جهود شعبية ورسمية لاستعادة وهج القرى الأثرية القديمة

الهيئة العامة للسياحة والآثار تبدأ بترميم 5 قرى أثرية وتحويلها إلى معالم سياحية

قرية آل خلف التراثية الواقعة في منطقة عسير جنوب البلاد («الشرق الأوسط»)
TT

أعلنت الهيئة العامة للسياحة والآثار عن البدء في تنفيذ المرحلة الأولى من برنامجها لتنمية القرى التراثية، ويتضمن المشروع 5 قرى من أصل 64 قرية قديمة في مختلف مناطق السعودية، وتحويلها إلى معالم سياحية بالتعاون مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص، بالإضافة إلى المجتمع المحلي، وذلك بغرض إيجاد موارد مالية تساهم في تنمية المجتمعات المحلية في المحافظات والمدن والقرى لتقوية روح التكافل بين أفرادها من خلال تنمية الخدمات وتشجيع الاستثمار السياحي، إضافة إلى فرص عمل جديدة لتوظيف فئات المجتمع المحلي، ومورد اقتصادي مهم تعتمد عليه المجتمعات المحلية القريبة من تلك القرى، أيضا رفع معدلات الإنفاق الداخلي للسياح.

ومن الفوائد المتوخاة من تنمية القرى التراثية، أوضح سعود المقبل، مدير إدارة الإعلام بالهيئة العامة للسياحة والآثار «التشجيع على إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة مما يعود بالنفع على السكان والمستثمرين، وتوفير الخدمات الأساسية اللازمة في القرى والبلدات التراثية كالطرق والمواقف، ومراكز الزوار، وتهيئة ممرات لحركة السياح داخل القرية، وأماكن للجلوس، ومطاعم ومقاه وتموينات ودورات مياه ومحلات بيع المنتجات المحلية، بالإضافة إلى الإنارة الخارجية للمباني التراثية وغيرها من الخدمات، الأمر الذي يشجع السياح ويساهم في قضاء جزء من برنامجهم السياحي داخل هذه القرى».

وأضاف المقبل «أما على المستوى الاجتماعي فيشجع المشروع العوائل على العمل في إنتاج ما يطلبه السائح من مأكولات ومشروبات محلية وبيع المنتجات الزراعية والحيوانية والموسمية، مما يؤدي إلى إيجاد فرص عمل، ويشجع الحرفيين على العودة إلى ممارسة أعمالهم الحرفية».

تجدر الإشارة إلى أن تجربة نموذجية سبق تطبيقها يتم استلهامها الآن في تنفيذ المشروعات الجديدة، وهذه التجربة هي تجربة انتقال أهالي قرية آل خلف لحيهم الجديد، حيث ظهرت دعوات متزايدة من عدد من شباب القرية للاهتمام بقريتهم التراثية، خاصة بعد تهدم عدد من مبانيها خوفا من تهدم الجزء الأكبر من هذه القرية الواقعة في بطن أحد الأودية في محافظة سراة عبيدة بمنطقة عسير، التي تتصف بكونها قرية نموذجية للقرية العسيرية القديمة المتميزة بطرازها العمراني التقليدي وأبراجها وبيوتها المبنية من الحجارة التي تعود لمئات السنين.

قرية آل خلف ينتظرها مستقبل سياحي بارز بعد إعلان الهيئة العامة للسياحة والآثار القيام بتأهيلها وترميمها ضمن برنامج تنمية القرى التراثية الذي تنفذه الهيئة إلى جانب إنشاء جمعية تعاونية لتأهيل القرية ودعمها بمليون ريال من حساب الهيئة.

في هذا السياق وحول الأهمية التاريخية والتراثية للقرية، أكد محافظ سراة عبيدة أحمد الشهراني «أن قرية آل خلف تعد ضمن القرى الأثرية، لما تضم من تراث عمراني وفن معماري يضربان بجذورهما في أعماق التاريخ، وهو ما أوجب على الهيئة وضع هذه القرية ضمن مشاريعها».

من جانبه أوضح الدكتور هاني القحطاني، عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل بالدمام، قائلاً «تكمن الأهمية التاريخية للقرية في تصديها للأتراك قبيل انضواء منطقة عسير بكاملها تحت لواء الحكم السعودي الزاهر، على رغم قيام الأتراك بقصف حصون شيخ القرية بالمدفعية وإحداثهم ثقوباً واسعة فيها، إلا أن أبناء القرية المتحصنين فيها هبوا هبة رجل واحد وأنزلوا بالأتراك هزيمة منكرة، وما زالت تفاصيل هذا الحدث خالدة في ذاكرة شيوخ القرية وكبار السن، وهي تعكس بوضوح البسالة التي أبداها سكان القرية في تصديهم للغزاة»، وتابع القحطاني «أما الأهمية الحضارية والتراثية، فتتمثل في أن نوع البناء الموجود بالقرية الذي اشتهرت به منطقة عسير كافة قد اندثر بالكامل أو هو في طريقه إلى الاندثار، ما يوجب المحافظة عليه، ومن الناحية الاجتماعية فقد كانت القرية تمثل نظاماً اجتماعياً نموذجياً للقرى التقليدية بمنطقة عسير، والسعودية عموماً، وأما من الناحية البيئية فتمثل القرية نظاما بيئيا متكاملا يعتمد على الاستغلال الأمثل للمعطيات الطبوغرافية والطبيعية والمناخية للمكان».

أما رئيس بلدية سراة عبيدة مسفر بن أحمد الرادعي، فيرى أن أهمية القرية تتمثل في تاريخها العريق، إذ انها تضم آثاراً كثيرة تجب المحافظة عليها، مؤكداً أن المحافظة عليها واجب وطني يقع على كاهل أهالي القرية جميعاً لما تمثله من أصالة ومن تاريخ، وأضاف الرادعي «تعد قرية آل خلف في بني بشر من أجمل القرى التي ما زالت تجذب إليها السياح وتتميز بقصورها العالية وأبراجها المرتفعة القديمة وغارها الشهير الذي يحتوي بداخله على أربع غرف وأعمدة من المرمر ومكان للطهي وآخر لإيقاد النار وباب تدخله الشمس مرتين في اليوم وجامع آل مطر الأثري ومسجد (القطفة)، والخزانات الدائرية المنحوتة في الصخر، وفيها بئر برحا أو بئر (بني هلال) وهي منحوتة يدوياً وعمقها 20 متراً وماؤها متوفر على مدار العام». وعن الجهود المبذولة لترميم القرية والحفاظ عليها ضمن برنامج تنمية القرى التراثية الذي تنفذه الهيئة العامة للسياحة والآثار بالتعاون مع وزارة الشؤون البلدية والقروية، أشار الشهراني إلى أن الضرورة اقتضت ذلك مع تأثير عوامل التعرية في مباني القرية المبنية من الطين وغير المعالجة بمواد تحميها، وأكد على أن بإمكان أهل القرية مستقبلاً أن يستثمروا هذه الآثار لتصبح مصدر خير ورزق وفرص عمل لهم في حال رغبوا ذلك وإلا فان عليهم أمانة المحافظة عليها للأجيال المقبلة.

وأضاف الشهراني «ان إعادة تأهيل القرية ستسهم في إيجاد فرص عمل لكثير من أهالي القرية، إضافة إلى أن الجمعية المزمع إنشاؤها ستسهم في ترميم بيوت الأهالي متى ما رغبوا»، وتابع «أن الهيئة لن تُلزم أحداً بترميم منزله، لكن متى ما حضر المالك ولديه الرغبة في ترميم وصيانة منزله ولديه الاستعداد لتحمل جزء من التكاليف فستتعاون الجمعية معه». بينما كشف رئيس البلدية الرادعي في المضمار ذاته انه تم تخصيص مبلغ مماثل لما طرحته الهيئة من قِبل البلديات للقيام بما هو منوط بها ومن واجبها داخل هذه القرية، وهناك ترتيب مع أمين منطقة عسير لكيفية إدارة هذا المبلغ حتى تكون البلدية مواكبة للحدث، مؤكداً أن بلدية سراة عبيدة لن تتأخر في ما يطلب منها، حيث توجد في القرية شوارع ومرافق عامة تحتاج إلى إنارة وسفلتة وتمديد طرق وأرصفة، وهو ما ستقوم به البلدية، مع تسهيل كل العقبات إذا رغب احد الأهالي في استئجار موقع من المواقع التراثية إلى جانب توفير الخدمات كافة لهم، فالمواقع الحالية تمت سفلتتها وإنارتها.

بدوره نوه الدكتور القحطاني إلى انه قام بعد إعلان الهيئة وضع القرية ضمن اهتماماتها برفقة فريق طلابي من جامعة الملك فيصل بالدمام في غضون الفترة القليلة الماضية بزيارة للقرية وإعداد دراسات ميدانية لها على ارض الواقع والاجتماع بأصحاب القرية والاستماع إلى مقترحاتهم للأخذ بها في إعادة تأهيل القرية. وبعد دراسة علمية خرج الفريق بتصور شامل للقرية يأخذ في الاعتبار كافة المتطلبات الثقافية لأهل القرية والحفاظ على الطابع العمراني لها وتوفير كافة المستلزمات الحديثة من مياه وري وإنارة وخطوط هاتف وخلافه بما يضمن إعادة القرية إلى سابق عهدها.

وكشف القحطاني «أن الدراسة اعتمدت على تقسيم النسيج العمراني للقرية إلى ست مناطق، لكل منها ساحة خاصة وعدد من الحصون السكنية والقصبات لكل منها تكوينه المعماري الخاص به، يربط بين هذه الساحات طريق مشاة رئيسي يخترق القرية من الوسط، بدءاً من أعلى نقطة فيها وجنوباً وصولاً إلى آخر نقطة في شمال القرية، وهي عبارة عن ساحة شعبية تحاذيها صالة تجمع مجلس القرية ومتحف شعبي يحكي تاريخ القرية وموروثها الثقافي والحضاري بالتفصيل، ويتفرع من طريق المشاة الرئيسي طرقات فرعية تنتهي في ساحات مغلقة أو مفتوحة تؤدي إلى الحصون السكنية لأهل القرية أو إلى المزارع المحيطة بها من الأطراف، أما الأجزاء المهدمة من نسيج القرية، التي كان من الصعب الوصول إليها فقد ترك أمر التصرف فيها لأصحابها».

في المقابل، أبدى أهالي قرية آل خلف سرورهم وامتنانهم لما تقوم به الهيئة من جهود للنهوض بقريتهم، خاصة بعد اجتماع الأمير سلطان بن سلمان بهم وطمأنتهم إلى أن الملكية وكل حقوق المواقع من مياه وطرق ومرافق عامة ستُحفظ لهم، وان الهيئة هدفها أن تحافظ على هذه الآثار.

وكان من أكثر الأهالي سعادةً المسن جبران بن مشني (80 سنة)، الذي استقبل الأمير سلطان ووفد الهيئة في المطل، الذي أقامته البلدية في أعلى الوادي ليشرف على القرية التراثية، بالأهازيج التي يشتهر بها أهالي القرية ترحيباً بهم وتطلعاً لأن تحظى هذه القرية التي يمتلك فيها أجداده منزلين باهتمام الهيئة، وقال انه طلب من الأمير سلطان بن سلمان سرعة ترميم بيوت القرية التي شارفت على السقوط لحماية تراث القرية من الاندثار، مبيناً أنه دائم الذهاب والجلوس في منزله ومنزل آبائه في القرية القديمة على رغم وجود منزل حديث له في الحي الجديد.

ويشير محمد حسين حسن وهدن إلى أن عدداً من السياح السعوديين والخليجيين والأجانب يزورون القرية ويستمتعون بالتجوال فيها، مؤكداً أهمية مشروع تأهيل وترميم القرية الذي ستقوم به الهيئة في تعرّف الشباب والشعب السعودي على تراث الأجداد، بالإضافة إلى الفوائد الاقتصادية والاجتماعية.

فيما لفت محمد علي آل مزهر إلى أن الكثير من الملاك اقتنعوا بعد حديث الأمير سلطان بن سلمان إليهم بجدوى أعمال الهيئة داخل القرية، مناشداً مجتمعه والهيئة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث إن معظم المباني أصبحت آيلة للسقوط، وان كمية أمطار بسيطة ستحول القرية إلى ركام، لا سيما أن مجاري السيول من تحت المباني أصبحت مسدودة بفعل الزمن وتساقطت أجزاء من المباني أو الأحواش.

وأضاف آل مزهر «أن قرية آل خلف تزخر بكنوز من المعالم البارزة والآثار التاريخية الشامخة، فهذه القرى تتميز بأشكالها المعمارية الخلابة والهندسة في البناء والتشييد والروعة في التنفيذ واختيار مصادر البناء من البيئة المحلية في إنشاء المنازل والأبراج والممرات، ونظراً لما تتمتع به القرية من معالم أثرية وتاريخية ومبان وأدراج وآثار مبنية على الطراز القديم فقد أصبحت مقصداً لمئات الزوار والباحثين والمهتمين بالآثار من مختلف الجهات، كما زارها العديد من الباحثين والمهتمين بالتراث والآثار ويقصدها سنوياً الآلاف من الزوار والمصطافين من المملكة ودول الخليج، كذلك من الأوروبيين والأميركان وهم يجدون الترحيب من الأهالي وتعريفهم بآثار القرية».