سوق عكاظ... هيئة الأمم المتحدة وشرعية القانون

نكست الفرسان رماحها وتناست فيه العرب ثاراتها

المخيم المعد لحفل تدشين سوق عكاظ الأثري («الشرق الأوسط»)
TT

«هيئة الأمم المتحدة» و«سوق عكاظ» يحملان نفس الأبعاد السياسية اللهم اختلاف الأزمنة والتضاريس العمرانية، فقد شب عكاظ في صباه وهو يعنى بالسياسة ويجسد مضامين العدالة وقوانين الإنصاف، ومن الممكن كذلك تسمية عكاظ ب «وكالة الأنباء العالمية» التي تبث الخبر من عمق الحدث لتصل عن طريق أثير التواتر إلى جميع أصقاع الدنيا، وندوةً سياسيةً مستقلة تفصل خصومات القبائل وتجسر دعائم الحق والقانون، ومؤشر سلم وهيئةً استشارية لا ترائي أبداً وتوظف «البربوقاندا» لنصرة الضعفاء وإرساء عتبات السلام.

ولك أن تتخيل أن من يأتي بعمل مشين في أي قطرٍ عربي، فإن عكاظ تشهر في وجهه رايات الغدر، ليعرف ويلعن وتتجنبه القبائل العربية، ومن أراد كذلك أن يتنصل من قريب فإن ساحات التبرئة تفرد راحتيها له، وهي المنبر الذي يتسامى فيه كلٌ بلقبه ليكون لصيقه حتى مماته، فيه قاتل أبو ربيعة بن المغيرة من قريش يوم شرب (وهو من أيام عكاظ) برمحين فسمي ذا الرمحين وبه يعرف.

ومن القصص، ذات المغزى، قصة خولة بنت ثعلبة تستوقف عمر بن الخطاب في خلافته فيقف لها فتقول:«إيه يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تزع الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين».

ويتعدى عكاظ بمفهومه السياسي، كل المناحي ليشكل منظومةً عدالية فيها روح الإنصاف، فالأمن فيها يسود، يرى المتسوق من له عليه ثأر أو من كان يتحين الفرص ليجده فلا يتعرض له بسوء ما دامت السوق قائمة، وبلغ الأمن بعكاظ مبلغاً جعل العرب يأخذون معهم أموالهم ونساءهم وصبيانهم.

وكانت تنسى القبائل في عكاظ ثاراتها، احتراماً للمكان، واحتراماً للحاضرين وكبار الشخصيات، ويتعين على من يأتي إلى عكاظ أن ينكس رمحه، حتى ولو كان من وجهاء القوم وأعيانهم، لأن استشراء السلاح منظرٌ غير مرغوبٍ فيه في جوانب عكاظ، ما دامت السوق قائمة، لأنها في الشهر الحرام، فهذه قبيلة عبد الله بن العجلان صاحب هندٍ لها وعليها ثارات مع قبائل أخرى ومن بينها قبيلة هند بنو نمير فأراد عبد الله المضي إلى بلادهم ليرى هنداً «فمنعه أبوه وخوفه الثارات وقال له نجتمع معهم في الشهر الحرام بعكاظ أو مكة».

وكانت العرب تولي المسألة الأمنية اهتماماً كبيراً في عكاظ وتأصلت مفاهيمية الأمن داخل النشء وقلوب الفتية الأشداء بل تطور الأمر للفرسان الذين تطوعوا للقيام بهذه المهمة، قواتٌ تحفظ أرواح الزائرين، وهي المخولة فقط بحمل السلاح وتتمركز في كل مناحي عكاظ، حتى إذا استتب الأمن، أنشد الشعر ورفعت القباب وقويت وشائج اللحمة المجتمعية وعرف العرب أخبار العرب وعرفت كذلك مستجدات العلوم وخلاصات التجارب العملية في جميع الأقطار، ليصبح عكاظ الرقعة الجغرافية الأكثر أمناً في ساحات الحرب التي سالت فيها الدماء وقل عطاء السماء.