشكلات

شهد الجسر المعلق في الرياض العديد من حالات الانتحار لذلك حرصت الأمانة على تطويقه بسياج مانع للحد من حالات الانتحار («الشرق الأوسط»)
TT

قادت إحصائية رسمية صادرة عن وزارة الداخلية، حول زيادة نسبة حالات الانتحار أو محاولة الانتحار في السعودية خلال عام 2006، باحثاً سعودياً للمطالبة بإنشاء مكاتب مفتوحة على مدار الساعة في المستشفيات الرئيسة، يعمل بها أخصائي نفسي أو اجتماعي لكي يجد من يقرر الانتحار من يتصل به ليعرض عليه مشكلاته عسى أن يجد لديه حلاً فيتراجع عن قرار الانتحار، إضافة إلى ضرورة خضوع كل طالب وطالبة لفحص نفسي شامل تقيم فيه الحالة النفسية والاجتماعية وإثباتها في سجل خاص داخل السجل الشامل بالمدرسة وذلك لمتابعة الحالات ذات الميول الانتحارية. وكانت إحصائية صادرة عن إدارة التخطيط والإحصاء في وزارة الداخلية كشفت عن زيادة في نسبة حالات الانتحار أو محاولة الانتحار في السعودية خلال الفترة من 1994-2006، وهو العام الذي سجلت فيه 261 حالة انتحار، بنسبة 185 في المائة، محققة زيادة بمقدار الضعف في هذا العام مقارنة بسنة الأساس 1994.

وبلغ عدد محاولات الانتحار خلال الفترة نفسها 370 حالة، بنسبة 649 في المائة لعام 2006، مسجلة ارتفاعاً وصل خمسة أضعاف مقارنة بسنة الأساس 1994، ما يبين تنامي حوادث الانتحار، ويحتم على دراسة هذه الظاهرة الجديدة في المجتمع.

وسجلت منطقة الرياض أعلى نسبة في حوادث الانتحار أو محاولة الانتحار، من بين جميع مناطق السعودية، بينما كانت منطقة القريات من أقل المناطق تسجيلاً لها، وذلك وفق دراسة قام بها الدكتور صالح الرميح، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الملك سعود بالرياض حول «العوامل المؤدية لمشكلة الانتحار وأساليب الحماية»، وهي دراسة اجتماعية ميدانية طبقت في مدينة الرياض.

وذكر الدكتور الرميح أن بحثه يأتي لندرة الدراسات الاجتماعية التي اهتمت بهذه الظاهرة، بالرغم من أهميتها والعوامل المؤدية إلى ارتفاع معدلات ظاهرة الانتحار وأساليب الحماية منها، سواء كانت عوامل نفسية واجتماعية واقتصادية، أو عوامل أخرى يمكن من خلالها توجيه نظر المسؤولين الى وضع السياسات الخاصة برعاية الشباب أو الفئات الأخرى مثل المسنين، وان يوضع ذلك في الاعتبار عند التخطيط لأية برامج وقائية.

وأضاف الدكتور الرميح بأن أهمية البحث تكمن كذلك في توجيه نظر أولياء الأمور بالطرق والوسائل التي يمكن أن تستخدم لمنع حدوث الانتحار ومحاولة علاج المشتبه في محاولته الانتحار قبل حدوثه، والتعرف أيضاً على وجهة نظر الشباب وأولياء الأمور بالنسبة لمحاولي الانتحار، إضافةً إلى وجهة نظر الخبراء في هذا المجال.

وأوضح الرميح أن عينات الدراسة التي أجريت في الرياض وجُمعت بياناتها خلال الفترة من 20 يناير (كانون الثاني) 2007 إلى 18 أبريل (نيسان) من نفس العام، تكونت من ثلاث فئات رئيسية هي الأفراد الذين حاولوا الانتحار وتم إنقاذهم، وبلغ عددهم 90 فرداً وافق 76 منهم على التعاون مع الباحث، وأجريت لهم المقابلات في المستشفيات العامة (مدينة الملك فهد الطبية، مستشفى الملك سعود، مستشفى الأمير سلمان، مستشفى الملك خالد الجامعي، مستشفى الأمل ومستشفى قوى الأمن الداخلي). وتكونت الفئة الثانية من أولياء أمور المنتحرين، حيث وافق 10 أفراد منهم فقط على الاسترشاد بآرائهم، فيما رفض الباقون التعاون، وربما يعود ذلك إلى شعورهم بالخجل إزاء ما قام به أبناؤهم وبناتهم من محاولة الانتحار. والفئة الثالثة تكونت من الأفراد المودعين بدار الملاحظة بالرياض وعددهم 66 فرداً، وبدار التوجيه الاجتماعي 60 فرداً، والفتيات المودعات بدار رعاية الفتيات وعددهن 52 فتاة، حيث كانت نسبة المبحوثين من الذكور 67 في المائة، والإناث 33 في المائة، مما يبين أن الذكور أكثر ميلاً للانتحار من الإناث، وذلك لأن الإناث يحظين بالرعاية الاجتماعية من الأسرة، كما أنهن أقل تعرضاً للاصطدام بمشكلات الحياة.

وكشفت نتائج الدراسة أن نسبة 32 في المائة من المبحوثين ينتمون للفئة العمرية من 20 إلى أقل من 24 سنة، و22 في المائة منهم تبلغ أعمارهم ما بين 24 سنة و29 سنة، أي أن أكثر من نصف عدد المبحوثين هم من الشباب.

وبينت الدراسة أيضاً الحالة الاجتماعية للمبحوثين، حيث بلغت نسبة العزاب 55 في المائة، ونسبة المتزوجين 33 في المائة، فيما سجلت نسبة المنفصلين 7 في المائة رغم أنهم يعانون من عدم الاستقرار الأسري، إلا أن نسبتهم أقل من نسبة العزاب، وهذا يعني أن ثمة روابط تشد أفراد هذه الفئة إلى الحياة بصرف النظر عن أوضاعهم الاجتماعية القلقة. فيما أتت نسبة العاقدين (المقبلين على الزواج) 5 في المائة من المبحوثين، فهم وإن كانت تنتظرهم حياة زوجية في المستقبل القريب إلا أنهم أرادوا التخلص من حياتهم.

وكشفت الحالة التعليمية للمبحوثين أن أكثر من نصف المبحوثين (57 في المائة) من الحاصلين على مؤهلات متوسطة وثانوية والذين لم يمكنهم الوصول لمراكز مهنية عليا في المجتمع، وهم ليسوا من الأميين الذين لا يعلقون على أوضاعهم التعليمية آمالاً عريضة، لذلك فهم أكثر حساسية في مجتمع سريع التغير، وسجلت نسبة 24 في المائة منهم من الحاصلين على مؤهلات جامعية، و18 في المائة منهم من المتعلمين تعليماً ابتدائياً، ومبحوث واحد أمي.

واوضحت الحالة المهنية للمبحوثين أن 79 في المائة منهم من العاطلين عن العمل، وهم يتكونون من 51 في المائة منهم ممن لم يسبق لهم العمل على الإطلاق، و28 في المائة ممن سبق لهم العمل وأصبحوا عاطلين، وتشير هذه الإحصاءات إلى أن غالبية من حاولوا الانتحار بلا عمل، وبالتالي بلا مصدر رزق في زمن يعاني فيه المجتمع من تعدد الاحتياجات وغلاء المعيشة.

وأشار الدكتور الرميح إلى مستوى دخل الفرد الذي يعد أحد المقاييس الاقتصادية والاجتماعية المهمة التي يعتمد عليها علماء الاجتماع في تحديد نمط حياة أعضاء الأسرة ونظرتهم للحياة وقيمتهم الثقافية، حيث بينت الدراسة أن نسبة 41 في المائة من جملة عدد المبحوثين يتراوح دخلهم ما بين 2000 إلى 6000 ريال، حيث لا يوفر لمن لديه أبناء نمطاً جيداً من المعيشة، في حين شكلت نسبة 26 في المائة ممن يتراوح دخلهم ما بين 6000 إلى 10000 ريال وهذا المستوى المتوسط من الدخل لا يفي بمتطلبات الحياة المتزايدة في المجتمع الحديث، ونسبة 22 في المائة يبلغ دخلهم أقل من 2000 ريال، ونسبة 11 في المائة دخلهم 10000 ريال وأكثر، وهذه الفئة يمكن أن نعدها من القادرين اقتصادياً وهي تمثل أقل نسبة من المبحوثين، وبلغت النسبة الأكبر 63 في المائة من محدودي الدخل.

وأبان الدكتور الرميح أن الإساءة الموجهة من الوالدين لأبنائهما غالباً ما تكون عاملاً مشجعاً لإقدامهم على الانتحار، حيث تبين أن نسبة 49 في المائة من المبحوثين كانوا يتعرضون لسوء المعاملة من الوالدين وبصفة دائمة، و38 في المائة كانوا يتعرضون لسوء المعاملة أحياناً، وبالنظر لمجموع هاتين النسبتين من الأفراد الذين تعرضوا لإساءة المعاملة من الوالدين نجد أنها بلغت 87 في المائة، وهي تشكل نسبة كبيرة ولافتة للانتباه. وسجلت نسبة من لم يتعرضوا لإساءة المعاملة ومع ذلك حاولوا الانتحار 13 في المائة، مما يوضح أن إساءة المعاملة ليست العامل الوحيد للانتحار وإنما قد تكون عاملاً مهيئاً للإقدام عليه. وأوضح الدكتور الرميح أن البحث بين وجود نسبة من المبحوثين تأثروا بتجربة انتحار سابقة في محيط الأسرة التي قد تكون تعاني من تصدع نتيجة أمراض نفسية أو اكتئاب، حيث بلغت نسبة من انتحر أخوة لهم 8 في المائة، و4 في المائة انتحرت أخوات لهم، بينما كانت نسبة 88 في المائة من المبحوثين لم يسبق أن انتحر أحد أفراد أسرهم.

وذكر أن بعض الباحثين يرى أن هناك ارتباطاً قوياً بين إدمان المخدرات أو المواد الكحولية والانتحار، وذلك لأن المواد المخدرة تضعف قدرة الفرد على التحكم في ذاته فيصاب بالاضطراب وعدم الرشاد.

وعلى خلاف هذا الرأي ذكر الدكتور الرميح أن 63 في المائة من المبحوثين لم يتناولوا أي مخدر أو مواد كحولية عند محاولتهم الانتحار، وذهب 37 في المائة إلى أنهم تناولوا مخدراً أو مادة كحولية لتشجعهم على الانتحار، ولكن لا يمكن الاستنتاج أن هذه النسبة من المبحوثين تعد من المدمنين.

وأضاف أن غالبية المبحوثين يعتقدون أن الانتحار عمل محرم دينياً، حيث بلغت نسبتهم 86 في المائة، فيما تعتقد نسبة 14 في المائة أن الانتحار عمل غير معاقب عليه. وأبان الدكتور الرميح أن الغاية المقصودة أو الهدف من الانتحار هو فرض عزلة أبدية عن المجتمع الذي يئس المنتحر من البقاء فيه، فقد أوضحت الدراسة أن 91 في المائة من أفراد العينة لم يكن أحدهم يتمنى أن ينقذه أحد، وهذا يدل على نية الانتحار والإصرار عليه، وسجلت نسبة 9 في المائة من المبحوثين أنهم كانوا يتمنون أن ينقذهم أحد، وفي هذه الحالة ترى الدراسة أن الانتحار كان عملاً أقرب إلى التهديد منه إلى الفعل المقصود.

وتوضح المقابلات التي أجريت أثناء البحث أن تكرار محاولة الانتحار صدر عن ثلاث فتيات وشابين، وبلغت نسبة من حاولوا الانتحار مرة واحدة 93 في المائة، و7 في المائة حاولوا الانتحار مرتين، ويعد لجوء المبحوثين إلى الانتحار في المرة الثالثة نوعاً من الضغط على الأسرة للاستجابة إلى مطالب معينة، والراجح أن تكرار محاولة الانتحار يقع من الفرد إذا كانت محاولات إنقاذه عالية وباستخدام أدوات انتحار بطيئة المفعول.

وخلصت الدراسة إلى أنه لم يختلف الأفراد المودعون بدور الملاحظة والتوجيه ودور رعاية الفتاة في آرائهم عن عينة الأفراد الذين حاولوا الانتحار بأنهم أكدوا على أن عدم مساعدة الأهل والأصدقاء للفرد كان من دوافع الانتحار، مشيرة إلى أنه لو تم النظر إلى إلحاق هؤلاء الأفراد بدور الرعاية للتقويم والإصلاح لأمكن القول انه شكل من العقوبة مرادف للانتحار، حيث ان الفعلين يشتركان في إقصاء الفرد عن باقي أفراد المجتمع. ويذهب هؤلاء المودعون بدور الرعاية والفتيات المودعات بدور رعاية الفتيات إلى أنهم يفتقدون حب الأسرة والاهتمام من الآباء والأصدقاء، وتمنى 87 في المائة منهم لو أنهم لم يأتوا إلى الحياة. من جهته يرى الدكتور علي الغامدي، عميد عمادة البحث العلمي (السابق) في جامعة الملك سعود، وضمن المشاركين بالدراسة، أنه يمكن حصر حوادث الانتحار والتقليل منها من خلال اعتماد الإجراءات العملية التي تبنتها نظرية المقاصد، وهي مبنية على التعليمات الإسلامية لحفظ الذات الإنسانية والمتضمنة عدة وسائل منها حفظ الدين الذي يمكن تحقيقه بالحرص على التمسك بالدين من قبل الوالدين باعتبارهما القدوة لأبنائهما، وكذلك تعليمه للأبناء وغرسه في نفوسهم بالطرق والأساليب التربوية الصحيحة القائمة على أسس علمية، وكذلك بتعريف الناس على حقيقة الدين بكافة فئاتهم، وبتهيئة مناهج التعليم الرسمي (مدارس، معاهد) وغير الرسمي (المحاضرات، الندوات، الإرشاد والتوجيه) كوسيلة لنشر الوعي للأفراد للوصول بالمجتمعات إلى درجة من الإدراك لإحياء الرقابة الذاتية للأشخاص والوعي التام ضد الانحراف.

وأضاف الدكتور الغامدي أن من بين التوجيهات التي يمكن أن تساعد في حصر حوادث الانتحار حرص الفرد على عدم الدخول في مغامرات مالية أكبر من طاقة الشخص، لما يسببه ذلك من أضرار مادية ونفسية على الفرد، وكذلك الاهتمام برعاية الأشخاص الذين يتعرضون لظروف خاصة، كالأيتام والمعاقين والمصابين بأمراض مزمنة، أو الذين يتعرضون لتشوهات جراء التعرض لحادث حريق وغيره، وإيجاد فرص عمل مناسبة لجميع الفئات، كل حسب قدرته ومستوى تأهيله، وذلك بمشاركة القطاعين العام والخاص.

وفي علاجه لظاهرة الانتحار أوصى البحث بتأمين الشباب ضد البطالة وتوفير فرص العمل لهم، وتطوير أنظمة العمل بعض الوقت (الدوام الجزئي) في المؤسسات السعودية لكي يجدوا مصادر للدخل تخفف من أعباء عائلاتهم.