فريق بحثي ينقب عن آثار تعود لـ14 قرنا مدفونة تحت جدة القديمة

تأكيدا لتحقيق أجرته «الشرق الأوسط» بعنوان «جدة القديمة.. تاريخ فوق تاريخ»:

قطع اثرية تم اكتشافها و ابر طبية في موقع الكرنتينا («الشرق الأوسط»)
TT

في خطوة تهدف للتنقيب عن آثار تعود إلى نحو 14 قرنا، بدأ فريق بحثي سعودي أولى خطواته لحفر جدة القديمة واستخراج آثار مدفونة منذ قرون طويلة معتمدين على خرائطها القديمة التي كشفت عن عدد من المواقع التي دفنت بسبب عوامل مختلفة.

وأكد المهندس سامي نوار، مدير عام السياحة والثقافة بمدينة جدة، في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط» اكتشاف الفريق البحثي «مبدئيا» بعض الآثار المهمة في المدينة، مبينا أنه «يتم الآن البدء في إجراءات الحفر لاستخراجها»، ولعل أبرزها موقع «أسكلة الملك عبد العزيز، التي بنيت قبل نحو 90 عاما لميناء يعود إلى نحو 1400 عام، وكانت تمثل المرفأ أو الميناء لحجاج بيت الله الحرام في ذلك الوقت».

وأضاف «وجد الفريق بعض الآثار المهمة في المنطقة القريبة من سوق المحمل بجوار متحف البنط»، مشيرا إلى أن هذا المتحف يجري إعادة ترميمه وتحويله إلى متحف بحري إضافة إلى إنشاء قسم مختص بالحج.

وبالعودة لموضوع «الأسكلة»، فقد أكد نوار «استعانة الأمانة بخبير خاص في عمليات الحفر، وتم تحديد عدد من المواقع المهمة في المدينة والمتوقع وجود عدد من الآثار والقطع الثمينة والأثرية المدفونة تحتها خصوصا في موقع (الأسكلة)»، موضحا ومفصلا أن «الأسكلة» عبارة عن رصيف أو مرفأ بناه الملك عبد العزيز للحجاج القادمين عن طريق البحر، الذين كانوا يعانون للوصول إلى المدينة، ودفن مع مرور السنين وتوسع المدينة، وابتعد شاطئ البحر عنه بمسافة كبيرة.. مشير إلى أنه من المتوقع العثور على عدد من القطع الأثرية المهمة التي كان يستخدمها الحجيج في ذلك الوقت.

وعن سبب تسميتها بهذا الاسم قال نوار «(الأسكلة) هي كلمة كانت تستخدم في العهد العثماني وتعني الرصيف، وهي من الكلمات العثمانية الكثيرة والدارجة في اللهجة الجداوية مثل (باشا) و(صمبوق) و(أفندي) وغيرها من الكلمات، وتقع الأسكلة الآن في منطقة البلد، وهي منطقة البحر قديما تحت متحف البنط تحديدا».

ويعود تاريخ هذا الميناء بحسب المهندس سامي نوار إلى عام 26 هـ في عهد ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان عام 646 ميلادي، ليحل محل ميناء الشعيبة. وبعدها تحول الميناء إلى مقره الحالي، وتحول موقعه إلى مبنى للجمارك، ومن ثم إلى مستشفى أو حجر صحي، وكان يطلق عليه «الكرنتينا» وهي حقيقة أكدها لعدسة «الشرق الأوسط» الكم الهائل من الإبر للأدوات الطبية التي وجدت في الموقع مع عمليات الحفر وتعود إلى المستشفى الذي كان هناك في ذلك العهد.

وتوقع المهندس نوار العثور على قطع أثرية مدفونة في هذا الموقع تعود لنحو 1400 عام، خصوصا أن المكان هو المكان ذاته الذي كان يصل إليه الحجيج من ذلك التاريخ.

إلى ذلك، رصدت عدسة «الشرق الأوسط» خلال زيارة الموقع برفقة المهندس سامي نوار، تعالي الأصوات والتباشير من العاملين في الموقع بالعثور على أولى القطع النادرة التي تعود بحسب الصورة الأولية وبمقارنتها بصورة الموقع إلى نحو قرن كامل، وهي عبارة عن قطعة من سور الميناء القديم.

وكانت «الشرق الأوسط» قد نشرت في عددها «10651» بتاريخ السادس والعشرين من يناير من عام 2008م، تحقيقا موسعا حول مدينة جدة القديمة المدفونة، أشارت فيه إلى إثباتات أدلة ومواقع أثرية تم العثور عليها، تدل على أن «مدينة جدة القديمة.. تاريخ فوق تاريخ»، مشيرة إلى وجود مدينة تاريخية مدفونة تحت أنقاض المدينة الحالية في وسط البلد أو ما يسمى الآن بالمدينة التاريخية.

واستشهد حينها باحثون ودارسون في قولهم بوجود هذه المدينة المدفونة ببعض الاكتشافات التي وجدت عند القيام بالحفر في المدينة من قبل بعض السكان وبعض المعماريين، حيث تم اكتشاف آثار ومعدات قديمة تحمل الكثير من الأسرار والتاريخ الذي ينتظر الكشف عنه.

وقالت مصادر خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن عددا كبيرا من المنازل القريبة من «عين فرج» يتم التواصل مع أهلها في محاولة للحصول منهم على إذن بهدمها والتنقيب تحتها، مشيرة إلى أنه من الواضح أن العين تمتد إلى مساحة أوسع من هذه التي اكتشفت على أساس البناء الموجود، الذي يؤكد أنها أكبر من هذه المساحة التي عثر عليها.

وأضافت المصادر حينها «من الواضح جدا أن هناك تاريخا أقدم تحت هذه المدينة التاريخية التي نقف ونتجول فيها»، وتؤكد «الأكيد أن هنا تاريخا تحت التاريخ».

ويقول المهندس سامي نوار، مدير عام السياحة والثقافة بمدينة جدة، في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»: «هناك الكثير من الاكتشافات التي أثبتت هذه الحقيقة، ومنها ما اكتشفه أحد سكان حارة المظلوم في وسط المنطقة التاريخية عندما قام بحفر خزان للمياه على عمق 6 أمتار ليجد الكثير من الآثار، إضافة إلى ثلاث (أرحاء)، وهي آلات الطحن القديمة»، مشيرا إلى اكتشافات أخرى متعددة من هذا النوع في المنطقة.

من جهته، ذهب عبد الوهاب أبو زنادة، الأديب والكاتب والخبير في شؤون المدينة القديمة، إلى قصة مشابهة بأنه عندما حفر مبنى عمارة الملكة الموجود حاليا في منطقة البلد، وجد خلال الحفر لمناطق عميقة بعض المدافع الصدئة وبعض القنابل التي لم تنفجر، إضافة إلى بعض الآثار القديمة. واستشهد أبو زنادة بالكثير من الإثباتات والحقائق التاريخية التي تثبت وجود تاريخ ومدينة مدفونة تحت المدينة الأصلية في المنطقة التاريخية، التي تعتبر هي الأخرى تاريخا وأثرا يشار إليه، يقول «الملاحظ عند زيارة الزائر لشارع قابل ومروره عند مسجد المعمار، أن الضلع الجنوبي لمسجد المعمار يبلغ ارتفاعه 4 أمتار، بينما لو حضر الزائر من البوابة الشمالية للمسجد يجده على امتداد الشارع المرتفع نفسه، وهو ما يدل على أنه مبني على تلة عظيمة، هضبة جدة الشمالية الكبرى والممتدة إلى الجامع العتيق داخل المدينة التاريخية، كذلك فإن المشاهد يرى انحدار زاوية عثمان بن عفان». وأشار إلى أن التوقعات والإشارات في أن تكون هذه التلة التي تبلغ مساحتها نحو كيلومترين تقريبا، هي المدينة الأصلية التي دفنت وبنيت عليها المدينة الحالية، وهي المنطقة المحددة الآن بحارة المظلوم والجزء الشمالي الشرقي من حارة الشام. ويستطرد أبو زنادة «أيضا هناك دلائل أخرى في منطقه قلعة القشلة، إذ إن القادم لتلك المنطقة من الناحية الشرقية الفاصلة بينه وبين مقبرة أمنا حواء، يصعدها صعودا بعكس القادم من الجهة الأخرى التي يجدها محاذية للشارع».

وبحسب إحدى الموسوعات التاريخية يرى البعض أن جدة ميناء قديم يعود تاريخه إلى الفترة السابقة للإسلام، ازدهر وازدادت عمارته ليصبح الميناء الرئيسي لمكة المكرمة، مما أهله لأن يصبح أعظم موانئ الحجاز، فضلا عن قربه من الموانئ الجنوبية لشبه الجزيرة العربية لا سيما عدن، وتوسطه بين الموانئ الحجازية، وكذا قربه من ميناء سواكن وعيذاب، فتضافرت كل هذه العوامل لتجعل ميناء جدة يستقطب تجارة البحر الأحمر قرون عدة.

ويصف المقدسي جدة في القرن الرابع الهجري بأنها مدينة على البحر محصنة عامرة آهلة. أما في عهد ناصر خسرو الذي وفد إليها حاجا في منتصف القرن الخامس الهجري فقد كانت كثيرة الخيرات، مزدهرة بالتجارة، باسقة العمران. ووصف أسواقها بأنها نظيفة وجيدة، وقدر عدد سكانها بنحو خمسة آلاف نسمة.