«برودة الشتاء» تنعش أسواق العطارة.. في القصيم

النساء يتسابقن لاستخدام أعشاب عطرية باعثة للدفء

تشهد محال العطارة إقبالا كبيرا في موسم الشتاء خصوصا من النساء. («الشرق الأوسط»)
TT

لم تكن مفاجأة لأبو ناصر، صاحب محل العطارة المعروف، شدة الإقبال والرواج الذي يلقاه محله الواقع ضمن سلسلة من محلات العطارة في شارع «الصناعة» في مدينة بريدة، خاصة أن فصل الشتاء بلغ أوج برودته على المدينة الواقعة وسط شمال منطقة القصيم، ذات المناخ القاري البارد شتاء مع الأمطار المتوسطة. هذه السلسلة من المحلات ليست الوحيدة في المدينة، حيث نجدها بشكل متفرق أيضا عند أطراف الأسواق الأخرى، كما يأخذ قسم العطارة مكانه المعلوم وسط الأسواق الحديثة، ولكن هذه المحلات أخذت مكانها هنا بالقرب من سوق «الحريم»، ولقيت رواجا شبه يقيني بأن كل شيء موجود فيها.. حتى لبن «الطير». ولئن كان التداوي بالأعشاب من الظواهر العريقة فى شبة الجزيرة العربية، فإن منطقة نجد هي الأكثر اشتهارا باستخدام الأعشاب، خاصة أن موقع المنطقة وسط السعودية هيأها لتكون معبرا للحجاج الوافدين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة من الهند وبلاد فارس، فتلاقحت ثقافة تناول الأعشاب، التي يجلبها الحجاج، مع الموجودة أصلا في منطقة القصيم خاصة، المتميزة باتساع رقعتها وامتلاكها ثروة من الأعشاب الطبية والعطرية التي يستخدمها أهالي المنطقة منذ القدم.

أبو ناصر لا يعرف شيئا عن موسوعة «ابن سينا» أو «تذكرة داود»، ولم يقرأ مؤلفات «الرازي» و«ابن البيطار»، لكنه ردد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «عليكم بأربع، فإن فيهن شفاء من كل داء إلا السأم والسنا والسنوت والثفاء والحبة السوداء». واستطرد قائلا «إن المهنة توارثناها أنا وإخواني عن أبي وأجدادي».

لم يقطع حديث أبو ناصر إلا توافد الزبائن على المحل، رغم برودة الجو، ومعظم الزبائن من السيدات، يطلبن الأعشاب الخاصة بفصل الشتاء مثل الزنجبيل، الحلبة، الزوفا، ست الحسن، الشاي الأخضر والزعتر. فبينما يكتفي أبو ناصر بالإجابة على أسئلتهن بأن «كل شيء موجود»، يعمل عامله الوحيد على تلبية جميع الطلبات حتى لم يتبق في حاوية «الزنجبيل»، متوسطة الحجم، غير فتات.

إحدى السيدات كسرت القاعدة «الشتائية» وهي تبحث عن زيت لتنعيم الشعر، وبسؤالها عما إذا كانت تعرف اسما معينا لهذا الزيت؟ أجابت «نعتمد في أغلب الأحيان على وصفات أخرى مجربة لهذه الزيوت، وقد رأينا أثرها الملموس».

وأضافت «إن اسم المنتج غير ضروري لأن مثل هذه المنتجات رغم شهرتها على نطاق النساء، فهو يعتبر نطاقا ضيقا مقارنة بما تلقاه الأسماء التجارية الأخرى من رواج على القنوات الفضائية».

وبعيدا عن مسامع صاحب المحل أجابت «ملاك العقيل»، التي كانت تطلب نصف رطل من «ست الحسن»، عن سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول مدى اهتمامها بمركبات المنتج والتأكد من خلوه من المواد الكيميائية والشوائب وغيرها، بأنها خالية من أي مواد كيميائية، وذلك لأنها «مجرّبة» على حد قولها.

وذكرت «نوال السعوي» أن الزنجبيل الطازج هو شراب العائلة المفضل في ليالي الشتاء الطويلة ونهارها أيضا، خصوصا لكبار السن، أما بناتها في سن المدرسة، فهن يستعن على البرد بالمشروبات الساخنة الأخرى، مثل «الكابتشينو» و«النسكافيه»، مشيرة إلى أن «هذه الأنواع الدخيلة من المشروبات ليس لها مفعول المشروبات التقليدية التي عشقناها من كبارنا وأحببنا جلستنا معا حول نارها».

وتختلف الآراء حول جدوى الأعشاب الطبية، خاصة أن الجدل ما زال يدور حول كثير من حقائقها العلمية، لكن ما يمنع إماطة اللثام عن خصائص كثير منها هو إحاطة هذه الأعشاب بهالة سحرية كمستودع أسرار علاجي عصي على الإفصاح عن محتواه من قبل المروجين لهذه الأعشاب. وترى حنان محمد، باحثة اجتماعية، أن سر الإقبال الكبير على الأعشاب، القصص والروايات التي تُنسج حولها، وهي غالبا ما تحولها إلى أدوية خارقة. وأضافت أنه لا يمكن إنكار هذا النوع من التداوي بالأعشاب أو استخدامها لأغراض أخرى كالزينة، ودخولها في الأغذية المختلفة، لكن يجب ألا تكون هناك مبالغة في أن نفعها يغلب على ضررها في بعض الأحيان.

أما الدكتور عادل حسني، صيدلي، فقد قال، وهو يشير إلى الأدوية على أرفف صيدليته، إن كثيرا من الأدوية مستخلص من النباتات والأعشاب، مع إضافات كيميائية، موضحا أن «دورنا كصيادلة يحتم علينا الدعوة إلى استخدام الأساليب العلمية في العلاج، إلا أن العودة إلى الطبيعة والطب البديل لا يرفضها أحد، بشرط أن تتم هذه العملية على أسس علمية سليمة ودون مغالاة». أما إنعام بركات، وهي من المتحمسات للتداوي بالطب الشعبي، فقالت وهي تحمل مواد العطارة بيد وتنتظر بالأخرى بعض الوصفات التي يقوم العامل بإعدادها، إن «ما نأخذه من العطارة قد ينجح في علاج نزلات البرد وأمراض الصدر التي تنتشر في مثل هذا الطقس، وقد تكون فعاليتها أكثر من فعالية أدوية الطبيب، ولدي في المنزل صيدلية متكاملة، إلا أن صديقاتي أخبرنني بوصفات تجميلية ظهرت أخيرا فجئت لآخذها قبل أن تنفد».

أمام المحل يقف عدد من السيدات، اللائي يسألن عن أعشاب معينة بالاسم، أو يعرضن مشكلتهن وينتظرن الوصفات السحرية من عامل محل العطارة، غير مدركات أن هذا العامل البسيط قد لا يعرف أكثر من أسماء هذه المواد، وهو بالطبع ليس صاحب العلم والخبرة حتى يتخذنه طبيبا مداويا.

الوجوه العديدة البشوشة والمتفائلة التي رصدتها «الشرق الأوسط» أمام المحل تكاد تكذب مقولة «لا يصلح العطار ما أفسده الدهر»، وإلا لماذا هذا الإقبال الشديد على محلات العطارة، مما يجعلنا أمام فرضية أخرى قد تصح في النهاية وقد تخطئ، وهي أن هذا العطار قد يصلح أشياء أخرى غير تلك التي أفسدها الدهر.