الكعبة المشرفة.. أحداث بناء وهدم وحرق وتدنيس تعرضت لها على مر القرون

مقذوفات تركية من قلعة أجياد تصيب قباب المسجد الحرام وتحرق شظاياها ثوبها * سيل عظيم يسقط معظم البيت المعظم قبل 390 عاما ويقتل ألف انسان داخل وخارج الحرم * تلطيخ الكعبة بالنجاسة وسرقة مفتاحها الذهبي وحريقها من حوادث الحرم المشهورة

المسجد الحرام صورة التقطت بعدسة أ.هـ ميرزا عام 1890م («الشرق الأوسط»)
TT

مرت عمارة الكعبة بمحطات هامة ولافتة، حيث شهد أول بيت وضع للناس عبر قرون أحداثاً متباينة ما بين بناء وهدم وحرق، كما طرأ على كسوتها تغييرات وتبديلات، وتبادل على سدنتها أشخاص كثيرون من أسر متعددة جاهلية وإسلامية.

ورغم أن كتب التفسير والحديث والفقه والمناسك والتاريخ والمعاجم واللغة قد أوردت أخباراً وروايات تتعلق بشؤون الكعبة المشرفة إلا أن كتاباً خاصاً عن تاريخ الكعبة بشكل مسهب لم يؤلف مع التأكيد على أن أكثر كتب الاسلام التي تؤرخ لذلك قد ذهب الدهر بأكثرها.

وقبل ثمانية عقود نجح الراحل حسين عبد الله باسلامة في تأليف كتاب عن تاريخ الكعبة من حيث عمارتها وكسوتها وسدنتها وأهدى مؤلفه للملك عبد العزيز وقال في الاهداء:

يا مولاي ان الذي دعاني إلى تقديمهما لجلالتكم هدية هو لان الله تعالى قد خصكم بخدمة الحرمين الشريفين، وجعلكم حامين حمى بلده الأمين ومدينة نبيه سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد حميتموهما من تعدي المعتدين وقطعتم دار المفسدين. ونظمتم الدوائر، وأمنتم السبل، وأصلحتم الطرق، حتى أصبحت وفود بيت الله الحرام يؤدون مناسكهم في أمان واطمئنان تحت رعاية الله تعالى ثم رعايتكم. وكنتم أول من أسس دار معمل الكسوة بأم القرى وكسوتم الكعبة المعظمة بكسوة محاكة بمكة على أحسن منوال وأبدع تطريز ولأنكم قمتم بعمارة كل ما وهى وتداعى إلى الخراب بالمسجد الحرام مرات عديدة. وعملتم المظلات بالمسجد الحرام وقاية لوفود بيت الله الحرام الآوين إليه من كل فج عميق من حر الظهيرة. وأنشأتم السبيلين اللذين هما خارج زمزم وجعلتموهما سقاية الحاج. وكنتم أول من رصف شارع المسعى بالحجر الصوان بعد أن كان يتلوث من وحله وغباره كل من يتطوف بين الصفا والمروة من حاج ومعتمر. وأتيتم بأعظم ساعة ضخمة منبهة للمسجد الحرام ولم يأت بمثلها أحد قبلكم أو بما يضاهيها. وقد قام جلالتكم بطبع ونشر كثير من كتب السنة من تفسير وحديث، وتوحيد، وفقه ومناسك حج، وتاريخ وغير ذلك. وشجعتم المصنفين وأعنتموهم ببدر المال على طبع ونشر مؤلفاتهم بما جعلتموهم مدينين لاحسانكم مدى الزمان.

هذا بعض ما لجلالتكم من المزايا العظيمة، والمآثر الشريفة، والاصلاحات القيمة، وما يرجى من جلالتكم في المستقبل أعظم مما مضى، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبكم على حسن أعمالكم ويمدكم بروح منه، ويديم سعدكم، ويخلد مسلككم، ويعلي مجدكم. ويرفع ذكركم، ويجعلكم من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. آمين.

ورصد المؤلف روايات حول تاريخ عمارة الكعبة ولعل اهمها بناء الحجاج لها عام 693م منها ما رواه مسلم في صحيحه عن عطاء أنه قال: فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره ان الزبير قد وضع البناء على أسس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب اليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء أما ما زاد في طوله فاقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه ثم روى مسلم حديثاً آخر عن ابن جريح قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال عبد الله بن عبيد وفد الحارث بين عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال عبد الملك ما أظن أباخبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم انه سمعه منها، قال الحارث: بلى أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي ان يبنوه، فهلمي لأريك ما تركوا منه» فأراها قريباً من سبعة أذرع. هذا حديث عبد الله بن عبيد، وزاد عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقياً وغربياً، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا باباها؟» قالت قلت لا، قال: «تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط» قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال نعم، فمكث ساعة بعصاه ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل وروى مسلم أيضاً عن أبي قزعة أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين يقول سمعتها تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر انقضت البيت حتى أزيد فيه من الحجر فإن قومك قصروا في البناء» فقال الحارث بن عبد الله ان أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال: لو كنت سمعت قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير عليه، ففعل الحجاج ذلك وبناؤه في الكعبة في الجدار الذي من جهة الحجر، والباب الغربي المسدود في ظهر الكعبة عند الركن اليماني، وما تحت عتبة الباب الشرقي وهو أربعة أذرع وشبر على ما ذكره الأزرقي وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير، وهذا ملخص ما ذكره الأزرقي في ذلك بالمعنى وكان ذلك في سنة أربع وسبعين من الهجرة على ما ذكره ابن الأثير، وقيل سنة ثلاث وسبعين على ما ذكره الذهبي في العبر، ثم ابن عبد الملك بن مروان ندم على ما وقع منه في أمر الكعبة. وذكر القصة المتقدمة ولم يرد شيئا.

قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: لم يذكر المصنف رحمه الله تعالي ـ يعني البخاري ـ قصة تغيير الحجاج لما صنعه ابن الزبير، وقد ذكرها مسلم، ثم قال: وللفاكهي من طريق أبي أويس عن هشام بن عروة فبادر يعني الحجاج فهدمها وبنى شقها الذي يلي الحجر، ورفع بابها، وصد الباب الغربي. قال ابواويس: فأخبرني غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها ولعن الحجاج. ولابن عينيه عن داود بن سابور عن مجاهد فرد الذي كان ابن الزبير ادخل فيها من الحجر، قال فقال عبد الملك ودننا أنا تركتا أبا خبيب وما تولى من ذلك. قال الحافظ بن حجر (تنبيه) جميع الروايات التي جمعتها في هذه القصة متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض، ومقتضاه أن يكون الباب الذي زاده على سمته، وقد ذكر الازرقي ان جملة ما غير الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر والباب المسدود الذي في الجانب الغربي عن يمين الركن اليماني وما تحت عتبة الباب الأصلي وهو أربعة أذرع وشبر. وهذا موافق لما في الروايات المذكورة لكن المشاهد الآن في ظهر الكعبة باب مسدود يقابل الباب الأصلي وهو في الارتفاع مثله ومقتضاه أن يكون الباب الذي كان على عبد بن الزبير لم يكن لاصقاً بالأرض فيحتمل ان يكون لاصقاً كما صرحت به الروايات، لكن الحجاج لما غيره رفعه ورفع الباب الذي يقابله ايضاً ثم بدا له فسد الباب المجدد، لكن لم أر النقل بذلك صريحا، وذكر الفاكهي في أخبار مكة أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة في سنة 263 فإذا هو مقابل باب الكعبة وهو بقدره في الطول والعرض وإذا في أعلاه كلاليب ثلاثة كما في الباب الموجود سواء والله أعلم.

وقد ذكر الحافظ بن كثير في تفسيره الأحاديث التي رواها مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها المتقدم ذكرها ثم قال فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة لأنه قد روى عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير فلو ترك لكان جيداً، ولكن بعدما رجع الأمر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو ابيه المهدي انه سأل الامام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد ان يهدمها إلا هدمها فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي.

قال النووي في شرح مسلم وقد ذكروا ان هارون الرشيد سأل مالك بن أنس عن هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للأحاديث المذكورة في الباب فقال مالك أناشدك الله يا أمير المؤمنين ان لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء إلا نقضه وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس ثم قال النووي قال اصحابنا يعني علماء الشافعية. ستة أذرع من الحجر مما يلي البيت محسوبة من البيت بلا خلاف، وفي الزائد خلاف، فإن طاف في الحجر وبينه وبين البيت اكثر من ستة أذرع ففيه وجهان لاصحابنا أحدهما يجوز لظواهر هذه الأحاديث، وهذا هو الذي رجحه جماعات من أصحابنا الخراسانيين، والثاني لا يصح طوافه في شيء من الحجر ولا على جداره، ولا يصح حتى يطوف خارجا من جميع الحجر وهذا هو الصحيح وهو الذي نص عليه الشافعي، وقطع به جماهير أصحابنا العراقيين ورجحه جمهور الأصحاب، وبه قال جميع علماء المسلمين سوى أبي حنيفة فإنه قال ان طاف في الحجر وبقي في مكة أعاده وإن رجع من مكة بلا إعادة أراق دما واجزاه طوافه، واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر، وقال: «لتأخذوا مناسككم» ثم أطبق المسلمون عليه. من زمنه صلى الله عليه وسلم إلى الآن وسواء كان كله من البيت أم بعضه فالطواف يكون من ورائه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى الحافظ نجم الدين بن فهد القرشي في كتابه «اتحاف الورى» انه في سنة اربع وسبعين كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان ان ابا خبيب عبد الله بن الزبير زاد في البيت ما ليس منه واحدث فيه بابا آخر فكتب اليه عبد الملك ان سد بابها الغربي الذي كان قد فتحه ابن الزبير، وأهدم ما كان زاد فيها من الحجر واكبس ارضها بالحجارة التي تفضل من أحجارها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبراً مما يلي الحجر وبناها على أساس قريش الذي كانت قد استقرت عليه وكبس ارضها بالحجارة التي فضلت من أحجارها وسد الباب الغربي الذي كان في ظهرها وتحت عتبة الباب الشرقي وهو اربعة اذرع وشبر، وترك سائرها لم يحرك منها شيئاً فكل شيء فيها بناء ابن الزبير إلا الجدار الذي في الحجر فإنه بناء الحجاج وسد الباب الذي في ظهرها وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم إلى الأرض كل هذا بناء الحجاج والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليها اليوم هما ايضاً من عمل الحجاج وذكر المؤلف كان بين بناء قريش وبناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ثمانون سنة، وبين بناء ابن الزبير وعمارة الحجاج عشر سنين، ثم بقيت الكعبة المشرفة على حالها من يوم أن اقتطع الحجاج منها ما أدخله ابن الزبير فيها من الحجر وسد بابها الغربي ورفع بابها الشرقي إلى سنة 1039 أي تسعمائة واربع وستين سنة لم يصبها وهن ولا خراب غير بعض مرمات بسيطة ، ثم قدر الله سبحانه وتعالى الذي لا راد لقضائه ولا مانع لقدره ان يدخل المسجد الحرام سيل عظيم في تلك السنة التي هي سنة 1039 لم ير الراؤون مثله فكان سببا لسقوط معظم البيت المعظم. وأورد المؤلف تفصيلاً لذلك بالقول: ذكر العلامة ابن علال، والعلامة علي بن عبد القادر الطبري في كتابه الأرج المسكي، والعلامة السنجاري في كتابه منائح الكرم ما كان من عمارة السلطان مراد خان العثماني للكعبة المعظمة سنة 1040 هجرية فأحدهم فصل في جانب من القصة وبين الاسباب التي اقتضت عمارة الكعبة المعظمة، واختصر جانبا منها، واحدهم اسهب في بعضها ولخص البعض، فاضطررت ان أوحد عبارة الروايات الثلاث في قصة واحدة واصوغها في قالب واحد شامل لعموم تلك الروايات ليتم للقارئ الوقوف على عموم القصة مفصلة، حيث انها من اعظم ما وقع للكعبة المعظمة بعد الذي وقع في زمن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما من الحصين بن نمير، فكان ذلك من فعل البشر، وهذه من فعل السيل والمطر، وكلاهما بقضاء وقدر واليك القصة بتمامها.

لما كان يوم الاربعاء تاسع عشر من شعبان، سنة تسع وثلاثين وألف حصل بمكة المكرمة مطر عظيم كان ابتداؤه في الساعة الثانية صباحا واشتد نزوله بين الصلاتين الظهر والعصر، وحصل معه برد واستمر كذلك الى اثناء ليلة الخميس 20 شعبان، وجرى منه في آخر يوم الاربعاء سيل عظيم لم تر العين مثله في هذه الازمنة القريبة ودخل المسجد الحرام وملأ غالبه، ودخل الكعبة المشرفة من بابها ووصل الى نصف جدارها وبلغ في الحرم الى طوق القناديل ودخل بيوت اهل مكة المكرمة واخرج الامتعة وذهب بها الى اسفل مكة، ومات بسبب ذلك داخل المسجد الحرام وخارجه خلق كثير من كبير وصغير وجليل وحقير، قال العلامة أحمد بن علان: وخرصت من مات فيه في النهار والليل نحو ألف انسان وبات تلك الليلة السيل بالمسجد الحرام الى الصباح، ثم لما كان آخر نهار يوم الخميس عشرين شعبان سنة 1039 سقط الجدار الشامي من الكعبة المشرفة وبعض الجدارين الشرقي والغربي وسقطت درجة السطح، وكان ذلك بعد صلاة عصر ذلك اليوم، فحينئذ وقع الضجيج العام والانزعاج في قلوب الناس ثم قال ابن علان وذكر لي بعض الناس انه ذاق ماء ذلك البرد فكان ملحا او مرا، ولما كان صبح اليوم الثاني وهو يوم الخميس نزل أمير مكة المكرمة الشريف مسعود بن ادريس بن حسن وأمر بفتح سراديب باب ابراهيم التي هي مجاري مياه المسجد الحرام وخرج الماء منها الى اسفل مكة المكرمة، ثم لما سقط جدار الكعبة المشرفة قبيل غروب ذلك اليوم وكان أمير مكة المكرمة قد عاد الى داره باجياد وبلغه الخبر خرج من داره فزعا الى المسجد الحرام وحضر معه السادة الاشراف وفاتح البيت الشيخ محمد بن ابي القاسم الشيبي والعلماء والفقهاء والصلحاء، وأمر باقياد الشموع الكائنة في حاصل المسجد الحرام فأوقدت وأمر فاتح البيت ان يدخل الكعبة ويخرج القناديل التي بها خشية عليها من الضياع فعين الشيخ شخصا من خدام الكعبة المشرفة لذلك لكون معه أثر مرض يمنعه من الحركة، فدخل ذلك الخادم ومعه جماعة وأخرجوا القناديل وكانت عشرين قنديلا من الذهب احدها مرصع باللؤلؤ، وغيرها من المعادن والميزاب، ووضعت في بيت الشيخ جمال الدين محمد بن أبي القاسم الشيبي العبدري بعد ان ضبط ذلك بحضرة أميرة مكة المكرمة، وكان منزل فاتح الكعبة المشار اليه بالصفا من اوقاف السلطان مراد على الحجبة فوضعه في مخزن وختم عليه بختم أمير مكة المكرمة، والقاضي ونائب الحرم كما ذكره الطبري المكي وأجلس عليه حرسا، وكل ذلك كان قبل الغروب في ذلك اليوم، ثم انصرف الناس الى دورهم. فلما كان يوم الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور وصل الشريف مسعود أمير مكة المكرمة الى المسجد الحرام ومعه السادة والاشراف والاعيان بعد النداء العام لتنظيف المسجد الحرام فتهافت الناس من كل جانب وشرعوا في ازالة الطين الكائن بالمطاف فشمر مولانا الشريف عن ساعده وأخذ مكتلاً وحمل فيه شيئا من الطين وفعل الناس الاخرون معه كذلك فما كان بأسرع من تنظيف المطاف وما حوله، فباشر الخطيب بخطبة الجمعة وكان الخطيب (فائز بن ظهيرة القرشي المخزومي) وأقام شعارها ثم صلى بالناس في المطاف ثم بعد الفراغ من الصلاة شرعوا في رفع الحجارة التي سقطت من الكعبة المشرفة فمنها ما جعلوه خلف المقام الحنفي ومنها ما جعلوه عند ممشى باب السلام بقرب المنبر وصفوا الصغار منها بين المقام الحنفي وحاشية المطاف ونقل العتالون الاحجار الكبار ووضعوها في صحن المسجد ونقلوا الجباب الى ما تحت مدرسة السلطان سليمان التي هي الآن مركز المحكمة الشرعية الكبرى.

وأرسل الشريف مسعود الى جدة لاحضار خشب يجعل على الكعبة سترا الى ان يشرعوا في عمارتها كما فعل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فوصل الخشب من جدة في آخر شهر رمضان وتحصلوا على خشب آخر من مكة المكرمة فشرعوا في عمل للستارة الخشبية، وكان ذلك يوم الخميس 26 من شهر رمضان سنة 1039 في صبح اليوم المذكور وجاء مهندس مكة المكرمة علي بن شمس الدين بأخشاب من جذوع النخل وقطع نصف العرض من طرف الجذع ووضع رأس كل عود منها في رأس العود الآخر وربط عليها بالزواير ثم بالمسامير الحديد، وجعلت تحت الشاذروان ونقر فيها لاخشاب سواحي وسمر زنانير في هذه الاخشاب وجعلها اطواقا ثلاثة تطيف بالكعبة ليمسكها، وصفح ما بين أعواد السواحي من جهة الجدر الساقط الى اعلا البيت وستر به البيت كله، وتم العمل في يوم الاحد 23 من شهر شوال وجعلوا فيه بابا لطيفا من الخشب في الجهة الشرقية وعمل الشريف مسعود ثوبا اخضر ألبسه الكعبة المشرفة ثم بعد ان ألبسها ذلك الثوب دخلها وصلى فيها، ثم خرج وطاف.

وقد ذكر ابراهيم رفعت باشا المصري في كتابه (مرآة الحرمين) انه ذرع الكعبة المشرفة بالمتر فقال ارتفاعها 15 مترا، وطول ضلعها الشمالية 9.92 متر والغربية 12.15 متر والجنوبية 10.25 متر والشرقية 11.88 متر، فأما ما ذكره ابراهيم رفعت باشا من ذرع الطول والعرض فهو لا يختلف عن ذرع الفاسي والازرقي.

الحجر الأسود غاب 22 عاما

* وأما ما كان من الحوادث التي وقعت على الحجر الاسود من عهد عبد الله بن الزبير الى العمارة الاخيرة التي حصلت في عصر السلطان مراد خان سنة 1040 هـ ثم الى العصر الحاضر قال الازرقي حدثني جدي قال كان ابن الزبير اول من ربط الركن الاسود بالفضة لما اصابه الحريق، ثم قال في حديث طويل عن ابن جريج عن غير واحد من اهل العلم ممن حضر بناء ابن الزبير للكعبة قال وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل بني شيبة بعد ذلك بدهر طويل فشده ابن الزبير بالفضة الا تلك الشظية من اعلاه بين موضعها من اعلى الركن.

وقال الازرقي في رواية اخرى، وكان ابن الزبير قد ربط الركن الاسود بالفضة لما أصابه من الحريق. ثم كانت الفضة قد تزلزلت ونزعت وتقلقلت حول الحجر حتى خافوا عليه ان ينقص، فلما اعتمر هارون الرشيد وجاور في سنة تسع وثمانين ومائة أمر بالحجارة التي بينها الحجر الاسود ان تنقب بالماس، فنقبت بالماس من فوقها ومن تحتها ثم افرغ فيها الفضة، وكان الذي عمل ذلك ابن الطحان متولي بن الشمعل وهي الفضة التي هي عليه اليوم.

وقد ذكر هذه الرواية التقي الفاسي في شفاء الغرام ولم يعلق عليها بشيء، كما ان نجم الدين بن فهد ذكرها في اتحاف الورى مختصرة ولم يعلق عليها ايضا والظاهر انهم اعتبروا صحة الرواية واكتفوا بايرادها لثبوتها بدون تعليق حيث لو كان عندهم خبر يخالفها الالوية على قاعدتها في التثبت من الاخيار والله اعلم.

واما حادثة القرامطة واخذهم الحجر الاسود وتغييبه عندهم نحو اثنتين وعشرين سنة، والفظائع التي ارتكبوها في مكة المكرمة، من قتل الطائفين والعاكفين والركع السجود فليك تفصيلها.

قال التقي الفاسي في شفاء الغرام، ذكر اهل التاريخ ان عدو الله أبا طاهر القرموطي وافى مكة في سابع ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة وفعل فيها هو واصحابه امورا منكرة منها ان بعضهم ضرب الحجر الاسود بدبوس فكسره ثم قلعه، وقيل قلعه جعفر بن علاج البناء بأمر ابي طاهر يوم الاثنين بعد الصلاة لأربع عشرة خلت من ذي الحجة سنة 317هـ وذهب به معه الى بلاده هجر، وبقي موضعه من الكعبة المعظمة خاليا يضع الناس فيه ايديهم للتبرك الى حين رد الى موضوعه من الكعبة المعظمة وذلك يوم الثلاثاء يوم النحر من سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة على ما ذكره المسبحي وذكر ان الذي وافى به مكة سنير بن الحسن القرمطي وان سنير لما صار بفناء الكعبة ومعه امير مكة اظهر الحجر من سقط وعليه ضبه فضة قد عملت من طوله وعرضه تضبط شقوقا حدثت عليه بعد اقتلاعه واحضر معه جصا يشد به، فوضع سنير الحجر بيده وشده الصناع بالجص وقال سنير لما رده، اخذناه بقدرة الله ورددناه بمشيئة الله. ونظر الناس الى الحجر فتبينوه وقبلوه وتسلموه وحمدوا الله تعالى. وكان رد الحجر الاسود في موضعه قبل حضور الناس لزيارة الكعبة يوم النحر. وكانت مدة كينونته عند القرمطي واصحابه اثنتين وعشرين سنة الا اربعة ايام هذا معنى كلام المسبحي.

وأما ما وقع من الترميمات بعد عمارة السلطان مرادخان المشار اليه فقد ذكر الطبري المكي في الاتحاف انه في سنة 1045 ورد المعمار رضوان بك لعمارة سقف الكعبة وكان الشريف قد عرض ذلك الى السلطان لما اخبره الحجبة (آل شيبي) والمهندسون بذلك فجاء الامر باصلاح ما تحتاج اليه وان يحدد بابها ويرسل بالباب العتيق اليه فلما وصل رضوان بك المذكور الى مكة عقد مجلسا بالحرم الشريف وحضر البكري وقاضي المدينة حنفي زادة، وحضر أمير مكة والفقهاء وبعد ان قرأوا القرآن قاموا الى الكعبة وأشرفوا على ذلك وشرع المعمار الامير رضوان بك في عمله في اوائل شهر محرم من السنة المذكورة وفرض سطح الكعبة الشريفة بالرخام الابيض.

وذكر الطبري أيضا في الاتحاف انه في سنة 1073 انكسرت خشبة من سقف الكعبة فاقتضى الحال الى كشف السقف وازالة تلك الخشبة وعمر السقف عمارة جديدة واحاطوا الكعبة سقايل الخشب من الارض الى السقف وستروا على المعلمين بالخصف من خارج السقايل.

تطييب الكعبة

* نقل التقي الفاسي في كتابه شفاء الغرام عن الازرقي انه روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها انها قالت: طيبوا البيت فان ذلك تطهيره وروى عنها ايضا انها قالت: لان اطيب الكعبة احب الى من ان اهدي لها ذهبا وفضة وروي ايضا عن ابي نجيح ان معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه اجرى للكعبة وظيفة الطيب لكل صلاة، وكان يبعث لها بالمجمر والخلوق في الموسم وفي رجب، واخدمها العبيد، ثم اتبعت ذلك الولاة.

وروى عنه ايضا ان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر ويجمر الكعبة كل جمعة برطلين من مجمر، قال المحب الطبري المجمر ما يتجمر به وهو عود الرطب وبالضم ما يتجمر فيه والخلوق طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من انواع الطيب ويغلب عليه الصفرة والحمرة، وقال المحب الطبري ايضا: قال الامام ابوعبد الله الحليمي روى سعيد بن جبير انه كان يكره ان يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به وقال عطاء: كان احدنا اذا اراد ان يستشفى به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم اخذه، ذكره ابن الصلاح في منسكه. وذكر النووي بأنه لا يجوز اخذ شيء من طيب الكعبة لا للتبرك ولا لغيره. ومن اخذ شيئا من ذلك لزمه رده فان اراد التبرك اتى بطيب من عنده فمسحها به ثم اخذه.

هذا ما ذكره التقي الفاسي عن تطييب الكعبة وعن اخدامها، وقد تقدم ان محمد المهدي العباسي طيبها بالغالية والمسك والعنبر، ثم صار ذلك الطيب يهدى لها من سائر الملوك والسلاطين والامراء الى ان صارت ولاية الحرمين الشريفين تابعة لسلاطين آل عثمان فصار الطيب والبخور يأتي سنويا من القسطنطينية من ضمن المرتبات التي خصصت للحرمين الشريفين واستمر ذلك الى نهضة الشريف الحسين، ثم صار يصرف لرئيس السدنة من صندوق المالية شيئا من النقود مع مخصص غسيل الكعبة المعظمة برسم الطيب والعمل جار على ذلك الى العصر الحاضر.

أغوات الحرم

* وتناول باسلامة من نذروا انفسهم كخدام للكعبة فيما يعرف اليوم باسم الاغوات واما خدام الكعبة المعظمة فظهر من سياق الحديث ان معاوية بن ابي سفيان هو اول من اخدمها العبيد ثم اتبعه الولاة وقد استمر اخدامها بالعبيد من ذلك العهد الى العصر الحاضر والقائمون بخدمة الكعبة الآن هم الاغوات وليسوا مماليك لأحد بل هم احرار قد اعتقوا من قبل اوليائهم ولهم مرتبات شهرية تصرف من صندوق المالية، ولهم إدارة خاصة ورئيسهم منهم، وقد جرت العادة ان يكون الرئيس عليهم اقدمهم خدمة ولهم بيت مال خاص بهم، ويتوارثون بعضهم بعضا، وخدمتهم منحصرة في تنظيف المطاف وحجر اسماعيل ومقام ابراهيم، والفرش الحجري المحيط بمدار المطاف الذي عليه مقامات الائمة ولهم وظائف أخرى مثل وضع الشماعدين على باب الكعبة من الغروب الى بعد صلاة العشاء ومن طلوع الفجر الى الاسفار وكانوا قبل دخول الكهرباء بالمسجد الحرام يضيئون القناديل التي على الاساطين المحاطة بصحن المطاف والمقامات الاربعة ولهم في كل ذلك نظام خاص بهم حسب عادتهم القديمة، وأما وظائفهم وترتيباتهم وقواعدهم في الترقي والخدمة فهي أول ما يدخل الاغاه في الخدمة يسمى نفروله الخدمة ثم يترقى بعد ذلك بالتسلسل حتى يبلغ وظيفة شيخ المفتاح، وهذه الوظيفة هي أمانة مفاتيح غرف الادوات من شماعدين وأواني تنظيف مدار المطاف والحجر وأطراف الكعبة وغير ذلك. ثم يترقى بعد ذلك الى وظيفة (دور ورى) وهي مراقبة الاغوات حال قيامهم بتنظيف الصحن وما حوله ثم يترقى الى رتبة ضابط ويسمى ضابط أول ويدخل في سلك (البطالين) ووظيفته البطالين كنس مدار المطاف وما يتبعه مع حجر اسماعيل، وتنظيم صفوف المصلين داخل الصحن والفرش الحجر المحيط بالصحن الذي عليه مقامات الائمة فقط. ثم يترقى الى رتبة (خبزى) وهؤلاء الخبزية لاي تجاوز عددهم أحد عشر نفرا على الدوام فاذا مات أحدهم ارتقى الى وظيفته أقدم البطالين خدمة، ثم يترقى من الخبزية فيبلغ وظيفة (بيت المال) الخاص لهم، ثم يترقى الى (نقيب) ثم يترقى من نقيب الى شيخ طائفة الاغوات، وشيخهم الحالي هو الشيخ حسن هبة. هذا ما عليه أغوات الحرم في العصر الحاضر.

غسل الكعبة

* جرت العادة بغسل داخل الكعبة المعظمة من عهد بعيد، وكان أول من ابتدأ غسل الكعبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم فتح مكة فبعد أن كسر الاصنام وأزال عنها معالم الشرك أمر بغسلها، وقد روى السنجاري في منانح الكرم ذلك وهذا نصه قال: ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الكعبة بعدما كسر الاصنام وطمس التصاوير، فتجرد المسلمون في الازر وأخذوا الدلاء وارتجزوا على زمزم وغسلوا الكعبة ظاهرها وباطنها فلم يدعوا أثرا من آثار المشركين الا غسلوه ومحوه. وهذه الرواية نقلها عن التقي الفاسي رواها عن الفاكهي.

ثم صار غسل الكعبة المعظمة بعد ذلك عادة تجرى وسنة متبعة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الى العصر الحاضر، أما غسل الكعبة في العصر الحاضر فهو يجري في العام مرتين مرة قبل الحج، ومرة بعد سفر الحجاج من مكة، وغالبا ما يكون الغسل في المرة الأولى في أواخر شهر ذي القعدة وربما كان في أول ذي الحجة من كل سنة، والمرة الثانية غالبا ما يكون غسل الكعبة في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الاول.

أما كيفية الغسل فاليك تفصيله وهو انه في صباح اليوم المبين لغسل الكعبة المعظمة بحضور رئيس سدنة الكعبة المعظمة الى الحطيم بعد شروق الشمس بلحظة ومعه السدنة آل الشيبي فيفتح باب الكعبة المعظم ثم يأتي اتباع السدنة بغلال فيها ماء الورد، وقوارير فيها عطر الورد. وبالمباخر والعنبر، والعود، والند ويؤتى بالأزر وهي تكون غالبا من النوع الذي يسمى (بالشال الكشميري) لأجل الازار بها حال غسل الكعبة المعظمة.

وقد جرت العادة على ان يدعو رئيس السدنة ولاة الامر من ملوك أو أمراء أو ولاة، ووزراء الدولة، والقاضي، ورؤساء الدوائر، الى غسل الكعبة، وقبل حضورهم بلحظة يكون كل مواد الغسل حاضرة، وتحضر مديرية الاوقاف عادة المكانس، ويحضر شيخ الزمازمة الموكلين بسقاية الحاج ماء زمزم سطولاً مملوءة من ماء زمزم الى الكعبة فيتسلمها منهم السدنة واتباعهم ويدخلونها الكعبة المعظمة.

وبعد استكمال كل ذلك بداخل الكعبة المعظمة يحضر المدعون لغسل الكعبة بداخل الكعبة ويأخذ كل واحد منهم ازارا فيرتدي به ثم يحمل المكنسة ويباشر الجميع غسل الكعبة بماء زمزم مضافا اليه ماء الورد، ثم بعد اتمام غسل أرض الكعبة وبعض أطراف جدارها السفلي يباشرون مسح جدارها الى ارتفاع قامة الانسان بماء الورد أولا ثم يطيبوها بعطر الورد، ويوضع ذلك في طاسات من معدن ابيض أو بلور، وبعد انتهاء عمل الطيب بالعطر يضمون العنبر، والعود، والند، في مباخر بديعة فاخرة وتبخر بها عموم أطراف الكعبة وجميع جوانبها بعد تجفيف ارضها بالاسفنج، وبعد اتمام غسل الكعبة وتطييبها يقسمون السدنة تلك المكانس على الناس المجتمعين عند باب الكعبة.

المؤسس غسل الكعبة عدة مرات

* وقد حضر جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وغسل الكعبة المعظمة بنفسه عدة مرات وباشر غسلها بيده الميمونة، وحضر معه في كثير من المرات غسل الكعبة ولي عهد المملكة العربية السعودية الامير سعود بن عبد العزيز، ونائبه العام رئيس مجلس الوكلاء الامير فيصل بن عبد العزيز وبعض أنجاله المباركين وبعض الأسرة الكريمة، ورجال الدولة وقضاته.

ويقول المؤلف باسلامة: وقد حضرت غسل الكعبة المعظمة وباشرت الغسل بنفسي عدة مرات وأول مرة حضرت غسل الكعبة سنة 1329هـ وذلك في عصر رأسه صاحب الفضيلة المرحوم الشيخ محمد صالح بن أحمد الشيبي، ولا يزال الامر في غسل الكعبة جار حسبما وصفت الى هذه السنة التي حررت فيها هذا المؤلف عام 1935م.

مقذوفات وحرائق تصيب الكعبة

* وتناول المؤلف حوادث متفرقة تتعلق بالكعبة وسدنتها منها ما قاله السنجاري: حكى الفاسي ان خالد بن عبد الله القسري ـ كان أميرا على مكة من قبل سليمان بن عبد الملك بن مروان الاموي ـ أخاف عبد الله بن شيبة الحجي فهرب منه الى سليمان بن عبد الملك مستجيرا به منه. فكتب اليه سليمان كتابا يأمره فيه (ان لا تهيجه) فجاء عبد الله بن شيبة بن عثمان بالكتاب فلما أعطاه لخالد أخذه ووضعه ولم يقرأه وأمر بعبد الله بن شيبة فجلد، ثم فتح الكتاب وقرأه وقال لو قرأته قبل لم أجلدك فرجع عبد الله الى سليمان فأخبره بذلك فأمر سليمان بالكتابة في خالد وأن تقطع يده فكلمه فيه يزيد بن المهلب وشفع فيه، فكتب له ان تقيده فاقيد منه عبد الله. قال الفاسي: ولعل هذا الفعل سبب عزله فانه عزله وولى مكة طلحة بن داود الحضري. فهذا يدل على كرامة آل شيبة عند أمراء المؤمنين حيث لما اعتدى خالد القسري بصفته أمير مكة على عبد الله بن شيبة: أمر أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك بقطع يده ثم بقوده أي أخذ القصاص منه بعد شفاعة يزيد بن المهلب ثم بعد أن أقتص منه عزله، وقد حدث من خال القسري جملة أمور بمكة تدل على تطرفه الشنيع في ابتداء ولايته ثم لما تولى العراق صلح أمره ثم امتحن.

وروى السنجاري في تاريخه قال: ذكر الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه المسامرة أن المهدي لما حج سنة 160هـ دخل الكعبة ومعه منصور الحجي فقال له المهدي في جوف الكعبة اذكر حاجتك، فقال منصور اني استحي من الله ان اسأل في بيته غيره. فسكت المهدي فلما خرج بعث اليه بعشرة آلاف دينار. وروي ايضا ان السلطان قايتباي أمر في سنة 884 هـ بغسل الكعبة وتطييبها ظاهراً وباطناً. فحضر شريف مكة الشريف محمد بن بركات وقاضي مكة برهان الدين ظهيرة وجردت الكعبة وغسلت ظاهراً وباطناً وطيبت بماء الورد والمسك ثم أعيد ثوبها. ونقل عن الجزيري في تاريخه انه في سنة 954 هـ يوم السابع من ذي الحجة رأي الطائفون وقت السحر دخانا صاعدا من جهة الكعبة فوصل الخبر الى الشريف فنزل بنفسه ومعه أكابر الدولة ففتحت الكعبة فوجدوا نارا في عقب الدرفة اليمنى من باب الكعبة فعزلوا الباب المذكور واطفئوا النار وأعادوه على حاله، وذكر في حوادث سنة 976 هـ أنه لثلاث بقين من رمضان فتح الشيخ عبد الواحد الشيبي الكعبة المشرفة للنساء على جري العادة فسرق من حجره مفتاح الكعبة وهو مصفح بالذهب فوقعت الضجة وأغلقت أبواب الحرم وفتشت الناس فلم يظفروا به ثم وجده سنا باشا باليمن مع رجل أعجمي فأخذه وقرره وكبس داره فوجد عنده المفتاح وغيره من سرقات أقر بها فقطع رأسه وأعاد المفتاح الى الشيخ عبد الواحد. وروي السنجاري في حوادث سنة 1087 هـ أنه لما كان يوم الخميس 8 شوال من السنة المذكورة قد اصبح الناس فاذا الكعبة المشرفة ملطخة بعذرة أو بما يشبه العذرة مع جميع جوانبها، وكذلك الحجر الاسود، الركن اليماني فاتهم بهذا الفعل الشيعة فاشتدت حمية الاتراك المجاورين فأخذوا من الحرم خمسة أنفس من العجم بعد شروق الشمس وأوقعوا فيهم بالضرب والرجم بالحجارة وضربا بالسيوف وألقوهم على بعضهم ولم يطالب فيهم أحد، وكان يوما أغبر على الشيعة بمكة، وذكر في سنة 1099 انه في يوم الخميس غرة ربيع الثاني عمّر محمد بك شيئا من أخشاب الكعبة وطلعوا ارسال من جدة جعلوها حول الكعبة من الخارج وركبوا الكسوة لتغير افريز السطح من التي تربط فيها الكسوة لأنها استأكل وذكر في حوادث سنة 1100 انه في يوم الجمعة 29 المحرم طلع امير مكة الشريف أحمد بن غالب سطح الكعبة المشرفة للاشراف على افريز الكعبة التي تربط فيه الكسوة لاخبار المعلمين له بأنه استأكل ويحتاج الى التغيير وجاءه أمر من السلطان بعمارة ما يحتاج اليه من الكعبة وتعريف جهة السلطنة بما صرف في ذلك فاتفق ان وجبت الجمعة ودخل الخطيب وهو في الكعبة فصلى الجمعة وهو في جوفها ولما ان فرغ العمل أخلع (أي البس) الشيخ عبد الواحد الشيبي، وولده الشيخ عبد المعطي، والمهندسين.

وختم المؤلف باسلامة كتابه بذكر الحادث العظيم الذي وقع للكعبة المعظمة في نهضة الشريف الحسين بن علي فقال:

انه في عصر يوم السبت الموافق 23 شعبان سنة 1334 اثناء الحرب المشتعلة بين الشريف الحسين بن علي والجنود العثمانية حين حصاره لقلعة اجياد. اطلق أحد الجنود التركية المحصورة في قلعة أجياد قنبلة من مدفعه على جهة المسجد الحرام فوقعت شظية من شظايا القنبلة المقذوفة على الكعبة المعظمة من الجهة الجنوبية قريبا من سطح الكعبة فاشعلت النار في ثوب الكعبة. من أعلاها في تلك الجهة وبقرب الحجر الاسود فلما رأى ذلك الناس فزعوا فزعا شديدا واجتمع أهل البلاد من كل اطرافها واحتشدوا في المسجد الحرام وبعث رئيس السدنة المرحوم الشيخ محمد صالح بن أحمد الشيبي ابنه الشيخ محمد الذي هو رئيس السدنة الآن (ايام تاليف الكتاب قبل 75 عاماً) ففتح باب الكعبة وصعد الناس فاطفئوا النار في لحظة. والحمد لله.

وقد وقع من تلك المقذوفات التي كانت تقذف من قلعة أجياد اصابات كثيرة في قباب المسجد الحرام، وأغلبها كانت تقع في قباب باب الزيادة وبعض الجهة الشمالية من المسجد الحرام، وباب أم هاني وبعض الجهة الجنوبية، وسبب ذلك ان الشريف الحسين وضع من رجاله أناسا في بعض الدور المجاورة للمسجد الحرام وصعد منهم أناس في بعض منائر المسجد الحرام وصاروا يطلقون بنادقهم على القلعة المذكورة فقابلوهم باطلاق المدافع التي وقعت مقذوفاتها على بعض قباب المسجد الحرام واحترق من شظاياها ثوب الكعبة وقد ابقى الشريف الحسين بعد نهاية الحرب تلك الاصابات والخراب الذي وقع من مقذوفات الجنود التركية من قلعة أجياد بالمسجد الحرام على حالها مدة من الزمن لأجل أن يشاهد ذلك الوافدون من حجاج بيت الله الحرام من كل فج عميق، ثم بعد انقضاء الموسم أمر باصلاح كل الخراب.