الكارثة تتصدر أحاديث المجالس.. وأخبار الصحف.. وأسئلة الصغار

رغم مرور أكثر من شهرين على سيول جدة التي أودت بحياة 123 شخصا

رغم مضي شهرين فإن أعمال البحث والتنظيف ما زالت مستمرة («الشرق الأوسط»)
TT

رغم مضي أكثر من شهرين على كارثة سيول جدة المفجعة التي ذهب ضحيتها 123 شخصا، فإنها ما زالت حاضرة في كل مناشط الحياة السعودية بدءا بالجهات الحكومية التي ما زالت تجري تحقيقها في تبعات تلك الكارثة ومرورا بأخبارها التي ما زالت تتصدر الصحف السعودية، وانتهاء بأسر الضحايا المكلومين الذين فقدوهم بين عشية وضحاها.

وما زالت المقولة الشهيرة التي قالها الأمير خالد الفيصل عقب نزوله من مروحية أقلته فوق سماء الأحياء المتضررة جراء كارثة جدة الشهيرة «ربّ ضارة نافعة» عالقة في أذهان الجميع، متوقعين تغييرا جذريا في مدينة جدة، وفي ملفات الفساد التي ظلت جدة وربما غيرها من المدن السعودية تتعامل معها على استحياء طيلة عقود ماضية.

الكارثة التي ما زالت حاضرة في كل أحاديث المجالس، والمتصدرة أخبارها لكل الصحف السعودية والمواقع الإلكترونية، وفي جراح الأسر المكلومة بفقد ذويها يلخصها محمد الزهراني أحد سكان حي قويزة المتضرر والذي شهد أكبر الأضرار بقوله «من الصعب نسيان ما حدث فقد عشنا أياما عصية غادرنا فيها منازلنا وبقينا شهورا طويلة نقطن في الشقق المفروشة».

ويستطرد «كيف نستطيع نسيان تلك الكميات من المياه الهائلة التي غمرت الأدوار الأرضية من منازلنا ورأينا سياراتنا تطفو عليها». مشيرا إلى أنه يحمد الله على نجاته وأسرته من ذلك الحدث.

ويضيف «تخيل أن أبنائي الصغار ما زالوا حتى هم يتحدثون عن ذلك يوميا، بل ويسألوننا متى سيأتي المطر، ويخشون اليوم الذي يرون فيه السماء ملبدة بالغيوم».

وبالعودة إلى تصريح الأمير خالد الفيصل في ذلك الحين الذي أكد أن «ما تم مشاهدته في الجولة يؤكد عظم الكارثة والتلفيات داخل مدينة جدة وخارجها»، لافتا إلى أنها تعد من إحدى الكوارث التي تقع في كافة دول العالم والتي لا بد أن تظهر آثارها. وقال في مؤتمر صحافي عقد عقب انتهاء الجولة: «ما رأيته كان مؤلما، ولكن رُب ضارة نافعة، ومن الضروري النظر إليها بعقلانية وحيادية لا تشوبها العواطف دون تحكيم العقل».

وحول أسباب الكارثة أفاد أمير منطقة مكة المكرمة بأن الموضوع يكمن في ثلاثة عناصر تتضمن: كارثة طبيعية لا يمكن التحكم بها، وإقامة الأحياء العشوائية على مجاري السيول التي تعد خللا في التنفيذ والتطبيق، وتأخر تنفيذ مشاريع تصريف السيول والصرف الصحي، مبينا أن العنصرين الأخيرين يحتمان ضرورة تصحيح الوضع ووضع الحلول، ولن يتم التساهل فيهما. كارثة جدة الواقعة في 26 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والتي راح ضحيتها حتى الآن 123 قتيلا و32 مفقودا كانت الشرارة التي فتحت الحرب على الفساد في جدة، لا سيما أن اللجنة المشكلة بالأمر الملكي الصادر بدأت في إيقاف مسؤولين في أمانة المحافظة، وجهات أخرى وما زالت مستمرة في أعمالها واجتماعاتها بشكل جدي ومنطقي.

ولم يقتصر تأثير تلك اللجنة على محافظة جدة فقط، وإنما كان بمثابة دافع كبير لجميع القطاعات الحكومية على مستوى السعودية بالكامل كي يبدأوا في العمل بشكل جدي ومعالجة أي أخطاء قد تتسبب في تكرار ما حدث لمدينة جدة.

وهنا يوضح الدكتور طارق فدعق، عضو مجلس الشورى ورئيس المجلس البلدي بجدة في دورته السابقة، على أن لجنة تقصي الحقائق تجسد مبدأ التعامل بشفافية ووضوح وفعالية.

وقال في حديث لـ«الشرق الأوسط»: للاستثمارات الهائلة التي تدخل إلى البلاد ويتم صرفها على المدن والمنشآت مردود قوي، ففي بعض الأحيان تصرف مبالغ طائلة على استثمارات دون جدوى نتيجة الفساد الإداري وعدم دخولها في مساراتها الصحيحة، لافتا إلى أنه لا يجب استباق الأحداث وإلقاء اللوم والتهم على الآخرين دون أن تبدأ اللجان المعنية بتأدية دورها.

وأشار إلى أن اللجنة بقوتها ومرجعها تعد إشارة واضحة جدا لأي شخص يفكر بالتلاعب أو التهاون في عمله، الأمر الذي سيجعله حذرا نتيجة وجود حساب على ذلك، مبينا أن من أبرز ما يميز لجنة تقصي الحقائق عدم اعترافها بما يسمى «مسؤول سابق»، مما يعطي دلالة على إمكانية محاسبة أي شخص حتى ولو بعد حين.

وأضاف «ستشهد السعودية تغييرات جذرية كثيرة لا تقتصر فقط على الفساد، بل تطال حتى محاولات الإهمال التي من الممكن اعتبارها فسادا أيضا، مشيرا إلى وجود إجراءات بدأت قبل وقوع الكارثة لمكافحة الفساد».

واستطرد بالقول «إن التصدي للفساد يعتمد على محاور عدة من أهمها الشفافية والوضوح، إلى جانب أننا نعيش في عصر المعلومات الذي بات من الصعب إخفاء أي أمر فيه»، مؤكدا أن «ما يتم نشره يعد سلاحا ذا حدين، فإما أن يكون صحيحا أو يستغل لتشويه سمعة أشخاص عن طريق ترويج الشائعات».

وطالب عضو مجلس الشورى ورئيس المجلس البلدي بجدة في دورته السابقة بضرورة عدم استباق الأحداث واتهام الأفراد قبل وضوح الرؤية وانتهاء اللجان من أعمالها، وذلك تفاديا للإساءة إلى سمعة الناس - بحسب قوله.

فيما أكد الدكتور حسين البار، عضو المجلس البلدي في جدة ورئيس لجنة البيئة، أن محاربة الفساد تعتمد على مخرجات اللجنة والتي لابد أن تكون قوية عن طريق وصولها إلى رؤوس الفساد وليس أطرافه فقط - على حد قوله.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: نحن عادة ما نضحي بالصغير ونترك الكبير، غير أن ذلك ليس هو المأمول من قبل لجنة تقصي الحقائق، وإنما نأمل الإمساك بالرؤوس الكبيرة والصغيرة على حد سواء لاقتلاعها من أصلها، واصفا ذلك التصرف بـ«أمنية» المواطنين التي لا بد أن تتحقق.

ولفت إلى أن مخرجات اللجنة إذا ما تحققت فإنها ستضرب الفساد ضربة لا قيام لها بعد ذلك، إلا أنها إذا ما كانت تلك المخرجات ضعيفة في ظل الاكتفاء بضرب الصغار وترك الكبار يعبثون فإن ذلك من شأنه أن يعيد الفساد بقوة أكبر مما كان عليه سابقا.

وأضاف: لم نكن بحاجة إلى وقوع كارثة للوقوف في وجه الفساد، وإنما كان من المفترض الاجتهاد ابتداء بنظم رقابية جيدة وشفافية واضحة ومعلومات متاحة، إلى جانب محاسبة الكبير قبل الصغير.

وفي الوقت ذاته الذي وقعت فيه كارثة جدة، عاشت مدينة جدة يوما عصيبا بعد التأكد من تسرب مياه بحيرة الصرف الصحي وتداول تنبيهات وتحذيرات بإخلاء الأحياء الواقعة شرق الخط السريع. وشهدت مستشفيات مدينة جدة حالة استنفار كبير تضمنت إخلاء المستشفيات القريبة من شرق الخط السريع وتحويل المرضى إلى مستشفيات غرب جدة، والتي من ضمنها مستشفى العيون والعزيزية الواقعين بالقرب من شرق جدة. وتم إعلان الطوارئ في كل المستشفيات وتجهيز نحو تسع فرق طبية للتحرك إلى المواقع التي من الممكن أن تتضرر، لا سيما أن كل فرقة كانت تصحبها سيارة إسعاف مجهزة. وأثارت التحذيرات، التي بثتها الأجهزة الأمنية حول تسرب مياه بحيرة الصرف الصحي، تنبيهات بإخلاء نحو تسعة أحياء واقعة شرق الخط السريع، من ضمنها الحرمين والسامر والصفا، مما أدى إلى هلع سكان تلك الأحياء. وأفاد الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة عقب جولته التي مر بها على بحيرة المسك بعدم وجود خطورة، لا سيما أن ما حدث هو المفيض الذي خصص للسد الاحترازي وليس سد البحيرة نفسها، والذي امتلأ من السيول، مؤكدا أن البلاغ للوقاية فقط، إضافة إلى أن انهيار السد مستبعد، غير أنه لا بد من الاحتراز والإنذار.

ومنذ تعرض مدينة جدة إلى سيول الأربعاء، شهدت معظم مناطق السعودية استنفارا كاملا بهدف الوقوف على الأخطاء الموجودة بها وإصلاح ما يمكن إصلاحه إما تفاديا لتكرار الكارثة، أو خوفا من وقوعها في مأزق أمام اللجنة التي أمر خادم الحرمين الشريفين بتشكيلها للوقوف على أسباب تلك الكارثة ومحاسبة المسؤولين كائنا من كان.

ومن منطلق المثل الشعبي «اضرب المربوط يخاف السايب» وبهدف عدم تكرار السيناريو المؤلم الذي مرت به مدينة جدة، كشفت أمانة المنطقة الشرقية لـ«الشرق الأوسط» بعد مرور يومين فقط على كارثة جدة، أنها أنهت دراساتها للمشاريع المستقبلية لتصريف مياه الأمطار التي تحتاجها حاضرة الدمام (الدمام، الظهران، الخبر)، حتى عام 2050، بمبلغ قدرته بـ6 مليارات ريال لتنفيذ هذه المشاريع. وكانت أمانة الشرقية قد أنهت خلال الـ26 عاما الماضية، مشاريع تصريف مياه الأمطار لحاضرة الدمام، بمبلغ 1.4 مليار ريال، بينما يجري تنفيذ مشاريع بـ457 مليون ريال، أنجز منها 40 في المائة حتى الآن. وأكد المتحدث حسين البلوشي مدير العلاقات العامة والناطق الرسمي باسم أمانة المنطقة الشرقية، أن الأمانة بصدد طرح ثلاثة مشاريع لتصريف مياه الأمطار ومراقبة جاهزية شبكات تصريف مياه الأمطار في كل من مدينتي الدمام والخبر بمبلغ 140 مليون ريال. فيما وضعت أمانة المنطقة الشرقية عددا من الإجراءات الاحترازية لموسم الأمطار والمتمثلة في تشكيل عدد من اللجان التي تعمل على مدار الساعة في حال بدء موسم الأمطار بالمنطقة، وذلك بهدف تقييم الوضع والمباشرة الميدانية للمواقع التي تشكل تجمعات للمياه وفي حال كان منسوب هطول الأمطار عاليا تتدخل غرفة الطوارئ المشتركة التي شكلت بقرار من الأمير محمد بن فهد أمير المنطقة الشرقية في فترة سابقة.

وبينت الأمانة آنذاك أنها أجرت استعداداتها لموسم الأمطار من خلال التأكد من جاهزية مشاريعها التي نفذتها في الفترة الماضية لتصريف السيول والأمطار، كما أجرت - بحسب البلوشي - اختبارات على مشاريع تصريف المياه عبر التأكد من جاهزية مضخات سحب المياه في هذه المواقع. وقال البلوشي إن الأمانة بدأت الاستعدادات منذ أسبوعين لموسم الأمطار، مضيفا أن الأمانة دعمت المواقع التي تشهد تجمعا للمياه بشكل يزيد على المتوقع بأدوات سحب متنقلة، يتم اللجوء لها إذا كانت كميات المياه أكبر من استيعاب مشاريع تصريف مياه الأمطار. وتعمل أمانة المنطقة الشرقية في الفترة الحالية على تنفيذ 490 مشروعا، منها 140 تنفذ في حاضرة الدمام وحدها وتتجاوز قيمة هذه المشاريع مجتمعة الـ6 مليارات ريال، ومعظمها ما زال تحت التنفيذ أو الترسية.