توقعات بتواصل البناء والاندماج بين جدة ومكة خلال سنوات قليلة قادمة

بعد أن وصل تمدد العمران في مكة إلى «بوابة المصحف» ووصلت جدة إلى قرب «بحرة»

بوابة مكة الشهيرة التي تعد مدخل العاصمة المقدسة
TT

يبدو أن عجلة التطور السريعة في السعودية بشكل عام، وفي منطقة مكة المكرمة بشكل خاص، دفعت بجملة من الخبراء والمراقبين والمهتمين إلى التوقع بتواصل البناء بين مكة المكرمة وجدة، واندماجهما في مدينة واحدة خلال السنوات القليلة القادمة.

ويأتي ذلك وسط تأكيدات اقتصادية لـ«الشرق الأوسط» تتوقع ارتفاع حجم التدفق المالي بين مكة المكرمة وجدة، العاصمة المقدسة ومدينة الاقتصاد، إلى أكثر من مليار ريال سعودي سنويا.

وقد يكون من المهم قبل الدخول في تفاصيل أوسع للقصة أن نشير بحسب تأكيدات تعليمية وأمنية إلى أن عددا كبيرا من سكان كلتا المدينتين يعملون ويقطنون في المدينة الأخرى سواء مكة أو جدة، نظرا للقرب بين المدينتين.

وبينما سجل مرور العاصمة المقدسة تحفظاته على هذا التقارب المربك عمليا من وجهة نظره، فإن آخرين رأوا في ذلك التقارب تكاملا أفرزته عشرات السنين نحو الهجرة القصيرة للمال والسياحة والتسوق والمعرفة، حيث اقتربت مخططات ولي العهد في العاصمة المقدسة خلف «بوابة المصحف الشريف» في مدخل مكة، من جنوب جدة، النقطة الأكثر تجاورا، في الوقت الذي تنبأ فيه خبراء بإمكانية ضمهما وتلاحمهما، عبر إطلاق مدينة «مكة الكبرى» على كلتيهما.

ولأن المثل الدارج يقول «أهل مكة أدرى بشعابها»، فإننا نترك خيوط الحديث لهشام كعكي، الذي كان يشغل في وقت سابق منصب رئيس تحرير جريدة «الندوة» الصادرة من العاصمة المقدسة، ليؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن مدينة جدة تعتبر بوابة مدينة مكة، وأن المدينتين تجمعهما توأمة على امتداد تاريخي لا تكاد تنفصل مطلقا، وجدة تعتبر مكان استضافة الحجاج وبداية الرحلة، وهو ما فرض في البدايات الحاجة إلى إنشاء طريق ضخم جدا يربط بين المدينتين، وهو ما تحقق، ويعتبر الآن أكبر الطرق على مستوى العالم، والمفارقة العجيبة أنه طريق مضاء من أوله إلى آخره، فلا يشعر المسافر من مكة إلى جدة أو العكس بأنه خرج عن النطاق العمراني، بالإضافة إلى أن ما يجمع أهالي مكة بجدة هو العمل، ودراسة التخصصات العلمية والنادرة التي لا تتوافر في جامعة أم القرى، حيث شهد خط مكة جدة في كثير من الأوقات إقبالا من القوافل التعليمية والدراسية الراغبة في توسيع المدارك العلمية والثقافية بالترحال بين المدينتين.

وأشار كعكي إلى أن جدة أتاحت فرص عمل كبيرة لأهالي مكة المكرمة، ووجد كثير من الشباب والعاطلين الفرص المواتية لاقتناصها في مدينة جدة التي عرفت وتعرف بأنها مدينة المال السعودي والعاصمة الاقتصادية، وأصبحت العلاقات بين المدينتين المتجاورتين متشعبة ومتقاطعة في كثير من الأوجه، وفي المقابل عمل كثير من أهالي جدة في مكة في المواسم الدينية خاصة في الحج، فأصبحت هناك علاقة تبادلية في العمل بين الاشتغال طوال السنة والمواسم، لاحتياج مكة لعدد كبير من العاملين في موسمي الحج والعمرة.

وحول النطاق الاستثماري لمدينة جدة وعائداته على مكة المكرمة، قال هشام كعكي إنه وبحكم وجود شركات اقتصادية عملاقة لغير المسلمين، وأن مكة لا يجوز دخول غير المسلمين لها، أقرن هذا التوجه رؤوس الأموال والمستثمرين بمدينة جدة، وكثير من بيوت المال والاقتصاد المكي انتقلت جزئيا تدريجيا أو بشكل كلي إلى المدينة الاقتصادية الأكثر ديناميكية وفاعلية في العصب الاقتصادي والإنتاجي اليومي، فجدة متخصصة بأهميتها الاستراتيجية في استقطاب رؤوس الأموال الخارجية وتدعيمها بالخبراء والمهندسين الأجانب، ومديري الشركات الأجنبية، وهو ما اقتضى وضع قدم جميع الأسر المكية والتزامها بأنشطة تجارية في مدينة جدة، لكي تجسر أنشطتها في العاصمة المقدسة.

وأضاف كعكي أنه وبسبب وجود مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة، ناهيك عن الميناء الاقتصادي، فإن العقلية الاقتصادية توثبت نحو الاعتمادية على جدة في السلوك التجاري، بالإضافة إلى أن وجود السفارات والقنصليات في مدينة جدة جعلها منطلقا لتجسير التخاطب مع العالم الخارجي، وخلق آفاق اقتصادية كبيرة في عملية التبادل التجاري والتعليمي والسفر من أجل التبضع، وثقافيا تم تبادل الأدوار، حيث استطاعت مدينة جدة أن تسحب البساط، واحتضنت الجمهور الأكبر من المثقفين والمبدعين، بحكم سهولة وجود المطار من ناحية دخول الأجانب، وأصبحت مكة تعتمد على جدة بشكل كبير، واستطاعت جدة - بحسب كعكي - سحب الأضواء من الناحية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتعليمية.

أما الدكتور سهيل قاضي، رئيس نادي مكة الثقافي، فقال لـ«الشرق الأوسط» إنه يؤيد مثل هذا الطرح في الجوانب الإعلامية، وعرف عن جدة منذ القدم أنها بوابة الحرمين، وبدأ التلاقح بين المدينتين المتجاورتين منذ أن بدأ تعبيد الطريق بينهما وأصبح مزدوجا سريعا، مما جعل من عملية الاتصال سهلة وميسرة، وكانت هذه هي البداية، وكان هناك حلم كتبه أحد الأدباء يدعى أحمد الكاظمي، قبل 55 عاما، ونادى ساعتئذ في صحيفة «البلاد» السعودية بضرورة سفلتة الطريق وتعبيده، وإضاءة الطريق بينهما، ولم تكن الإضاءة في ذلك الحين متوافرة في داخل المدن، حتى تكون متاحة في الطرق الرئيسية، فظنت الأوساط التعليمية بأن الشيخ الكاظمي يحلم، لكن هذا الحلم تحقق في عام 1980، عندما تم بناء الطريق الحالي والذي يسمى حاليا الطريق السريع وتمت أيضا إضاءته.

واستطرد رئيس نادي مكة الثقافي بالقول «تزامن هذا الحدث مع افتتاح مطار الملك عبد العزيز، وهو ما قوى وسائل الاتصال بشكل كبير، فضلا عن وسائل الاتصال الأخرى التي توافرت في ذلك الحين، والبعض ينظر لمدينة مكة المكرمة على أنها مدينة فقط للعبادة، ولا ينظر لها كمدينة بمفهومها العصري الواسع، والمنطقة المركزية تفرض الاعتناء بها والاهتمام بالقادمين والطائفين، وقاصدي البيت الحرام تحديدا، لكن بغية العاصمة المقدسة تفرض أن تكون المسؤولية مشتركة، فقد تم التقصير في كثير من الاستثمارات في المناطق القابلة للاستثمار، مما جعل بعض الإخوان كالأطباء على سبيل المثال يتجهون للنزوح لمدينة جدة وفتح مستشفيات كبيرة وضخمة، والغرض منها رعاية المرضى، ولم يجدوا تلك الفرصة متاحة لهم في مكة».

وأشار إلى أن التواصل جسد مفاهيم كثيرة، أولها أن مكة وجدة مدينتان لا تتجزآن، وفي مكة على سبيل المثال لا تجد قاعات كبيرة مخصصة لاستقطاب الشخصيات الكبيرة والندوات العالمية، ما عدا قاعة الإنتركونتننتال التي استحدثت قبل أربعين عاما في مكة، وسواها لا تجد مكانا ملائما ومتعدد الأغراض لإقامة المؤتمرات والمناسبات، وهناك أشياء كثيرة تجعل لهذا التواصل مبرراته، والمؤمل في المستقبل أن ينظر لمكة المكرمة كمدينة قائمة بذاتها تحوي مراكز ثقافية خاصة بها، ومراكز تثقيفية على مستوى مدينة كمكة المكرمة.

ورفض الدكتور قاضي الانقياد تحت مسمى «سحب البساط»، موضحا أن المدينتين يكمل بعضهما بعضا، ولا توجد تلك الحساسية مطلقا، وإن كان ينبغي لمكة أن تكون لها الاستقلالية الكاملة، والقضية هي نقص في الخدمات والتسهيلات وليست مسألة أخرى، جاءت في جدة ولم تتوافر في مكة، بحكم استقطابها أفواج الحجاج والمعتمرين، وهناك فريق آخر يرى أن الخدمات الكبيرة في مدينة جدة تعتبر مكملا لما عليه مكة المكرمة، ولا توجد في العاصمة المقدسة فنادق قريبة من المنطقة المركزية تحوي صالات لاستقبال وفود المؤتمرات الكبيرة.

أما النقيب فوزي الأنصاري، المتحدث الرسمي لمرور العاصمة المقدسة، فأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن المدينتين تعلقان في زحام كبير بفعل أوقات الذروة في الطرق الرئيسية السريعة، وحركة الموظفين الصباحية والمسائية تولد اختناقات مرورية كبيرة، ولو أن كل موظف التزم بالدوام من مدينته والسكن بجوارها، لما شهد طريق مكة - جدة السريع تلك الاختناقات اليومية التي نراها بشكل مستمر خاصة في مداخل المدينتين، وتلك الرحلات ترفع نسبة الحوادث في الطرق السريعة بين المدينتين، على الرغم من الوجود المروري الكثيف، وأماكن رصد المخالفات والسرعة، لكن التواصل اليومي بين مكة المكرمة وجدة يعد مرتفع النسق بشكل كبير.

إلى ذلك، يقول علي أحمد مفتي، رئيس لجنة المصارف والبنوك في العاصمة المقدسة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه من الصعب تخصيص مدينتين للحديث عنهما في الشأن الاقتصادي، لأن سائر المدن الرئيسية تخضع لملاءة واحدة وهي مؤسسة النقد، فلذلك من الجانب الاقتصادي نرى تواؤمها.. وفيما يخص حركة الأموال فإن المستثمرين في مكة وجدة في الغالب يحركون أموالا كبيرة بينهما، بفضل الاتصال اليومي والمباشر والتبادل الاقتصادي المحوري التي تشهده المدينتان منذ فترات طويلة، وارتفاع نسق الاستثمار فيما يشهده القطاع العقاري، وارتفاع النشاط الإسكاني والسكاني، هذا يخلق حجم تبادل تجاري كبيرا جدا تقدر أوساط اقتصادية أنه يفوق العشرة مليارات ريال سعودي سنويا، وأكثر من مائة مليار ريال سنويا، وهناك توجه كبير حكومي نحو مكة المكرمة في إنشاء المشاريع الكبيرة لتوسعة الحرم المكي وجسر الجمرات والخطوط الدائرية الكبيرة التي تربط مكة المكرمة ببعضها وبمدينة جدة.

وأضاف علي مفتي أنه بالعادة إذا تقارب العمران، فإنه يتقارب الاقتصاد وضخ المال والسيولة، وتصبح المدينتان مدينة واحدة، ومكة ذات طابع ديني وطبيعة الاستثمارات فيها تنضوي تحت الاستثمارات الدينية، ومن الممكن عبر سنوات قليلة أن يتم الربط تجاريا بالكامل بين المدينتين، لا سيما أنهما بشكل غير مباشر مدينتان متلاقحتان على كل الأصعدة.

وعلق بدوره الدكتور عبد الله مهرجي، عميد كلية القبول والتسجيل في جامعة الملك عبد العزيز، لـ«الشرق الأوسط»، بأن كثيرا من الأكاديميين والمفكرين وطلاب الدراسة يتبادلون الأدوار والتنقل من الناحية التعليمة والجامعية والأكاديمية وبشكل يومي، وهو ما يفرض تقارب المدينتين علميا وثقافيا واقتصاديا، حيث من الممكن تسميتهما بعد التلاحم العمراني فيما بينهما بـ«مكة الكبرى»، وهما مدينتان يكمل بعضها بعضا من الناحيتين الدينية والاقتصادية، وهناك جسر يومي لآلاف السيارات يربط المدينتين بعضهما ببعض، ومكة تعرف علميا بأنها كانت المنهل العلمي الديني المؤسسي، وجدة عرفت بعلومها المختلفة كالطب والهندسة، فضلا عن أن مكة تزخر بالمؤسسات الدينية منذ أكثر من خمسين عاما وتعتبر المنارة الإشعاعية الدينية للراغبين التزود بالأمور الدينية.