باحثة في مجال الأودية والسيول لـ «الشرق الأوسط»: جدة عرضة للكوارث.. وغياب الصرف الصحي سبب المشكلات

قالت إن 11 واديا تحيط بجدة من الشرق وشمال شرق بانحدار 25 إلى 30 درجة

معظم الأودية في مدينة جدة طمسها التمدد العمراني («الشرق الأوسط»)
TT

قدمت باحثة سعودية متخصصة في مجال الأودية والسيول نحو 12 توصية «مهمة» للخروج بجدة من أزمتها وإعادة الحياة الطبيعية لها، مشيرة إلى أن المدينة في وضعها الطبيعي عُرضة للكوارث الطبيعية ومؤكدة أن «مشكلات جدة مترابطة لكن حجر الزاوية فيها قضية غياب مشاريع الصرف الصحي الذي كان سببا رئيسا لمعظم المشكلات الأخرى».

واعتبرت الدكتورة مشاعل بنت محمد آل سعود، الباحثة في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية والخبيرة في قضايا الأودية والسيول، خلال حديث خاص لـ«الشرق الأوسط» أن «المشكلات البيئية في مدينة جدة نظام ذو تأثير وتأثر مما يستوجب ضرورة اللجوء إلى الحلول الشاملة العاجلة». مشيرة إلى أن قفل وطمس معظم مسارات الأودية الطبيعية المتجهة للبحر نتيجة للتطور العمراني أدى إلى حدوث سيول وفيضانات عارمة».

واعتبرت الدكتورة مشاعل آل سعود أن مشكلة الصرف الصحي هي حجر الأساس في تصاعد المشكلات البيئية الأخرى مثل ارتفاع منسوب المياه ـ تلوث مياه الشرب والمياه الجوفية، تلف البنية التحتية، انتشار الأمراض والأوبئة، خلاف التأثير النفسي والجمالي للمدينة، إضافة إلى المساهمة في حدوث كوارث بيئية كالسيول والزلازل.

وبينت أن «تحليل المشكلات البيئية في ضوء الخصائص الطبيعية للبيئة يعطي بعدا وتأثيرا استراتيجيا في التخطيط لأي مشروع تنموي في المستقبل.

ولخصت الخبيرة السعودية الحلول في 12 حلا يمكن بها إعادة الحياة والهدوء إلى عروس البحر الأحمر، صدر قرار في اثنين مهمين منها عشية أمس الأول أثناء إعداد هذا التقرير، وهما تجفيف بحيرة المسك وإعادة مجاري السيول في جدة.

وتضمنت التوصيات التي قدمتها الدكتورة مشاعل أن تتم دراسة المنطقة والمخاطر الطبيعية الحادقة فيها بشكل كامل، ويتم ذلك باستخدام التقنيات المتطورة وعلى رأسها التقنيات الفضائية التي أثبتت مقدرتها على الرصد والتنبؤ. إضافة إلى العمل على خطط استراتيجية وحلول جذرية والبعد عن الحلول السريعة والوقتية والمبنية على رد الفعل».

وتابعت «يجب أن تكون هناك إجراءات صارمة في فتح جميع مجاري السيول المغلقة في أقصى سرعة حتى لو أدى الأمر إلى نزع ملكيات المواطنين، كما يجب إيجاد حل جذري لمشكلة بحيرة المسك وإغلاقها نهائيا لأنها تمثل الخطر القادم لا محالة لمدينة جدة».

واعتبرت الباحثة السعودية، أنه كحل آني يجب قفل مجاري وادي الحفنة والذي يصب في المنطقة الواقعة بين السد الترابي والسد الاحترازي لبحيرة المسك وذلك لمنع السيول الجارفة من تفجير السد الاحترازي كحل مؤقت وليس دائما، إضافة إلى ضرورة إعداد قاعدة بيانات متكاملة عن البيئة ومشكلاتها في مدينة جدة لتحسين الأداء البحثي وإدارة هذه المشكلات.

وأضافت «يجب الاهتمام بالاستثمارات في مجالات علاج مشكلات استكمال شبكة الصرف الصحي وصيانتها، وتصريف السيول، وشبكات مياه الشرب والمياه الجوفية، والقيام بدراسات جدوى للبيئة بجانب دراسة الجدوى الاقتصادية بالنسبة لأي مشروع جديد يزمع إقامته، ووضع خطط واستراتيجيات لتنفيذ حلول جذرية للمشكلات البيئية، وتكثيف الجهود العلمية لإيجاد الحلول المناسبة ذات الجدوى الاقتصادية، واستخدام الأساليب التقنية المعاصرة، والحرص على تفعيل التشريعات البيئية وتطويرها والالتزام بها لضبط وصيانة البيئة.

وختمت التوصيات بالتأكيد على ضرورة الاهتمام بالوعي البيئي والصحي والثقافي لترسيخ قيم ومبادئ بيئية كالحد من الإسراف والتبذير في استهلاك مياه الشرب، وإدراك أن الوقاية خير من العلاج، ومفهوم التوازن البيئي والتعاون لإنقاذ وسلامة البيئة.

وبالحديث عن سيول وفيضانات جدة تؤكد الدكتورة مشاعل آل سعود أن دراسات سابقة أجرتها منذ عام 2004 تؤكد أن «جدة واقعة في منطقة منخفضة طبيعيا ويحدها من الشرق مجموعة من الجبال التي تعمل على تجميع المياه الهاطلة من الأمطار وبالتالي جرها باتجاه البحر وتحديدا عبر مدينة جدة، وبطبيعة الحال فإن لم تكن هناك آلية لتصريف المياه السطحية وغياب للأعمال الهندسية المُنظمة كما هو واقع الحال، فإن مياه السيول وما تحمله من حطاميات ستنتشر في الشوارع وما بين المنشآت العمرانية المختلفة وهذه هي الصورة لما حدث أخيرا في مدينة جدة».

وبرغم التضخيمات التي اعتبرت أن معدل الهاطل المطري ضخم جدا لأمطار الأربعاء الأسود في جدة، فإن مشاعل آل سعود ترى غير ذلك، حيث تقول «إن كان معدل الهاطل المطري على المدينة لم يتجاوز الـ90 ملليمترا ليحدث ما حدث، فما بالك لو كان أكبر من ذلك. ومن المعروف أن هذه الكمية، وإن كانت بوتيرة عالية نسبيا، فإن الضرر الناتج عنها لم يكن ليصل إلى هذا الحد من الخسائر في الأرواح والممتلكات لو وجدت أنظمة تصريف سليمة للمياه». وتتساءل الباحثة السعودية «ماذا يمكننا أن نتوقع في الأعوام القادمة خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن موسم الحج وما يتبع ذلك من تأثير على بوابة الحج (مدينة جدة) و(المشاعر المقدسة) سيكون تماما في الأشهر الماطرة».

وتعود الدكتورة مشاعل إلى الحديث عن دراسة أعدتها في عام 2007 ذكرت فيها معلومات مهمة عن جدة لم تؤخذ من الجهات المسؤولة بعين الاعتبار، حالها حال الكثير من الدراسات المهملة، إذ تقول «لم يعُد في الخفاء أن العوامل المناخية آخذة في التغير ويتوقع تزايد معدل هطول الأمطار بحوالي 30 في المائة في الأعوام القليلة القادمة (IPCC, 2007). ويتضح من خلال السيناريوهات أن هذه الحالة المناخية سوف تتكرر مترافقة مع أمطار غزيرة وما يرافقها من كوارث طبيعية أهمها السيول وانجرافات التربة والصخور».

وتعود لتتساءل «هل تم أخذ هذه المعايير في الحُسبان في مدينة جدة عندما تم تشييد العديد من المنشآت والمباني وبشكل عشوائي وتحديدا على مصبات الأودية؟ ألم يزل أصحاب القرار والاختصاص يعون أن هناك ممرات مائية طبيعية لا يجب على الإنسان صدها أو على الأقل التعامل معها بطرق هندسية مدروسة لتصل الأمور إلى ما وصلت إليه من زهق في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة؟».

وتفتح الباحثة السعودية خلال حديثها قضية مهمة وهي «أنظمة الرصد المبكر» معتبرة أن هذه الأنظمة لا توقف الكوارث الطبيعية بل تُنذر بوقوعها وبالتالي يُبنى على الشيء مقتضاه. وتقول «كان من الأجدر وجود نظام مراقبة للرصد المبكر من خلال هذه الأقمار الاصطناعية ليتم أخذ الحيطة والحذر قبل وقوع الكارثة». وتستطرد «ليست مدينة جدة وحدها منطقة مُعرضة للمخاطر الطبيعية، بل إن كل الشريط الساحلي الممتد من جدة وحتى مدينة ينبُع شمالا وبمساحة تزيد على 5 آلاف كيلومتر مربع والذي يوجد فيه العديد من المنشآت الصناعية والطاقة والمدن وكذلك المباني الجامعية الحديثة. ألم تستحق هذه المنطقة القيام بعمل دراسة شاملة وموضوعية لتحديد المخاطر الطبيعية الحادقة والتي لا تنحصر في مخاطر الفيضانات والسيول فحسب بل تشمل أيضا مخاطر ارتفاع منسوب سطح البحر، ثبوتية التربة والصخور، التعرية البرية والبحرية، الزلازل والبراكين، خصوصا أنه يوجد في المنطقة العديد من الفوالق النشطة والتراكيب الجيولوجية المُعقّدة، إضافةً إلى الفوهات البركانية المنتشرة هنا وهناك.

ولا تنسى الدكتورة مشاعل آل سعود أن تدق ناقوس الخطر في المستقبل على مدينة جدة لتقول «بناء على المعطيات الجيوموفولوجية والهيدرولوجية وكذلك التوصيف الميداني لمنطقة جدة وجوارها، يمكن القول إن المدينة في وضعها الطبيعي عُرضة للكوارث الطبيعية، ولكنها ليست أخطر وضعا من مناطق أخرى في العالم، حيث يمكنها استيعاب أي خطر طبيعي إن حدث، وعليه فإن للإنسان الدور الرئيسي إن لم يكن هو السبب المباشر لتفاقم الخطر. فالأسباب ليست فقط طبيعية بل من صنع الإنسان أيضا».

وتسرد الباحثة السعودية أسباب ما حدث في مدينة جدة، منها أسباب بشرية يتقدمها التمدد العمراني العشوائي في غياب التنظيم المدني وعدم وجود التشريعات والقوانين المناسبة، وخصوصا تلك المتعلقة بالمنشآت الواقعة على مصبات الأودية المائية مثل أودية قويزة، عشير، غليل ووادي مشوب. مما يسبب حصر المياه الجارية من الأمطار وبالتالي فيضها، إضافة إلى عدم وجود قنوات جر المياه السطحية بشكل كافٍ مع غياب أعمال الصيانة لمتابعة تنظيف القنوات الموجودة وتوسيعها إن لزم الأمر، وارتفاع منسوب المياه الجوفية بسبب تسرب مياه الصرف الصحي وفائض مياه الري، وعدم الأخذ بعين الاعتبار إنشاء التصاميم الهندسية المناسبة لتصريف وحجز المياه الفائضة».

وتضيف «كما أن هناك أسبابا طبيعية أبرزها وجود الأودية المائية (11 واديا رئيسيا) والتي تحد جدة من الشرق وشمال الشرق وبمواصفات هيدرولوجية مختلفة وبمعدل انحدار للقنوات الرئيسية يتراوح ما بين 25 ـ 30 درجة، حيث تفتح تصاريف هذه الأودية باتجاه البحر من خلال مدينة جدة، وتداخل مياه البحر ضمن مسام الترسبات الموجودة في السهل الساحلي مما يجعلها مُشبعة كُليا بالمياه وبالتالي عدم إعطاء الفرصة لمياه الأمطار للرشح خلال هذه الترسبات، وانبساط السهل الساحلي من منطقة جدة وحتى مدينة مستورة شمالا، حيث لا يزيد معدل الانحدار على متر/ كيلومتر، مما يجعل جريان المياه بطيئا وبالتالي تتجمع المياه الهاطلة في المنطقة، وأخيرا التغيرات المناخية الحاصلة وكما تبينها كل السيناريوهات المناخية والتي بدأت تتفاعل حاليا وسوف تستمر في السنوات القادمة وما سيرافقها من زيادة في معدل الهاطل المطري وبوتيرة شديدة. وهذا يعني توقع هطول كميات كبيرة من المطر في فترات وجيزة (كما حدث أخيرا بسقوط 90 ملليمترا خلال أربع ساعات فقط). وبذلك لن تكون هناك فترة زمنية كافية لرشح المياه إلى باطن الأرض بل جريانها كسيول على السطح». وتعود الدكتورة مشاعل آل سعود لتتساءل مرة أخرى «ماذا سيحدث في حال هطول أية أمطار في هذا الوقت حتى وإن لم يزيد معدلها على 20 ملليمترا؟ فمن دون شك أن المنطقة ستتضرر بشكل كُلي وقد تُغطى المدينة كاملةً بالمياه. فحجم الكارثة ليس بالسهل. وتستطرد «الحقيقة أن المخاطر البيئية في جدة لن تنتهي عند فيضانات يوم الأربعاء الدامي، بل إن الأخطر قادم ما لم توضع حلول جذرية ومدروسة. ولعل أكبر الأخطار هو عدم وجود شبكات صرف صحي في مدينة جدة، مما أدى إلى ظهور ما يسمى ببحيرة المسك وهي قنبلة موقوتة في خاصرة مدينه جدة بدءا من عدم التخطيط لموقعها حيث تقع في وادي الحفنة الذي يرتبط بوادي بني مالك، والذي يسيل إلى مدينه جدة ويبعد حوالي 23 كم من وسط المدينة وباتجاه الشرق».

وتتابع «هناك مشكلة أخرى كبرى وهي التغير في منسوب الماء الأرضي في مدينة جدة، الذي يعتبر نتيجة حتمية لعدم وجود شبكات للصرف الصحي وما يتبعها من ترشيح عند حفر البيارات، كذلك من شبكات التصريف والأمطار، والتسربات من شبكات مياه الشرب، والتسربات من الخزانات الأرضية، والانسيابات من الأودية والتأثيرات الهيدروجيولوجية في المنطقة. كل ذلك أدى إلى ظاهرة ارتفاع منسوب المياه الجوفية حتى وصل مستوى الماء الأرضي إلى مستوى سطح الأرض خاصة في المناطق المنخفضة حيث ظهرت تجمعات سطحية للمياه في 12 حيا داخل المدينة»، مؤكدة أن «الآثار الناجمة عن ظاهرة ارتفاع منسوب الماء الأرضي لا تقل خطورة عن الفيضانات بل تعتبر عاملا مساعدا لهذه الفيضانات». خصوصا إذا علمنا أن أكثر من 50 في المائة من مساحة مدينة جدة يصل ارتفاع منسوب الماء الأرضي للسطح وهذا بالتالي يمنع تسرب مياه الأمطار وترشيحها داخل الأرض، لكونها مشبعة كليا بالمياه مما يؤدي إلى نشوء المستنقعات داخل المدينة.

وتربط الباحثة السعودية بين المشكلتين الأخيرتين وهما الصرف الصحي، وارتفاع منسوب الماء الأرضي وعلاقتهما بظهور مشكلة ثالثة تمثلت في مخاطر التلوث البحري في مدينة جدة الذي نتج عن إلقاء عوادم الصرف الصحي، والنفايات الصناعية، ومشاريع تخفيض منسوب المياه الجوفية، فأحدث تلوثا بيولوجيا وكيميائيا وحراريا في صور شتى. وهناك العديد من الدراسات حول هذا الموضوع يمكن العودة إليها.

وتؤكد الباحثة السعودية الدكتورة مشاعل آل سعود أنه «لا يمكن التغاضي عن الإهمال الحاصل من المعنيين بالشؤون المدنية وخصوصا تلك المتعلقة بالبيئة والأعمال الهندسية والتخطيط مما نتج عنه خسائر فادحة في الأرواح لناس أبرياء كانوا قاطنين في منازلهم أو مقر عملهم».

واستكمالا لأعمال لجنة التحقيق الخماسية التي أمر بتشكيلها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للتحقيق وتقصي الحقائق عقب سيول جدة، رأس الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس اللجنة، أمس، في مكتبه، الاجتماع الثاني للجنة وذلك لاستكمال تحقيق الأهداف التي وردت في الأمر الملكي الكريم ومتابعة الترتيبات والإجراءات وتشكيل اللجان في تنفيذ البرنامج.