ملاحقة أصحاب الفتاوى المضللة طريقة جديدة لـلحد من «فوضى الفتاوى»

كُتاب إسلاميون يشجعون على اعتمادها.. والقضاء لا يراها ممكنة لاعتبارات عدة

إقبال جماهيري على الفتوى في القضايا الدينية والشخصية على حد سواء
TT

لا يزال ما يسمى «فوضى الفتاوى» في العالم الإسلامي يثير لغطا كبيرا بين شرائح المجتمع المختلفة: الجمهور الذي ينتظر الفتوى، والعلماء أنفسهم، وأشباه العلماء الذين يخلطون الحابل بالنابل، إلا أن الأسلوب الأمثل لوضع حد حاسم للمشكلة يظل في حد ذاته موضع اختلاف، ففي الوقت الذي اقترح البعض تقنين أحكام الشريعة وكتابتها بصورة أنظمة متبعة ومتعارف عليها للحد من هامش الاجتهاد الذي يساء استخدامه، اقترح آخرون اعتماد جهات معينة ذات صبغة رسمية لتولي هذه المهمة مثل المجامع الفقهية. وأخيرا، اعتبر كثير من الكتَّاب الإسلاميين أن إتاحة الفرصة أمام المتضررين من «الفتاوى غير المناسبة» للجوء إلى القضاء، وملاحقة أصحاب الفتاوى العشوائية، قد تكون الأسلوب الأمثل لوقف الاجتهاد المضر من البعض.

الدكتور محمد رشيد حداد، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز سابقا، والكاتب الإسلامي، في مقاربته لقضية «فوضى الفتاوى» يجد أن القضية في حد ذاتها قد لا تكون بهذه الخطورة، فما يحدث من وجهة نظره هو تضخيم إعلامي للكثير من القضايا والفتاوى المستهجنة والغريبة، التي لا تعبر عن واقع الفتوى فعليا.

ويضيف حداد: «في قضية الفتاوى هناك بعض العناصر المهمة، منها أن الشريعة فيها محكم وغير محكم، فما هو محكم أحكمه الله ولم يختلف فيه المسلمون قط لا سنة ولا شيعة مثل الفروض الخمس، الحد، وغيره، وما عدا ذلك أثيرت فيه الكثير من المسائل من عصر الخلفاء والصحابة وهذا في حد ذاته ليس خطأ، ولهذا جاء التوجيه الإسلامي لافتا إلى ضرورة أخذ مشورة أهل العلم ورأيهم، من أصحاب القدرة على الاستنباط بشكل خاص».

ويشير حداد إلى أن جانبا من جوانب عظمة الشريعة يكمن في تعدد الفتاوى، والمثال على ذلك قضايا الحج، التي يمثل التعدد فيها جانبا من جوانب الرحمة والتيسيير على المسلمين، أما فيما يخص سياسة المراجع الفقهية والإسلامية في العالم الإسلامي ومنها مجمع الفقه الإسلامي في محاربة ما يسمى «فوضى الفتاوى»، قال حداد: «في المسائل الشائكة يصدر قرار من المجمع مبني على دراسات متعمقة من قبل فقهاء العالم الإسلامي وعلمائه. وبعد اجتماعات ونقاشات مطولة بينهم، تصدر التوصية بأن هذا قرار المجمع، ويحسن الأخذ به، لكن ليست هناك صفة إلزامية تفرض على المسلمين أو العلماء أو المفتين في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه اعتماد هذه الفتوى، على الرغم من أرجحيتها ودقتها الدينية والشرعية».

ويتابع حداد: «وهذا في حد ذاته يلقي الضوء على الطريقة المثلى لمعالجة مثل هذه الإشكالية في رأيي، فلو أننا أصدرنا مرسوما وقرارات ملزمة بعدم أخذ الفتوى سوى من أشخاص معينين، ستبقى مشكلة إقناع الإنسان، ولهذا ليس أمامنا سوى رفع ثقافة الجمهور وإقناعهم أن أمثال عمرو خالد و طارق السويدان مثلا ليسوا أهلا للفتاوى، صحيح أن لديهم القدرة على تسويق الشريعة والدعوة الإسلامية بمفهومها الحديث، لكن الفتوى أمر شديد الحساسية ويتطلب علما ونظرا عميقا».

أما فيما يتعلق بوجهة النظر القائلة بأن فتح الباب أمام مقضاة أصحاب الفتاوى المضللة، يرى حداد أنه نظريا يمكن للشخص الذي حصل على فتوى معينة ترتب عليها ضرر رفع دعوى قضائية، إذا لم يكن له وجه عند أهل العلم بحالة من الأحوال إذا كانت الفتوى مضللة، وليس من الخطأ تحريض الجمهور على طرق هذا الباب، وبخاصة أن القضاء يحل مشكلاتنا الشخصية والاقتصادية وغيرها، لكنه أيضا ليس بابا مضمونا للحد من القضية وإنهاء المشكل القائم فيها.

وعلى الرغم من المسوغات التي يقدمها كتَّاب إسلاميون وأيضا علماء لملاحقة أصحاب الفتاوى المضللة، وتشبيههم ذلك بملاحقة الطبيب الدخيل على مهنة الطب بعد أن يتسبب بضرر المريض، فإن القضاء له رأي آخر، ربما لا يعطي الضوء الأخضر تماما للمتضررين، حيث يرى الشيخ عبد الله العثيم، رئيس المحكمة الجزئية في جدة، أن «الفتوى أصلا غير ملزمة، وعليه فإن إمكان مقاضاة صاحب الفتوى المضللة قد لا يكون ممكنا لكثير من الاعتبارات».

ويضيف العثيم: «الفتوى غير ملزمة، وعلى المستفتي البحث عمن يطمئن إلى علمه ودينه وعلمه، وهو الذي يتحمل مسؤولية التهاون في اختيار المرجع الأمثل للحصول على الفتوى وعدم إعمال عقله وفكره، فهو على سبيل المثال لا يسأل أيا كان عندما يقرر شراء سيارة أو عقار، بل يلجأ إلى المختصين، ومن هذا الباب فإن على المستفتي أن يتحرى مرجعه للفتوى».

ويرى العثيم أن كون الإنسان يلجأ إلى غير المختص يجعله يتحمل المسؤولية، وعليه لا يمكنه الإدعاء عليه أمام القضاء. ويقول: «على الإنسان إذا شك في الفتوى، فله أن يذهب إلى آخر، وليس عليه أن يذهب إلى الرخص. والمفتي إذا كان مؤهلا للفتوى، ففي النهاية يعد رأيه اجتهادا، وقد يكون مخطئا، وليس عليه أي مسؤولية، وبخاصة إذا عرف أنه من أهل الثقة والأمانة».

وإذا كانت الفتاوى الانفرادية الخاصة بالقضايا الشخصية يمكن تحميل المسؤولية فيها للأفراد بسبب تهاونهم عن إيجاد الفتوى المقنعة أحيانا بدافع اهتمام الشخص بالتسهيل والتيسير والإباحة، فإن جانبا مؤثرا من الفتاوى في الساحة الإعلامية، وبخاصة فيما يخص القضايا الفكرية وتشجيع الشبان على الانخراط في تنظيمات إرهابية، أو الخوض في قضايا سياسية تحت مسمى «الدين»، كما يقول الكاتب عبد الحميد الأنصاري في مقالة منشورة، يتسبب في مقتل الكثير منهم بسبب فتوى دينية أصبحت قضية تثير الكثير من الجدل، وتحولت إلى مشكلة مستعصية ذات جوانب مختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية.

ويرى الأنصاري أن التطورات التي أفرزت هذه النتائج السلبية، هي اشتداد الطلب المجتمعي على سوق الفتاوى، والشهرة الجماهيرية والنجومية الإعلامية، وما يترتب عليها من امتيازات مادية ومعنوية، دفعت الكثيرين إلى الإقبال على برامج الإفتاء، إلى جانب عدم التأهيل الكافي لبعض المتصدرين للإفتاء بسبب قصور التكوين العلمي. ويرى الأنصاري أن الحل الجذري لإشكالات الفتاوى لا يكون بالمنع والتقييد، وإنما بإجراء واحد حاسم، هو صدور تشريع يعطي الناس حق مقاضاة المفتي إذا تضرروا من فتواه.