سعوديات يرافقن عالم الأموات: التغسيل فن.. ولكن نظرة المجتمع تزعجنا

المشرف على مغاسل الدمام: نسبة الأجنبيات تقلصت.. ونتسلم شهرياً نحو 200 جنازة

TT

تبتسم أم مبارك (40 عاماً) وهي تقرأ احصائية حديثة تفيد بأن السعوديات يصرفن أكثر من 400 مليون ريال سنوياً على أدوات الزينة والماكياج، لكونها توقفت عن الركض وراء الأسواق والموضة وما سمته «الاهتمامات الدنيوية» بعد أن انخرطت في العمل كـ«مغسلة موتى» في مغسلة جامع الإمام فيصل بن تركي بالدمام، التي تعد أكبر مغسلة للموتى شرق السعودية.

وتعتز أم مبارك بكونها واحدة من بين 10 نساء فقط يتحملن مسؤولية تغسيل جميع موتى مدينة الدمام، حيث أخذت تشرح لـ«الشرق الأوسط» بحماسة كيفية الغسل والتكفين، لكنها لم تخفِ حزنها من نظرات النفور التي تقرأها في أعين فئة من المجتمع، قائلة:«بعض الناس يظنون أني قاسية القلب ولا أتأثر بمنظر الأموات مع أني أحزن وأبكي أحياناً»، إلا أن هذا لم يمنعها من تغسيل أكثر من 100 جنازة، كما تقول.

ورغم أن راتب أم مبارك لا يتجاوز الـ2000 ريال فقط، إلا أنها تؤمن بأن عملها إنساني بالدرجة الأولى وتسعى منه إلى الجزاء من الله، وهو ما دفعها للتطوع مدة سنتين قبل تثبيتها كموظفة بالمغسلة، مضيفة«لا يوجد ساعات محددة لدوامي، ربما يمر يوم أو يومين لي من دون عمل، لذا أكون ببيتي ومتى ما دعت الحاجة لوجودي هاتفتني إدارة المغسلة مباشرة للحضور».

وربما أغرب ما في عمل المُغسلة تعاملها مع أموات تجهل هويتهم، فبسؤال أم مبارك عن أبرز الشخصيات التي تولت غسلها وتكفينها، تقول:«هناك جنائز تأتي مع أفواج كثيرة وتحظى باهتمام كبير لكن لا نسأل عن هوية أصحابها»، وأضافت«هناك أيضاً جنائز لا يأتي معها أحد، وقد توضع الميتة عند باب المغسلة لوحدها، وهذا يؤلمني كثيراً، لأن الميت يحس بمن حوله».

وبينما يحرص كثير من الناس على طلب مُغسلات معينات بالاسم قائلين:«لا نريد سوى فلانة لتغسيل موتانا»، تؤكد أم مبارك أن ذلك يعود لـ«شطارة المغسلة وسرعتها وخفة يدها»، موضحة أن المُغسلة الجيدة تتمتع أيضاً بكونها «ملمة بكافة تفاصيل العمل وقادرة على الإجابة عن أي سؤال»، وهو ما تضيف بأنها أمور تزداد مع الخبرة التي تكتسبها المُغسلة بمرور السنين. وتوضح مُغسلة موتى أخرى (فضلت عدم ذكر اسمها) أن ضحايا الحوادث هم أصعب ما يمر عليها، قائلة: «أحياناً نعتذرعن غسلها إن كانت هناك حروق أو تشوه شديد وقد نكتفي فيها بالتيمم»، فيما أشارت لكون بعض النساء ينتقدن الأغراض المتوفرة في المغسلة ويسألن « لماذا لم تحضروا الريحان؟ وهل هذه فقط العطورالموجودة»؟، وهو ما ترد عليه بالقول:«إن أردتم شيئا إضافيا أحضروه معكم، فالمغسلة توفرالسدر والكافور ودهن العود والمسك وغيره».

من جهتها، ترى هيا العبيد، ناشطة دعوية في الرياض تطوعت بتغسيل الموتى لأكثر من 10 سنوات، أن أقسى ما يمر على مُغسلة الموتى هي لحظة تغسيلها لأحد من أهلها وسماع بكاء قريباتها حولها، مؤكدة أن المشاهد التي تراها مُغسلة الموتى تجعلها تفقد اللهفة على ملذات الدنيا وتحرص على الزهد والتقرب من الله، قائلة: «كثير من الناس تغيرت حياتهم بعد المغسلة».

وحول نظرة المجتمع، توضح العبيد لـ«الشرق الأوسط»، أن هناك فئة من الناس يظنون أن مُغسلة الموتى قوية القلب، وهو ما تعلق عليه بالقول:«كثيراً ما كنت اتأثر لكن احتسب الأجر عند الله»، وعن دافعها للقيام بهذا العمل أكدت أنه قبل نحو 10 سنوات كان هناك حاجة ملحة للنساء اللاتي يعملن بتغسيل الموتى، فيما ترى أنه أصبح هناك شبه اكتفاء في السنوات الأخيرة بعد التنظيمات الجديدة لعمل المُغسلات.

إلا أن وظيفة تغسيل الموتى مازالت تبدو خاصة باللاتي تجاوزن سن الـ35 على الأغلب، لتخوف بعض الفتيات واعتقادهن أن ممارسة هذا العمل قد يؤدي لـ«العنوسة» ونفورالمجتمع، وهنا تتذكر العبيد أن من علمتها كيفية التغسيل لم تكن تتجاوز الـ21 من عمرها، وهو ما ترجعه لاختلاف تفكير الفتيات الآن عنه قبل 10 سنوات، مضيفة «مناظر الأموات ليست بسيطة، خاصة لصغيرات السن».

من جانبه، كشف محمد الكثيري، المشرف العام على مغاسل الموتى بالدمام، لـ«الشرق الأوسط»، أن نسبة السعودة لدى مُغسلات الموتى تزايدت في السنوات الأخيرة، مقارنة بالسابق، موضحاً أن مدينة الدمام وحدها تضم 3 مغاسل للموتى فيها 25 موظفا (15 رجلا و 10 مغسلات من النساء) جميعهم يعملون على بند الأجور، وأفصح بأن ذروة العمل تكون خلال فترتي الظهر والعصر.

وأفاد الكثيري الذي يعمل في تغسيل الموتى منذ 16 سنة، أن مغاسل الدمام تستلم شهرياً ما بين 150 إلى 200 جنازة، وبسؤاله عن ما إذا كان هذا العدد يزداد بأشهر معينة كما يعتقد البعض، أكد عدم صحة ذلك، وتابع قائلاً: «عدد الجنائز يزداد أحياناً في الإجازات لكثرة الحوادث»، وحول الدورات التي قدمها جامع الإمام فيصل بن تركي بالدمام لشرح آلية تغسيل الموتى، أفصح أنها حظيت باقبال كبير من الرجال والنساء.

وقد يلفت الداخل لمغاسل الموتى الاعلان المعلق على الجدان (يمنع تقديم أي مبالغ نقدية لعمال المغسلة فجميع الخدمات مجاناً)، وهو ما يرجعه الكثيري لحرص الإدارة على إخلاص مغسلي الموتى وإتقان عملهم بعيداً عن أي مطامع مادية، وبسؤاله عن بعض التصرفات الغريبة التي تصدر من أهالي الأموات داخل المغسلة نتيجة الجهل أو المبالغة بالحزن، أكد أنها أمور تقلصت كثيراً عن السابق، مشيراً للدور«التوجيهي» الذي يُطالب به مغسلو الموتى أمام هذه الحالات.

وفيما تبرز القصص التي تنتشر عن عالم الأموات من ذكر سوء وحسن خاتمتهم وملامحهم التي كانوا عليها في لحظاتهم الأخيرة، أكدن مـُغسلات الموتى اللاتي تحدثن لـ«الشرق الأوسط» أن هذا تصرف منهي عنه، مرجعات ذلك لكونهن مؤتمنات على أسرار الموتى، فيما تعود أم مبارك لتوضح أنها تحرص على سرد ما يسر أهل المتوفاة فقط من دون ذكر أي أمر سيىء، ويعزز هذا التوجه العديد من الفتاوى الدينية التي تحذرمن «اغتياب الميت».