الفريق عبد الله البصيلي.. حارس الملوك

تمرد على رعب الجوع والعوز.. أصبح رمزاً للبذل والخير

الملك خالد بن عبد العزيز خلال احدى زياراته الخارجية وإلى يمينه الفريق أول عبد الله البصيلي («الشرق الأوسط»)
TT

عُرف العسكريون عند عامة الناس بالصرامة، وبتنفيذ الأوامر وتطبيق التعليمات بدقة متناهية، بل ذهب البعض إلى وصم العسكريين ببُعدهم عن الإنسانية وافتقادهم روح المبادرات في مجالات الخير، بل وشكك البعض في قدرتهم على الإبداع في جوانب أخرى من الأنشطة الإنسانية المختلفة.

لكن الواقع يخالف ذلك، فقد سجلت الأحداث التي شهدتها بعض مناطق العالم، أن بعض العسكريين عندما خلع زيه العسكري وأودع نياشينه وأوسمته ورتبه أدراج ذكرياته، اتجه إلى الأعمال الخيرية والتطوعية وسلك دروب الآفاق الإنسانية، فبدلا من أصوات قرع أحذية الجنود، ووقع أصوات ضرب التحايا من الاقدام، وتفقد الطوابير، وتوزيع النظرات على الجموع عندما يسير مسؤولا أو ضيفا وسط هؤلاء الجموع، بدلا من كل ذلك، اتجه إلى طفل يتيم ليمسح دمعته ويحتضنه ويشعره بأن أباه لم يمت وأنه بمثابة والده ويناوله هدية ثمينة، أو يتجه إلى رضيع تملأ صرخاته أرجاء منزله الآيل للسقوط وهو يتضور جوعاً بانتظار علبة حليب تسد رمق جوعه أما لان امه رحلت عن هذه الدنيا أو لانها عجزت عن إرضاعه، أو لعله اتجه إلى مريض بالكلى يئن ويتلوى منتظرا في طابور طويل دوره للوصول إلى جهاز غسيل الكلى بعد معاناة استمرت أياما للقدوم إلى المكان، ولعله يتجه إلى معاق للتخفيف من إعاقته وتأهيله ليكون فردا يعتمد على نفسه ويندمج في مجتمع الأسوياء، أو يذهب إلى مصلّ في قرية نائية ينتفض من البرد أو يتصبب عرقا من الحر في مكان مكشوف بانتظار محسن يعمّر مسجدا ليؤدي فيه مع أبناء قريته الصلوات المفروضة بعيدا عن الحر والقر ويضمن لهم الطمأنينة والخشوع في تأدية الركن الثاني من أركان الإسلام، أو قد يكون قد وقف على وضع امرأة مسنة تتوشح رداءها متسمّرة في مصلاها تدعو الله أن يرأف بحالها ووحدتها بعد أن فقدت عائلها وأسرتها وأصبحت حبيسة جدران غرفة مظلمة مستأجرة وقد تناثرت في أرجائها بقايا أكياس الأرز والدقيق والبصل وعلب الزيوت الفارغة وأوان ضاعت معالمها بسبب قِدمها وكثرة استخدامها، وموقد غاز سدت فتحاته بقايا الأطعمة وأوراق الشاي وحثل القهوة والهيل بعد أن عجزت صاحبته عن تنظيفه منها بسبب الكبر أو المرض أو ضعف البصر!.

هذا الحضور الخيري والإنساني والتطوعي قد يتكرر من قِبل أفراد في أنحاء متفرقة من العالم، لكنه يتم على نطاق محدود جدا بعيدا عن الضجيج الإعلامي الذي غلّف ويغلّف الأعمال الخيرية والتطوعية للمؤسسات والأفراد.

في البكيرية، إحدى مدن القصيم، حيث يتوقع أو لا يتوقع ظهور أحد، ظهر عبد الله بن راشد البصيلي، هذا الرجل الذي حيّر الكثيرين في حضوره اللافت في العمل الخيري بمختلف أوجهه، وأعجزهم عن سبر أغواره ودوافعه، وقبلها حيّرهم في أسلوبه في الحياة وعصاميته وجلّده وصبره منذ أن التحق بالعمل الحكومي برتبة جندي حتى وصل إلى منصب قائد الحرس الملكي برتبة فريق أول إلى أن ترجل من هذا المنصب تاركا سيرة عطرة وبريقا مؤقتا يختفي بعد سنوات كعادة كل مَن يتسنّم عملا مهما ثم يترجل منه.

لم تمض سنوات طوال ليعود البصيلي إلى الأضواء مجددا، لكنها أضواء بعيدة عن حراس الشرف واستقبالات القادة وضيوف البلاد، والسير قرب الملوك والقادة، وتنظيم وصولهم إلى المناسبات، أضواء لم ينشدها ولم يسع إليها، بل غلّفها بالصمت ولا غير.

لقد دخل العسكري الذي أؤتمن على حراسة الملوك، مجال الأعمال الخيرية ليصبح أحد رموزه ورواده، وقدوة ودرسا في البذل والعطاء بلا حدود ولا ضجيج، ينفق من ماله الخاص الملايين من الريالات على مشاريع الخير واعمال البر، في حين يكتفي بالصرف على نفسه من راتبه التقاعدي.

* تراجيديا وأسطورة البصيلي

* عندما التقيت الرجل ذات مساء في منزل شقيقه عبد العزيز البصيلي في الرياض، شعرت أنني أمام رجل يختلف عن كل الرجال، خُلقا وتواضعا وكرما وطيبة وبذلا وعطاء، واكتشفت أن في داخله جوانب تنم عن شخصية فريدة تذكّرنا بشخصية العربي القديم الذي أنشأ لوحات من القصص الحركية أقرب إلى التراجيديا والأسطورة، ليحولها بعفوية إلى رموز كبرى في الحياة والوجود في صراعه ضد الدهر بتقلبه وتغييره للأحوال وغموضه ومعقوليته ولامعقوليته في تسلسل الأسباب والنتائج، وفي تقلب إيقاع الزمن وفي تأجج الحياة الدائم بين قطبي التعارض بعيدا عن الصنعة والتكلف.

لقد كان رجلا يشتق جميع توجهاته الخيرية والإنسانية من توتر أساسي خلاق، هو الحماسة لأعمال الخير رجاء المثوبة والأجر من الله، وكانت حماسته تلك هي ذخيرته في الحياة عندما تقدم به قطار العمر.

في أول لقاء لي معه، قدم مثالاً حياً تم بعفوية ومصادفة لسر هذه الحماسة عندما تناول فاتورة كهرباء منزله وتأمل رقم استهلاكه منها ليجدها تحمل مبلغا لا يتجاوز الأرقام الثلاثة لتتغير ملامحه ويبدي من دون تحفظ عدم رضاه من المبالغة في الصرف، ليضعها جانبا مرفقا معه مبلغها مكلفا أحد الحضور تسديدها في مركز الجباية بأحد البنوك، ثم يمدد رجليه التي أتعبهما عمله العسكري طيلة سبعة عقود ويضع حافظة الأرغفة أمامه ويخرج منها قطعا من رغيف "التميس" الشعبي ويغمسها في كوب الحليب المخلوط بالزنجبيل، وبعد أن انتهى من عشائه البسيط، نفض يديه من بقايا الخبز واعتدل في جلسته، قام أحد الحضور بمناولته شيكا بمبلغ نصف مليون ريال يمثل قيمة دخل أحد أنشطته العقارية التي أوقفها لمشاريعه الخيرية، لم يتردد في تجييرها لأحد هذه المشاريع! وأمام هاتين الصورتين المتباينتين، حاولت جاهداً أن أرسم شخصية للرجل أو أن اسبر أغوار نفسه، لكنني عجزت وأيقنت أن من الصعوبة الإحاطة بذلك، مع أن قناعتي بالرجل تعلل السبب في ذلك إلى أمور تتعلق بحدس أخلاقي يكمن في وجدان يتحرك داخله، إنه مثل نخلة في مكان صلب قفِر نبتت في رمل مجدب وأعطت ثمارها للمحتاج عابراً ومقيماً، إنه أنموذج للإنسان المعطاء الذي تمرّد على رعب العوز والحاجة، وكافح من أجل ذلك بالبذل ونجدة الملهوف وإطعام الجائع وعلاج معاق أو مريض، لقد أشعل قناديل الفرح في منازل المحتاجين والأرامل والأيتام ليس في البكيرية مسقط رأسه فحسب ولا في حدود وطنه فقط بل تعداها الى خارجه، فقد أعاد الابتسامة إلى فلاح في صعيد مصر، وجبال كشمير، كما جلب السعادة لبدوي في الصحراء الغربية وجبال أطلس وارض السودان بمشاريع خيرية مختلفة شيدها وأوقفها من ماله الخاص.

قدم عبد الله بن راشد البصيلي سلوكا نموذجيا له قيمة أخلاقية عالية لا تتوفر إلا لدى القلة، قدم ويقدم أرقى وأعلى مراحل البذل، ونجح في معادلة الرغبة في ذلك بالفعل المتفوق دون أن ينتظر مَن يرصد له هذا السلوك أو يقدم له الشكر على ذلك.

لقد نجح الرجل من دون أن ينشد أو يخطط في تفجير طاقات الحس في اتجاهات الانفعالات الكبيرة عن طريق البذل والعطاء في كل عمل خيري وإنساني، وسار مع تسلسل التعاطف مع المحتاجين وأعاد بناء كل هواجسه أمام وجدانه، وجسد ذلك على سطح الواقع بقدر استطاعته وإمكاناته.

البصيلي قد يكون ذاتياً، لكنه ليس فردياً، فهو يرفض أن يتحدث عن نفسه كفرد متميز، لكنه يوحّد فرده بالذات الإنسانية الكلية.

تجربة البصيلي مع العطاء والبذل وأعمال الخير المتعددة والموزعة على الداخل والخارج، تحتاج إلى محلل نفسي أو راصد اجتماعي لأنها تجربة تطرح تساؤلات عن الباعث والمحرك الأعمق لمثل هذه التجربة والمواقف التي هي أقرب للأسطورة منها إلى الحقيقة في زمن غابت فيه مثل هذه المبادرات بل وأصبحت شبه مستحيلة، لقد نجح البصيلي مع قلة في العالم في تثبيت صور التضحية والإيثار والبذل والعطاء بلا حدود، بلا ضوابط، بلا وجل أو خوف وبلا مِنّة، وبعيدا عن الضوضاء، إنه يكرر في وجدانه صوراً مُثلى عن العمل الخيري في كل مكان من كشمير شرقاً إلى الصحراء الكبرى غرباً مروراً بجبال السروات وطويق وصعيد مصر وجبال أطلس وقاسيون والنيل الابيض.

هناك في قرية نائية تنام على جبل في كشمير، يرتفع صوت مؤذن من مسجد بناه وأوقفه البيصلي، وفي محافظة رجال ألمع (جنوب غرب السعودية)، تتردد يوميا في غرفة الولادة في مستشفى المحافظة الذي شيده أصداء صرخات مولود جديد، وفي مدن القصيم وحائل وأبها يرفع آلاف المعاقين أيديهم دعاء له على رعايته لهم من خلال إنشائه مراكز للتأهيل الشامل في منظومة متكاملة مع جهود الدولة لخدمة وتنمية المجتمع.

وفي مصر، حيث تتزاحم المناكب، يردد آلاف الطلاب والطالبات عبارات الشكر والعرفان للبصيلي على رعايته لهم بتخصيص كليات خاصة وقاعات للدرس لهم على حسابه الخاص.

* هجرة الجوع

* قبل سبعة عقود من اليوم، لملم الفتى البكيراوي حاجياته الخاصة وأودعها لفافته الصغيرة وربطها، وانسلّ هارباً من أجواء الفقر والعوز والرتابة اليومية القاتلة التي أحاطت بحياته في منزله الطيني داخل مزيرعة محدودة المساحة تتناثر في أرجائها نخيلات تدلت من رأسها ثمار البلح وقد أصابها «الغبير»، وشجيرات الاثل وزروع مصفرة تصارع من أجل البقاء بسبب قلة الماء. من هذا المنزل، حيث يعيش تحت سقفه 25 فردا من أسرته يمثلون أربع عوائل ويتقاسمون حبات التمر التي تجود بها نخيلات البستان، وكِسر القرصان، وفصوص البصل المطبوخة مع المرقوق، وصحفة الجريش يتقاسمها الجميع، من هذه الأجواء خرج عبد الله بن راشد البصيلي وهو لم يكمل عامه السادس عشر في رحلة بحث عن عمل، واختار عاصمة بلاده الناشئة لتكون محطته القادمة في أول خروج له من قريته الصغيرة.

كان زاده بضعة ريالات ومبادئ في القراءة وشيئاً من قصار السور حفظها في ذاكرته بعد أن تلقفها على يد مطوع القرية، وذات صباح حمل امتعته الشخصية وجمعها في منديل أبو جمل، ودون أن يستأذن أحداً توجه إلى متعهد النقل في البكيرية قبل انطلاق سيارة اللوري أو الحمالية (الشاحنة) وعرض على سائقها رغبته في السفر إلى الرياض متسائلاً عن قيمة الإركاب التي حددت بريال ونصف الريال في الصندوق وريالين في الغمارة (كابينة القيادة)، ولأن الأخيرة محجوزة لبعض الموسرين اضطر إلى استخدام صندوق الشاحنة وعند صعوده إليه فوجئ بكميات من الحطب قد رصت على سطحه واعتلته ولم يتبق إلا حيز بارتفاع نصف متر على امتداد صندوق الشاحنة ترك كمساحة لينتشر فيها الركاب الذين تعلقوا في جنبات الشاحنة وفرشوا اغطيتهم على اكوام الحطب، وحده الفتى من بين الركاب لم يحضر معه فراشاً بل توسد لفافة حاجياته وأخذ ينام على فترات متقطعة بسبب البطانيج (الأماكن الوعرة في الطرق الترابية) وتمايل الشاحنة وزحف اكوام الحطب على جسده النحيل الذي لم يسلم من أذاها.

عندما وصل إلى الرياض بعد رحلة استغرقت 30 ساعة لم يفاجأ الصغير بتغيير لافت عن قريته المنازل الطينية هي ذات المنازل التي تركها في القرية لكن الشوارع اكثر سعة والأزقة اكثر حركة، والأسواق تعرض بضائع وأرزاقاً لم يعهدها في قريته، لكن بمجمل الحال هناك تشابه ولا توجد فروق كبيرة تذكر.

لم يبحث الصغير عن سكن له في عاصمة الدولة الناشئة بل أخذ يطرق أبواب العمل فاتجه إلى التجار وأصحاب المزارع والمنازل لكن طلباته وتوسلاته قوبلت بالاعتذار المؤدب أحياناً وبالرفض الجاف في احيان كثيرة لإسباب تعود إما لقلة العرض وكثرة الطلب أو لصغر سنه وتوجس من يريد تشغيله من عدم قدرته على القيام بالعمل الذي سيوكل له على اكمل وجه. وأمام هذا الموقف لم يدخل اليأس نفس الصغير، وبعد تشاور مع اخيه محمد ( الذي كان يعمل حارساً في قصر المصمك ) واصدقاءه لمناقشة خيارات العمل الذي يمكن أن يلتحق به الصغير عبد الله حيث لا يوجد اعمال غير المهن الحرفية أو الانضمام للسلك العسكري توجه عبد الله البصيلي الى مقرالحرس الملكي في عهد الملك المؤسس، ودلف إلى المكان بحثاً عن وظيفة له في هذا الجهاز الذي يوحي اسمه بالعظمة ويتوجس العابرون أمامه ممن بداخله من الضباط والجنود.

قدّم الفتى الصغير طلبه مشافهة إلى قائد الجهاز آنذاك سعيد جودت، الذي تردد في قبوله لأسباب تتعلق بصغر سن طالبه، وعندما همّ الصغير بالخروج مهيض الجناح ومكسور الخاطر بسبب عدم تحقيق حلمه بالحصول على وظيفة عسكري، طلب قائد الحرس منه التوقف والعودة إلى المكتب وبعد محادثة قصيرة بينهما تم قبوله وتسجيله في العسكرية وإلحاقه على الفور في سكن الجنود، وإخضاعه لدورة تدريبية مكثفة.

استقر الصغير في مهاجع الجنود وتداعت له صور عديدة عن مستقبله في هذا الجهاز القريب جداً من ملك البلاد، لكنه لم يدر بخلده أنه سيكون ذات يوم قائدا له ومسؤولا أول عن حراسة الملك، وأمام عصاميته وصبره وجلَده، أصبح قائدا للحرس الملكي في عهد ثلاثة ملوك من ملوك الدولة السعودية الثالثة.

عندما أُبلغ الصغير بأنه سيتم تعيينه عريفاً، رفض ذلك، وطلب تعيينه جندياً، وأصرّ على ذلك، وأمام استغراب قائد سرية في جهاز الحرس الملكي آنذاك الضابط سعيد العمري من هذا الرفض واختياره لرتبة جندي بدلا من عريف، أمر بإيقافه وإدخاله السجن، وعندما أرخى الليل سدوله على المكان، استوحش الصغير ودبّ فيه الخوف وأخذ ينادي بصوت مرتفع «أخرجوني من السجن وأصير عريفا!».

في عام 1361هـ كلف من قبل عمله ليذهب إلى الخرج كقائد سرية، وبعدها بعام ذهب للطائف في مهمة مماثلة، ليعود بعدها بعامين كوكيل ضابط ويعمل في قيادة الحرس الملكي بالرياض، ويزف له عمل تعيينه مديرا لأمن المطار التابع لقيادته، اتخذ خيمة في ارض المطار مقرا وسكنا له، وبعد عامين تم ترفيعه الى رتبة ملازم ثان وشعر حينها بان له شأنا بعد ان وضع على كتفيه نجمة دخل معها قائمة الضباط.

قبل 60 عاما وبالتحديد عام 1368هـ التحق في الديوان الملكي (ديوان الملك عبد العزيز) وظل به سنوات ثلاث، ليتدرج في وظائف عدة ويخضع لدورات عسكرية مختلفة كلها في الداخل وجلها دورات مشاة متقدمة وتأسيسية ودوره للضباط العظام الكبار كما التحق بدورة عسكرية عالية تماثل دورات كلية القيادة والاركان في زمننا الحاضر، وقد التحق بها 15 ضابطا يحملون رتب قادة في حين انه كان الوحيد الذي يحمل رتبة نقيب، ومن زملائه في الدورة سعيد العمري وهو الضابط الذي ادخله السجن في بداية التحاقه بالعمل العسكري عندما رفض ان يعين على وظيفة عريف واختار الوظيفة الاقل وهي جندي خوفا من تعدد المسؤوليات والبعد عن إدارة الآخرين، كما كان من ضمن زملائه في هذه الدورة عبد الله المطلق وحمد الشميمري وهما من العسكريين الكبار في البلاد.

وفي ذات العام تم تشكيل الحرس الملكي من ثلاثة افواج والتحق بالفوج الأول برتبة نقيب ثم عين في ركن التموين، ثم اعيد تشكيل الحرس الملكي، وذهب الى اليمن كمراقب اثناء الصراع ين الملكيين والجمهوريين وذلك لمدة ستة اشهر، وعندما عاد الى الرياض اقترح الامير سلطان بن عبد العزيز على الملك فيصل رحمه الله ان يعينه قائدا للحرس الملكي لكن الملك فيصل رفض هذا الطلب لأن رتبته لم تصل الى الرتبة التي يستحق ان يتسلم من خلالها هذا المنصب ولا يزال البصيلي يتذكر الحوار الذي دار بين الملك فيصل والأمير سلطان حول رغبة الأخير تعيينه قائدا للحرس الملكي برتبة زعيم (عميد) حيث رد الملك فيصل بالقول: «ماذا يقول الناس عن ذلك هل أُرفعّه الى هذه الرتبة لأنه يعمل عندي» فرد الامير سلطان معلقا: «يا طويل العمر اللي من ربعنا وزعمانا يريد ان يعمل مثله نرفعه، واللي لا يعمل مثله نتركه على حاله»، فصدر الأمر عام 1386 هـ بتعيين عبد الله بن راشد البصيلي قائدا للحرس الملكي في عهد الملك فيصل خلفا لقائده السابق الزعيم (العميد) مرزوق التركي، وواصل البصيلي عمله كقائد للحرس الملكي في عهد الملك خالد ثم الملك فهد رحمهما الله، وفي عام 1407هـ احيل الى التقاعد وعين مستشارا بالديوان الملكي برتبة وزير حتى عام 1419هـ ثم أُحيل الى التقاعد بعد أن عاصر الملوك عبد العزيز وسعود وفيصل وخالد وفهد رحمهم الله، ليتجه الى الاعمال الخيرية ويحقق الريادة في ذلك حسب امكاناته وتنوع هذه الاعمال. ويتحدر البصيلي الرجل الذي لامس التسعين من أسرة متوسطة أقرب إلى وصفها بالفقيرة، وقد عاش طفولته المبكرة والمتأخرة مع والده وأعمامه الأربعة في منزل طيني مع حوالي عشرين فرداً ما بين نساء وأولاد وبنات يمثلون أفراد العائلة معتبرا انه عانى العوز لدرجة انه مل حياة الزراعة في بستان الأسرة الصغير لعدم قدرته على اشباع جوعه، حيث يعمل في الحقل ويسرق سويعات من النهار ليذهب إلى معلم الكتاتيب عبد الرحمن السالم ليتلقى منه مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن وذلك قبل إقرار المدارس النظامية، وكانت مكافأة المعلم على ذلك قليلاً من انتاج النخل سواء أكان تمراً أم قمحاً، لقد كان طالبا مسالما ومجداً في ذات الوقت وهذا ما جنبه تذوق عقاب المطوع بالفلكة التي كانت وسيلة العقاب للمقصرين والمشاغبين من الطلاب، لكنه ورغم ذلك أبدى كرهاً للمدرسة واستمر فيها حتى حصل على إجازة الدراسة من المطوع، وبعد بلوغه الخامسة عشرة من عمره راودته فكرة الهجرة القسرية إلى الرياض بحثا عن عمل ينسيه عذابات الطفولة التي قضاها في مسقط رأسه البكيرية طوال عقد ونصف، لقد كان الجوع هو دافعه لترك قريته والتوجه إلى الرياض.

بدأ البصيلي حياته العملية جندياً في الحرس الملكي في عهد الملك المؤسس ليتدرج في الوظائف والرتب ليصبح في عهد الملك فيصل قائداً للحرس الملكي ليواصل نفس عمله في عهد الملك خالد ثم عهد الملك فهد الى ان أحيل إلى التقاعد من هذا المنصب في عام 1407هـ وهنا يتذكر البصيلي ظروف احالته للتقاعد: «وفي عهد الملك فهد أصبت بمرض سافرت بسببه إلى مصر والهند وباكستان للعلاج، علم الملك بذلك وأمر بإرسالي إلى أمريكا وقال حينها لماذا تعالج في مصر والهند وباكستان العلاج في أمريكا أفضل، سافرت إلى هناك ومكثت في الولايات المتحدة الأمريكية شهرين وعدت دون أن اشعر بأي تحسن، قبلها وعندما كنت في المستشفى بأمريكا هاتفت ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز وعرضت عليه رغبتي في احالتي للتقاعد، نقل الأمير عبد الله هذه الرغبة للملك فهد لكنه رفض ذلك قائلاً: «لن نحيله للتقاعد وهو مريض، إن شفي من مرضه فلا نريد غيره، وإن لم يشف أحلناه، ولعل الله ما أراد انني أُشفى من مرضي" فكلم الملك فهد رئيس الديوان الملكي في عهده محمد النويصر وقال: "اسألوه هل يريد الإحالة إلى التقاعد، وهل هي رغبة أكيدة ونهائية فأجبت بالقبول»، وبالفعل تم إحالته إلى التقاعد من منصه كقائد للحرس الملكي وتعيينه مستشاراً بالديوان الملكي برتبة وزير وهو وفاء من الملك فهد إلى الرجل الذي خدم الوطن لعدة عقود، ثم أحيل الى التقاعد من منصبه المدني لظروفه المرضية وذلك عام 1419 هـ.

* من مصر كانت الانطلاقة

* قبل 32 عاماً، أصيب عبد الله الراشد البصيلي، بمرض، فكانت القاهرة إحدى محطاته العلاجية، ونظرا لطول فترة العلاج أثناء إقامته هناك، وطرداً للملل الذي كان يشعر به في القاهرة، فقد فضّل أن يذهب إلى الارياف، وعندما يحين وقت الصلاة يتوجه مع مرافقيه إلى مصليات القرى والأرياف التي لم تكن سوى أماكن مكشوفة، حيث لا يوجد في كثير من هذه القرى مساجد تؤدى فيها الصلوات، ومعها تولدت لديه فكرة تنفيذ مساجد في المناطق التي لا يوجد بها أماكن تقام فيها الصلاة، حيث نفذ خلال ثلاث سنوات من عام 1398هـ، حوالي 200 مسجدا في مصر، ثم توالى إنشاء المساجد على حسابه الخاص في دول أخرى، منها سورية، الهند، المغرب، وباكستان والسودان.

ولم يكن بناء المساجد هو هاجس البصيلي، فقد تنوعت مشاريعه الخيرية التي عمّت أرجاء بلاده والبلاد العربية والإسلامية، وتراوحت هذه المشاريع ما بين مراكز للتأهيل الشامل ووحدات غسيل الكلى وإنشاء مستشفيات جديدة وتطوير وتوسعة مستشفيات قائمة، وغيرها من المشاريع ذات الطابع الإنساني والخيري.

عن ذلك يقول البصيلي: «في عام 1397هـ، أُصبت بمرض، وذهبت للقاهرة في رحلة علاجية، ومع طول الوقت والانتظار أثناء إقامتي هناك، كنت أشعر بالملل أحياناً من المدينة، فأذهب إلى القرى والأرياف، وعندما تحين الصلاة، كنت أصلي مع القرويين والفلاحين في المكان الذي أتواجد فيه في أماكن مكشوفة، حيث لا يوجد مساجد، فأراد الله سبحانه وتعالى أن أعمل شيئاً هناك. ومنذ سنة 1397هـ، حتى قبل سنتين أو ثلاث (عام 1416هـ)، نفذنا بتوفيق الله أكثر من 195 مسجداً، ولا يزال التنفيذ جاريا هناك ولله الحمد».

مضيفا: «في عام 1403هـ، اتجه رفيقي الذي كان وكيلي في بناء المساجد في مصر إلى سورية، ومكث هناك ما لا يقل عن اثني عشر عاما، حيث نفذت في القرى السورية حسب ما تم جرده ورصده أكثر من 85 مسجدا، وهي ليست بتلك المساجد الكبيرة، لكن فيها البركة بإذن الله، حيث تستوعب من 200 إلى 300 مصل، وهي مساجد مجهزة بجميع مرافقها».

وتعد مشاريع التأهيل الشامل للمعاقين، هي أول المشاريع الخيرية التي نفذها البصيلي داخل بلاده، عن ذلك يقول احد رواد العمل الخيري في السعودية: «شدني منظر المعوقين في مدينة البكيرية أثناء زيارتي لهم، فأشفقت عليهم، ووفقني الله وبدأت بمشروع للتأهيل الشامل لهم، واستغرق هذا المشروع معي قرابة العامين، وكان قد أقيم على مساحة تقدر بـ 30 ألف متر مربع، ويستوعب ما لا يقل عن 300 نزيل، ومع هذا المشروع بدأ الحديث عن احتياج مدن أخرى في السعودية لمشاريع مماثلة لمشروع البكيرية، فتم إنشاء مراكز للتأهيل في كل من أبها وشقراء وحائل».

وتوالت مشاريع البصيلي الخيرية التي شملت المساجد داخل السعودية وخارجها، ومراكز التأهيل الشامل للمعاقين، ومعهد للتربية الفكرية في بريدة، ووحدات لغسيل الكلى، ووحدات للعلاج الطبيعي في مختلف مناطق السعودية، إضافة إلى إنشاء مستشفى للولادة في البكيرية وفي محافظة رجال ألمع بسعة 100 سرير.

وتعدت مشاريع البصيلي الخيرية الأحياء لتصل إلى الأموات، حيث أنجز عدة مقابر في مناطق من بلاده، خصوصا تلك التي تحتاج مثل هذه المشاريع.

ويشدد البصيلي في كل مشاريعه الخيرية على التفرد بإنجازها، حيث لا يقبل مشاركة أحد في ذلك، كما يشترط عند إقامة مشروع ما في أي منطقة، ألا ينفذ غيره مثل هذا المشروع وذلك خشية التضارب، وتقليل الاستفادة منه، كما يشترط على نفسه الالتزام بتوسعة المشروع مستقبلا إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك.

وتتم آلية تنفيذ مشاريع البصيلي بالحصول على أراض من الدول ورسم المخططات للمشاريع في حين يتحمل هو تكاليف تنفيذها. ويتم دعم مشروعات الخير من خلال وقف عدد من العقارات وتوظيف ريعها لهذه المشروعات.

* لا للحديث عن مشاريعه

* ويرفض البصيلي الحديث عن مشاريعه أو حتى كتابة اسمه عليها لكن في عام 1417هـ ومع إلحاح البعض عليه بضرورة الإشارة إلى ذلك قبل ذلك مُكرهاً عندما أُقنع بأن ذكر اسم منفذ أي مشروع خيري أو إنساني سيحفز المقتدرين على أن يقتدوا به ويقوموا بعمل مشاريع مماثلة.

وحول ذلك يقول البصيلي (كنت حتى عام 1417هـ لا أقبل كتابة أسمي على المساجد التي أبنيها أو المشاريع التي أنفذها وسألت المشايخ وعلماء الدين فقالوا لي: لا بل أذكر اسمك حتى يُدعى لك بالخير، وحتى تحرك أهل القدوة لفعل الخير، فقد يتأثر بعضهم ويقوم بمشاريع مماثلة).

ويوجه البصيلي رسالة لكل مقتدر على فعل الخير بأن يفعل شيئاً قبل أن تطوله يد المنون: «الشيء الذي أجزم به، أنه لا يوجد مسلم قادر وصل إلى جمع المادة بعقل وقدرة إلا وهو يعلم الحسن من غير الحسن، ويعلم الحرام من الحلال، وعليه أن يستعيذ من الشيطان، ويتوكل على الله ويساهم في أعمال الخير والبر وهي أبواب واسعة، كما أن عليه أن يتذكر دائماً أن هناك حياة وموتاً وآخرة، فلا بد لكل قادر بل كل مخلوق أن يقدم شيئاً ولو كان بسيطاً عسى الله أن ينفع به».

ووضع البصيلي وكلاء للإشراف على تنفيذ ومتابعة مشاريعه الخيرية. والإنسانية وهم محل ثقته لدرجة انه لا يستطيع تحديد تكلفة العديد من المشاريع الخيرية: «لديَّ وكلاء أثق فيهم، ويعلم الله أني لا أناقشهم في التكلفة، إذا قدموا لي الفواتير أسددها دون نقاش، وأنا متكل على الله ثم على هؤلاء الوكلاء، وهم أمينون بإذن الله، هذه المشاريع لم أحاول حصر تكلفتها لأني لا أريد مردودها إلا من الكريم الأكرم لذلك لا أعرف كم تكلف بالضبط هذه المشاريع».

ويشدد البصيلي على أن الدولة سهلّت له اجراءات تنفيذ المشاريع الخيرية التي تكفل بإقامتها، كما تمنحه الأرض التي سيقام عليها المشروع الخيري، وتتولى الجهة التي يقع المشروع تحت مظلتها توفير الأجهزة والتشغيل ووضع المخططات والمواصفات وخصوصاً المشاريع الطبية أو تلك الخاصة بالمعاقين، إضافة إلى الإشراف على عمليات البناء.

ويرى البصيلي بأن البلد ولله الحمد فيه الكثير من القادرين على القيام بأعمال ومشاريع إنسانية وخيرية لصالح الوطن والمواطن لتكون مكملة لما تقوم به الدولة، ولكن لا يزال الاعتماد على الدولة هو الغالب في ذلك.

ويشير الشيخ عبد الله بن راشد البصيلي إلى أنه في حالة رغبته في إقامة مشروع خيري يكتب لذوي الاختصاص طالبا منحه الأرض التي سيقام عليها المشروع شريطة ان يوقف الأرض لصالح المشروع وألا يتصرف بها أحد في حين يتولى هو وذريته الاشراف على المشروع ورعايته بدون مقابل، والدولة من جانبها تتكفل بتشغيله واستخدامه وتزويده بالطاقم التشغيلي حسب طبيعة المشروع.

رافق عبد الله بن راشد البصيلي بحكم الأعمال العسكرية التي تقلدها في قيادة الحرس الملكي، ملوك الدولة السعودية الثالثة بدءا بالملك المؤسس عبد العزيز إلى عهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز.

فقد رافق الملك عبد العزيز في أول رحلة خارجية له وكانت إلى مصر، حيث كان البصيلي بمعية الملك المؤسس وكان برتبة وكيل ضابط، كما كان من ضمن الضباط الذين سافروا مع الملك سعود إلى أميركا وهذه الرحلة تعد للبصيلي أول سفرة يستخدم فيها الطائرة، كما رافق الملك فيصل في جميع رحلاته الخارجية وعين في عهده قائدا للحرس الملكي واستمر في منصبه في عهد الملك خالد ورافقه في رحلاته، وفي عهد الملك فهد ظل قائدا للحرس الملكي، لكنه طلب في عام 1405هـ، من الملك فهد، السماح له بترك العمل بعد أن أُصيب بمرض وبحث عن علاج في الهند وباكستان ومصر والمغرب وأميركا، دون جدوى، لكن الملك رفض طلبه، وأمام إلحاحه صدر أمر من الملك فهد بإحالته للتقاعد بناء على رغبته، ووفاء من الملك للبصيلي عينه مستشارا في الديوان الملكي برتبة وزير، وذلك في عام 1407هـ، ثم استمر في هذا المنصب إلى أن أحيل إلى التقاعد في عام 1419هـ، من العمل المدني.

* وفاء للزوجة..

* قدّم الشيخ عبد الله البصيلي لمسة وفاء لزوجته الراحلة «أم عبد الرحمن» عندما قرر انشاء 20 مسجدا في كل من الطائف وتبوك موزعة بالتساوي بين المنطقتين، كما أوقف عشرة بيوت لسكنى الايتام ومحطة نفط والتصدق بست شاحنات مليئة بالارزاق من ارز ومواد غذائية وجعل ثواب ذلك لزوجته الراحلة.

وقال البصيلي عن ذلك: «عندما توفيت زوجتي ام عبد الرحمن رحمة الله عليها اردت أن اقدم لها شيئا ينفعها نظير حسن معاشرتها لي اثناء حياتها فسألت احد المشايخ وشرحت له الوضع وطلبت منه النصح والارشاد واشار عليّ جزاه الله خيراً أن ابني مسجداً وأجعل أجره وثوابه لها وما استطعت من اعمال البر، فاخذت بنصحه وتوكلت على الله وقمت ببناء عشرين مسجداً، عشرة منها في مدينة تبوك والعشرة الاخرى في مدينة الطائف، ووقفت لها عشرة بيوت في مصر مخصصة لسكنى الايتام، وكذلك وقفت لها محطة نفط في شارع التحلية في مدينة جدة وتصدقت لها بست شاحنات من الارزاق والمواد الغذائية». ولعلها مصادفة ان يرزق الشيخ البصيلي الذي ارتبط بزوجتين بـ14 من البنين والبنات، منهم 6 من الذكور، و8 من الإناث، 3 أولاد، و4 بنات من كل زوجة. ولا يشعر أفراد الأسرة بأي غضاضة بخصوص توجه والدهم الخيري والانساني وصرفه الملايين على المشاريع الخيرية المختلفة واكتفائه بالصرف على نفسه من راتبه التقاعدي، بل ان الجميع يباركون خطواته، ويشيدون بتجربته مع العمل الخيري والانساني، وفي أحيان كثيرة يقدمون له مقترحات بشأن تطوير هذه الأعمال وتوسيعها، كما يمدونه بأسماء أشخاص محتاجين للمساعدة لا يتردد الشيخ في ضمهم لقائمة المستفيدين من خدماته وأعماله ومشاريعه المختلفة.

ولعل رد الشيخ على أحد معارفه من الشباب عندما دخل معه في حوار لا يخلو من الدعابة يؤكد ذلك، عندما ألمح الشاب للشيخ بالقول: لو كنت أبي لحجّرت عليك وعلى أموالك، كيف تصرف هذه الملايين هكذا، أسرتك أولى بها، فجاء رد الشيخ: الحمد لله انك لست ولدي!