في السعودية.. الزيادة السكانية تنقص معدلات الهجرة العكسية

في ظل توقعات بزيادة نسبة التحضر في البلاد إلى 88% بحلول 2025 * البحث عن عمل أو التعليم الجامعي من أهم اسباب نزوح سكان الأرياف * تفعيل دور التخطيط الإقليمي وتحسين نمط النسيج العمراني للمدن بدرجاتها وتعديل أولويات التوزيع المكاني للإنفاق من قبل الدولة

تعاني المدن الرئيسية في السعودية من الاكتظاظ السكاني، وذلك بسبب المركزية وتوفر جميع مقومات المدينة المتحضرة التي تتوفر بها الخدمات كافة («الشرق الأوسط»)
TT

على الرغم من انعكاس المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية على خريطة المدن السعودية في الآونة الخيرة، وتأثيرها إيجابا على الهجرة العكسية من المدن الرئيسية إلى المدن الأخرى، بهدف تحقيق التنمية المتوازنة بين مختلف المحافظات، فإن الزيادة الطبيعية في عدد السكان، تبقي معدلات الهجرة العكسية عند مستوى معين، الأمر الذي يستدعي جهودا أكبر لزيادة الهجرة المعاكسة.

وفي الوقت الذي قامت فيه السعودية قبل أيام بالإحصاء الجديد للتعداد السكاني، شهدت معدلات الهجرة العكسية من المدن الرئيسية للمدن الأخرى خلال السنوات الأخيرة ارتفاعا طفيفا لا يذكر مقارنة بالعكس، وذلك بعد أن اتخذت الحكومة سياسات واستراتيجيات لتوفير مقومات الحياة في مختلف مدن المناطق، ضمن إطار خطط التنمية الوطنية، في محاولة منها لتقليص التباينات المختلفة في عدد سكان المدن الكبيرة والصغيرة والسيطرة عليها، وتحقيق التنمية المتوازنة.

المهندس سامي العبود مدير التخطيط العمراني بوزارة الشؤون البلدية والقروية أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن مؤشرات انخفاض معدلات الهجرة إلى المدن الكبرى، كانت نتيجة لخطط الدولة في مجالات التنمية وتحقيق العدالة في توزيع الأنشطة الخدمية والاقتصادية، مشيرا إلى أن هذه الجهود أثمرت بشكل ملحوظ عن تقليص معدلات الهجرة الداخلية عن سابقها، إضافة إلى بدء استقرار تنموي واجتماعي لبعض المدن الصغيرة والمتوسطة.

توازن النمو

* وقال المهندس العبود لـ«الشرق الأوسط» إن وزارة الشؤون البلدية والقروية تعمل من خلال الاستراتيجية العمرانية الوطنية، وبعض الدراسات المتخصصة، على تحقيق التوزيع المتوازن للسكان على الرقعة الجغرافية للسعودية، وبحث النتائج السلبية للنمو المتوازن في حجم المدن الكبيرة، والاستغلال الأمثل للتجهيزات الأساسية والمرافق العامة، ودعم التنمية في المجالات العمرانية والاجتماعية والاقتصادية للمدن الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى تنمية الأنشطة التي تحقق التكامل بين المناطق الحضرية والريفية.

ومما لا شك فيه، أن انخفاض معدلات الهجرة من المدن الرئيسية إلى المحافظات الأخرى، يعد دليلا على بدء توفر خدمات من شأنها أن تلبي احتياجات أهالي تلك المناطق، والتي يندرج ضمنها إنشاء الجامعات، غير أن التساؤلات ما زالت مستمرة حول إمكانية توفير فرص وظيفية للخريجين في مناطقهم، وذلك من أجل ضمان بقائهم بها، دون الحاجة إلى الانتقال للمدن الرئيسية بحثا عن العمل.

وفي هذا الشأن، كشف لـ«الشرق الأوسط» بدر باجابر وكيل وزارة العمل المساعد للتخطيط والتطوير، عن بدء وزارته في تنفيذ استراتيجية التوظيف السعودية، لتحقيق التوظيف الكامل على مدى 25 عاما من أجل توفير فرص العمل في مختلف مناطق السعودية، عن طريق الاستعانة بالجامعات، وتوفير المراكز ووحدات الإرشاد والتوظيف وتثقيف خريجي الثانوية العامة بفرص العمل المتاحة.

وقال باجابر خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «تتزامن استراتيجية التوظيف السعودية مع الخطة المستقبلية للتعليم الجامعي، في ظل وجود تعاون وتنسيق متكامل لتوفير فرص عمل في المناطق الأكثر حاجة بحسب الكثافة السكانية وعدد خريجي التعليم العام».

وأشار إلى أن استراتيجية التوظيف السعودية مقسمة إلى ثلاثة أقسام تتضمن عامين على المدى القصير وثلاث سنوات للمتوسط، فيما يتمثل المدى البعيد في العشرين عاما المتبقية.

وأضاف وكيل وزارة العمل المساعد للتخطيط والتطوير: «تهدف الاستراتيجية في العامين الأولين إلى السيطرة على البطالة وتخفيض معدلها ومن ثم تحقيق مبدأ التنافسية، بحيث يكون هناك طلب على طالب العمل السعودي أكثر من كونه يفرض على الجهات، لا سيما وأنه سيمتلك القدرة والمهارة للعمل».

ولفت إلى أن الهدف العام للاستراتيجية ينعكس بشكل أو بآخر على مختلف مناطق السعودية، وفق زيادة النمو في معدلات التوظيف وأعداد الخريجين بها سواء من الجامعات المنتشرة أو خريجي التعليم العام ممن لا يرغبون في مواصلة دراستهم.

وزاد: «نحاول من خلال الاستراتيجية تجميد البطالة وتوظيف أعداد تساوي الخريجين بحيث لا يزيد المعدل عن الموجود، ومن ثم تنخفض نسب البطالة إلى أن يتحقق التوظيف الكامل».

وحول تأثير انخفاض معدلات الهجرة إلى المدن الرئيسية في السعودية، أفاد وكيل وزارة العمل المساعد للتخطيط والتطوير، أن ذلك سيكون له أثر إيجابي على خطط التوظيف، بل وتوفر فرص عمل في المناطق الأخرى.

وفي الوقت الذي تلعب فيه وزارة الاقتصاد والتخطيط دورا مهما في تحقيق التنمية المتوازنة بين مناطق السعودية، وتضييق الفجوة التنموية بينها، وما يتبع ذلك من خطط واستراتيجيات تتعلق بالهجرة بين المدن، لم تتجاوب الوزارة مع أسئلة «الشرق الأوسط» التي تم إرسالها أكثر من مرة، بعد الاتفاق هاتفيا مع مسؤوليها على ذلك.

تأثيرات إيجابية

* وبالعودة لوكيل وزارة العمل المساعد للتخطيط والتطوير، والذي يرى أن انعدام الهجرة للمدن الرئيسية، سيدل على وجود خدمات متكاملة في مناطق السعودية الأخرى، والتي من ضمنها إنشاء وزارة التعليم العليم للجامعات والكليات في تلك المناطق بحسب الكثافة السكانية، عدا عن انتشار أكثر من 37 مكتبا للعمل في المملكة، من بينها مكاتب نسائية. وأضاف أن توفر الفرص في المدن غير الرئيسية، من شأنه أن يعطي مجالا أوسع، لخلق فرص وظيفية أو قطاعات اقتصادية تنتج مزيدا من الوظائف لطالبي العمل.

وأكد أن انخفاض معدلات الهجرة له تأثير إيجابي أيضا على المدن الرئيسية، كونها تسهم في تخفيف الضغط على الخدمات والطرق بها، مشددا في الوقت ذاته على أهمية وجود توازن في توزيع الخدمات، باعتباره ينعكس إيجابيا على خطط التنمية، كي تحقق التوازن بين المناطق وفرص العمل. وفي ذات السياق، أوضح الدكتور محمد الحيزان المستشار والمشرف على إدارة الإعلام والعلاقات العامة في وزارة التعليم العالي، لـ«الشرق الأوسط» زيادة عدد المحافظات التي تضم كليات جامعية إلى 77 بعد أن كانت محصورة في 17 محافظة، مؤكدا أن ذلك أسهم في تحقيق هجرة معاكسة تشهدها الدولة لأول مرة في السنتين الأخيرتين.

الحيزان قال لـ«الشرق الأوسط»: «ما عزز من ذلك، خطة الوزارة في منح بدلات تصل إلى 40 في المائة للتدريس في الجامعات الناشئة، مما ترتب عليه بالفعل انتقال بعض أعضاء هيئة التدريس وذويهم من المدن الرئيسية إلى مدن ومحافظات أخرى». وكان مجلس الوزراء السعودي قد أقر خلال الفترة الماضية الأهداف العامة لخطة التنمية التاسعة، والتي جاء من بينها تحقيق التنمية المتوازنة بين مناطق السعودية، وتعزيز دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة وتحقيقها والاهتمام بها، من خلال تسريع وتيرة النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية.

معدلات مرتفعة

* وهنا يشير المهندس سامي العبود مدير التخطيط العمراني في وزارة الشؤون البلدية والقروية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن نسبة التحضر في السعودية، ارتفعت من 48 في المائة عام 1974 إلى 80 في المائة عام 2000.

وتوقع العبود أن تسجل تلك النسبة زيادة لتصل إلى 88 في المائة بحلول عام 2025، الأمر الذي قد يسبب مشكلة للمجتمع في حالة استمراره بهذه المعدلات، مرجعا سبب ذلك إلى توجه الدولة في السابق نحو تركيز الأنشطة والاستثمارات الإنتاجية في مواقع توطين الموارد ومراكز الاستيطان ذات الميزة النسبية، إضافة إلى ما كان لهذه المدن «الكبيرة» من نصيب أوفر مقارنة بغيرها، مما «شجع على تيارات الهجرة من الريف إلى الحضر».

وأضاف العبود: «قد يؤدي استمرار هذه الظاهرة (فرضيا) إلى ظهور المشكلات العمرانية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي ينعكس سلبا على كل مظاهر الحياة في السعودية».

ورأى أنه من الممكن اختصار تلك المشكلات في تهميش المناطق الريفية والمدن الصغيرة ودورها، والتوسع المتواصل في حجم المدن الكبيرة، مما يفسح المجال للتوسعات العشوائية، وتدهور البيئة العمرانية للمدن الكبيرة، وزيادة تكاليف المرافق والخدمات وتكاليف الصيانة والتشغيل، والإخلال بمنظومة التوزيع السكاني على الرقعة الجغرافية للمملكة، إلى جانب التباين الكبير في معدلات التنمية بين المناطق الريفية والحضرية.

وأوضح العبود أن ذلك قاد الحكومة بقطاعاتها المختلفة وأجهزتها للتركيز على معالجة هذه المشكلة بالسرعة الكافية، ضمن إطار خطط التنمية الوطنية، في محاولة لتقليص تلك التباينات والسيطرة عليها، وتحقيق التنمية المتوازنة، عن طريق توفير المساواة في توزيع الفرص الاقتصادية والإنتاجية على كامل مناطق السعودية (كلما أمكن ذلك) عوضا عن تمركزها في عدد محدود من المدن الكبرى.

وأشار إلى أن هذه الجهود أثمرت بشكل ملحوظ في تقليص معدلات الهجرة الداخلية عن سابقها، إضافة إلى بدء استقرار تنموي واجتماعي لبعض المدن الصغيرة والمتوسطة.

استقرار المجتمعات

* وأكد المهندس العبود على حقيقة أن مؤشرات انخفاض معدلات الهجرة إلى المدن الكبرى، كانت نتيجة لخطط الدولة في مجالات التنمية وتحقيق العدالة في توزيع الأنشطة الخدمية والاقتصادية على كامل الرقعة الجغرافية للسعودية، الأمر الذي ساعد بشكل ملحوظ في استقرار المجتمعات العمرانية بدرجاتها.

وأضاف: «مع انخفاض معدلات الهجرة، تتغير المنظومة الاجتماعية والاقتصادية للمدن والقرى، وتباعا يتم تقويم الخطط التنموية والسياسات وتعديلها بشكل يتوافق والمتغيرات، مما يتبعه تغيرات جديدة» وزاد العبود: «هكذا نجد أن الخطط تتبدل وتتغير بشكل مستمر لتواكب المتغيرات، مع ملاحظة أن بعض تلك الخطط قصيرة المدى ويظهر تأثيرها أسرع من الأخرى، فيما يتضح تأثير بعيدة المدى بعد فترة زمنية أطول»، مشيرا إلى أن لكل خطة أهدافها وأدواتها وأساليبها في تحقيق المنشود منها.

وهنا علّق المستشار والمشرف على إدارة الإعلام والعلاقات العامة في وزارة التعليم العالي قائلا: «إن وجود هجرة متزايدة إلى المدن الكبرى، وبخاصة الرياض ومكة المكرمة وجدة والدمام، أمر كشفت عنه وأكدته إحصاءات التعداد السكاني التي بدأت بشكل دوري منذ أكثر من 15 عاما، وهو عائد إلى عوامل كثيرة من بينها تركيز المشروعات التنموية سواء التعليمية أو الاقتصادية في تلك المدن».

وأضاف: «إن نزوح سكان الأرياف والمدن البعيدة إلى المدن الكبرى تركز في البحث عن الفرص الوظيفية، أو لإلحاق الأبناء والبنات بالتعليم الجامعي، ومن خلال تشخيص المشكلة بدأت الجهات ذات العلاقة خلال السنوات الأخيرة في معالجة هذه الإشكالية من خلال الكثير من الإجراءات التي تستهدف الحد من الهجرة إلى المدن الكبرى عبر إطلاق عدد من المشروعات التنموية في مختلف مناطق المملكة مثل مشروع (جامعة لكل منطقة) ومشاريع المدن الاقتصادية وغيرها».

وأوضح أن وزارة التعليم العالي استطاعت تنفيذ توجيهات الحكومة في تهيئة فرص التعليم العالي بجميع المناطق والكثير من المحافظات، مما أسهم في القضاء على عامل الهجرة نتيجة البحث عن مقعد جامعي، لافتا إلى أن أرقام الإنجازات تدعم هذا القول، في ظل قفز عدد الجامعات من 8 إلى 32 جامعة حكومية وأهلية تضم 440 كلية في مختلف التخصصات خلال خمس سنوات.

وذكر الدكتور محمد الحيزان أن للجامعات دورا ملموسا في تقليص الهجرة، إذ كان عدم وجودها في الكثير من مناطق ومحافظات السعودية من أكثر أسباب الهجرة منها، مما حتم على الوزارة إطلاق مشروع توطين التعليم العالي قبل خمس سنوات والذي كان شعاره «جامعة على الأقل لكل منطقة».

وأضاف: «بحسبة بسيطة من الممكن أن نعرف إسهام الجامعات الناشئة في الحد من الهجرة الداخلية إذا عرفنا أن أعداد الطلاب والطالبات في هذه الجامعات يصل إلى نحو 200 ألف طالب وطالبة، معظمهم كانوا سيضطرون للهجرة إلى المدن الكبرى من أجل الالتحاق بالجامعات الحكومية فيها، وربما لن يقتصر الأمر عليهم إذ قد تجد العائلة نفسها مضطرة إلى الهجرة لمرافقة ابنها أو ابنتها أثناء الدراسة».

وقال الحيزان: «إن الجامعات في طبيعتها مشاريع ضخمة توفر فرصا وظيفية كثيرة جدا، مباشرة وغير مباشرة، من بينها الوظائف التعليمية والكتابية والخدمية والصيانة وغيرها، كما أن الوزارة عملت على تشييد مدن جامعية متكاملة لجميع الجامعات الناشئة، وأسندت مهمة تشييدها إلى شركات وطنية استعانت الكثير منها بأيد وطنية وبمؤسسات محلية قادرة على تلبية احتياجات تلك الشركات، الأمر الذي انعكس إيجابا على اقتصاد الأماكن التي توجد بها هذه الجامعات».

وأشار إلى أن وزارة التعليم العالي تشهد في قطاعاتها المختلفة هجرة معاكسة من المدن الكبرى كالرياض ومكة المكرمة وجدة إلى المناطق والمحافظات الأخرى سواء من الطلاب أو من أعضاء هيئة التدريس الذين تحولوا إلى العمل في الجامعات الناشئة، خصوصا بعد الحوافز المالية المقدمة لمن يعملون في هذه الجامعات.

الطفرة الاقتصادية

* وكانت الطفرة الاقتصادية في الثمانينات سببا لهجرة المواطنين إلى المدن الرئيسة، التي حظيت بالحجم الأكبر من المشاريع الحضارية والتنمية الشاملة بأبعادها المختلفة، وأدت هذه الهجرة بدورها إلى تغيرات في مكونات المجتمع السعودي وقيمه، وبخاصة أن الطفرة الاقتصادية صاحبها انفتاح ثقافي أحدثته وسائل العولمة.

وفي العاصمة الرياض، تنبهت الهيئة العليا لتطوير المدينة لأهمية وضرورة توزيع المشاريع التنموية على كافة أرجاء المنطقة، بهدف الحد من التركيز على الرياض التي أصبحت مكتظة بالسكان وتعاني من اختناقات مرورية وصعوبة في توفير الخدمات والمرافق، بسبب التوسع الكبير وازدياد الهجرة السكانية إليها، ليس من داخل منطقة الرياض فقط، بل من جميع مناطق البلاد.

وكشفت دراسة صادرة من الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض عن انخفاض معدل الهجرة السنوي إلى مدينة الرياض عنه في الأعوام السابقة. ويأتي 73 في المائة من المهاجرين للمدينة، بغرض البحث عن فرص عمل، وكشفت الدراسة أن معدل الهجرة السنوي يبلغ 33 ألف مهاجر، فيما كان قبل ذلك يصل إلى 75 ألف مهاجر في الأعوام السابقة، مما أدى إلى انخفاض نسبة النمو السكاني من 8 في المائة إلى 4.2 في المائة.

وتوقعت الدراسة أن يصل عدد سكان مدينة الرياض، بحلول عام 1450هـ إلى 8.2 مليون نسمة، تبلغ نسبة السعوديين منهم 75 في المائة، وتبلغ نسبة السكان تحت سن العشرين 52 في المائة، فيما قدرت أعداد الوظائف الواجب توافرها حتى عام 1450هـ، بنحو 6.8 ألف وظيفة، أي بمعدل 34.450 وظيفة سنويا، فيما قدرت احتياجات المدينة من المساكن حينها بـ606 آلاف وحدة سكنية، ما معدله 30.3 ألف وحدة سنويا.

وتقوم هيئة تطوير الرياض بمراجعة للأعداد المتوقعة للسكان بناء على المعطيات الجديدة لنسبة النمو السنوي بشكل دوري، بناء على ما يستجد من معطيات تفرزها الظروف المختلفة التي يمكن أن تحدث لأي من مسببات النمو السكاني.

وفي ضوء هذه التقديرات يتم استخلاص الحقائق والأرقام التي يمكن أن تبنى عليها الاستراتيجيات التخطيطية لكافة القطاعات، كما يفيد تقدير أعداد السكان في الأعمار المختلفة اللازمة لتقدير الاحتياجات المستقبلية من المرافق التعليمية في المراحل المختلفة والخدمات الصحية، والمرافق العامة وغيرها.

زيادة السكان

* وهنا عاد المهندس سامي العبود ليؤكد أن ظاهرة الهجرة الداخلية تمثل مشكلة كبيرة في معظم دول العالم والتي تؤدي إلى زيادة سكان المدن والمناطق الحضرية بشكل مستمر.

وأرجع أسباب ذلك إلى الزيادات الطبيعية في أعداد السكان، والهجرات الدائمة من الريف للحضر، مضيفا أن تلك الأسباب تكمن في المتغيرات التي تطرأ على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه المجتمعات.

وأضاف أن تمركز معظم الخدمات في المدن الرئيسة، كالخدمات التعليمية والصحية والجامعات ومعظم الإدارات الحكومية، يعد أيضا من أهم أسباب زيادة الهجرة على المدن، موضحا أنه لا ينبغي إغفال الاعتبارات الأخرى الجاذبة لسكان الريف والمدن الصغيرة من وسائل الترفيه والتسلية والاستمتاع بالبيئة العمرانية التي تميز المدن الكبرى.

وأردف قائلا: «كل ذلك من شأنه أن يسهم في إفراغ المجتمعات الريفية والمدن الصغيرة من سكانها، وزيادة أعداد السكان في المدن الكبيرة وتضخيمها وتعقد مشكلاتها، مما يؤدي إلى ما يطلق عليه ظاهرة التحضر، وتحول المجتمعات من زراعية أو ريفية إلى مجتمعات حضرية».

وذكر العبود أن وزارة الشؤون البلدية والقروية ساهمت كجهاز من أجهزة الدولة، بدورها في هذا الجهد بمجموعة من الدراسات والخطط الشاملة التي ترمي أهدافها لتحقيق التنمية المتوازنة بين الريف والحضر، باعتبار ذلك من مفاتيح معالجة مشكلة الهجرات، مبينا أن من أهم تلك الدراسات الفاعلة الاستراتيجية العمرانية الوطنية التي تم إعدادها في وقت سابق بعد اعتمادها من قبل مجلس الوزراء منذ نحو عشر سنوات.

وقال مدير التخطيط العمراني بوزارة الشؤون البلدية والقروية: «من أهم أهداف هذه الاستراتيجية، تحقيق التوزيع المتوازن للسكان على الرقعة الجغرافية للسعودية، وبحث النتائج السلبية للنمو المتوازن في حجم المدن الكبيرة، والاستغلال الأمثل للتجهيزات الأساسية والمرافق العامة، ودعم التنمية في المجالات العمرانية والاجتماعية والاقتصادية للمدن الصغيرة والمتوسطة، وتنويع القاعدة الاقتصادية لمختلف المناطق وفقا لإمكانات وموارد كل منطقة، وتدعيم الأنشطة التي تحقق التكامل بين المناطق الحضرية والريفية».

وأوضح العبود أن الاستراتيجية العمرانية الوطنية حددت الإطار التنفيذي لهذه الأهداف من خلال مجموعة من المتطلبات والفعاليات تتمثل في تفعيل دور التخطيط الإقليمي، وتحسين نمط النسيج العمراني للمدن بدرجاتها، ووضع البرامج التنفيذية، وتعديل أولويات التوزيع المكاني للإنفاق من قبل الدولة، واستخدام مواقع الأنشطة الحكومية في تحقيق التنمية المتوازنة.

وزاد: «أعدت الوزارة مجموعة من الدراسات العمرانية باعتبارها أدوات لتفعيل الاستراتيجية العمرانية، وذلك على المستويين الإقليمي والمحلي، بهدف دراسة وتحليل إمكانات التنمية في كل منطقة أو مدينة، والوصول إلى أحسن السبل لاستغلال هذه المقومات، ودعمها وتحقيق دفعة تنمية مناسبة ونشر التنمية على الحيز المكاني لكل منطقة، وتحديد دور ووظيفة كل مدينة في إطار المنظومة المتكاملة لوظائف التجمعات العمرانية في السعودية».

وذكر المهندس سامي العبود أن مشروع إعداد المخططات الإقليمية لمناطق السعودية والذي تم بالتعاون مع المكاتب الاستشارية المتخصصة، ومشروع إعداد المخططات الهيكلية للمدن والقرى السعودية، ويتم من خلاله دراسة وتحليل أوضاع المدن والقرى والتعرف على مشكلاتها، ثم مستقبل التنمية في كل مدينة في إطار المعوقات الإقليمية والمحلية المؤثرة عليها، يؤديان إلى دعم التنمية لكامل مدن وقرى السعودية، مما يساعد على تقليص الهجرات والحد منها.

وأشار مدير التخطيط العمراني إلى دراسات النطاق العمراني التي أعدت للمدن السعودية بعد اعتمادها بقرار مجلس الوزراء منذ نحو ثلاثة أعوام، ساعدت بشكل كبير في الحد من توسعات المدن العشوائية وإعطاء الفرصة لتنمية المدن الصغيرة والمتوسطة واستقرارها اجتماعيا واقتصاديا.

وأورد العبود أن الاستمرار في سياسة إجراء هذه الدراسات وتحديث بياناتها وتقويمها بشكل مستمر، يساهم بشكل كبير في مراجعة الخطط والسياسات، ورسم دور ووظيفة المدن والقرى ودعم التنمية بها، ومن ثم توجيه معدلات الهجرة والسيطرة عليها، وفق منهجية علمية ودراسات واقعية.

صعوبة التقليص

* وحول تحديد نسب دقيقة لتقليص معدلات الهجرة، أفاد المهندس العبود بأنه يصعب ذلك، كونها تعد في مجملها مؤشرات عامة تحتاج إلى دراسات تفصيلية لتأكيد الظاهرة وتوضيح طبيعتها.

واستدرك بالقول: «من الممكن الرجوع في ذلك إلى الإحصاءات السكانية الرسمية للدولة التي تمت في وقت سابق قبل إحصاء عام 1413هـ، ثم بعده عام 1425هـ والتي تعطي أرقاما حقيقية عن عدد السكان في المدن والقرى، وتوضح نسبيا بعض حقائق الهجرة إيجابية أم سلبية»، لافتا إلى أن الإحصاء الجديد للتعداد السكاني، سيساعد في معرفة معدلات أكثر وضوحا ودقة حول الهجرة العكسية.

وفيما يتعلق بالمدن الأكثر جذبا للسكان قال العبود: «بشكل عام تتم الهجرة إلى المدن التي تتمتع بمقومات حياتية أكثر من غيرها والتي تتمركز فيها الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، لتصبح مراكز جذب قوية، تجذب لها سكان المناطق المحيطة، حيث توفر فرص العمل والسكن والدراسة وما إلى ذلك».

وزاد: «ما زالت المدن الكبرى والمراكز الحضرية الرئيسة في السعودية تستحوذ على معظم الهجرات الداخلية والخارجية، ونأمل أن تقل قوة جذب هذه المراكز بعد ظهور نتائج نشر التنمية وتوزيع الأنشطة ودعم المدن الصغيرة والمتوسطة والمناطق الريفية اقتصاديا واجتماعيا».

ولفت إلى أن كلا من الرياض وجدة والمنطقة الشرقية تعتبر من أهم المراكز الحضرية الجاذبة في السعودية سابقا وفي الوقت الحاضر، إلى جانب إمكانية إضافة بعض المراكز الأخرى مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة، وإن كانتا مختلفتي الطابع.

وأفاد مدير التخطيط العمراني بأن الخدمات التعليمية، تعد إحدى المقومات القوية الدافعة لهجرة السكان، حيث وجودها خاصة المستويات العليا منها، مثل الجامعية أو المتخصصة، والتي لا يمكن توفيرها في كل المدن، وقد دعا ذلك في كثير من الأحيان إلى انتقال الطلبة بشكل خاص إلى المدن التي تتوفر فيها هذه الخدمة.

وقال العبود إن إدراك الدولة لمشكلات الهجرة ومشكلات سوء توطين الأنشطة، ومع بداية تنفيذ سياسة نشر التنمية وتوزيع كافة ا لأنشطة والخدمات بشكل متوازن على الرقعة الجغرافية للمملكة «بقدر الإمكان»، أدى إلى تقليل معدلات الهجرة نسبيا، وبخاصة فيما يخص فئة الطلاب، ومع حقيقة أنه حتى الآن لم يتم توفير الجامعات في كل مدن المملكة ومناطقها بكافة تخصصاتها ودرجاتها، فإنه ما زالت تجري عمليات هجرة وانتقال من المدن الصغيرة والمتوسطة إلى الكبيرة حيث تتوفر الجامعات والمعاهد، وقد تكون تلك الهجرات داخل نفس المنطقة، وبشكل مؤقت.

وأضاف أنه «من الضروري أن لا نغفل مشكلات الهجرة بعد انقضاء فترة التعليم الجامعي، من حيث البحث عن فرص للعمل قد لا تكون متوفرة في نفس المدينة أو المناطق مما يعني هجرة أخرى بشكل آخر».

الخبر المفرح

* من جهته وصف صالح التركي الرئيس الأسبق لمجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية في جدة وأيضا مجلس الغرف السعودية، انخفاض معدلات الهجرة إلى المدن الرئيسية بـ«الخبر المفرح»، معتبرا نزوح السكان من القرى لتلك المدن أمرا سيئا كونه يتسبب في تعطيل مشاريع التنمية وإرباك حركة التطوير في المدن، لافتا إلى أن الانخفاض في معدلات الهجرة يدل على وجود فرص وظيفية في المدن الأخرى، لا سيما وأن البحث عن العمل يعد أحد أسباب النزوح.

وحول إمكانية تأثر خطط التنمية في المدن الرئيسية بانخفاض معدلات الهجرة إليها، أكد التركي أنها لن تتأثر، باعتبارها لا تتطلب نزوح الناس إليها بقدر ما تحتاج إليه من نمو طبيعي، مرجعا أسباب نقص الخدمات فيها إلى هجرة الناس إليها، مستدركا بقوله: «ينبغي توفير فرص وظيفية في المدن البديلة وأخذ ذلك في عين الاعتبار أثناء التخطيط لها، عدا عن إيجاد فرص استثمارية تعمل على توظيف الناس في مناطقهم».

وأكد التركي على أهمية توازي النمو الطبيعي مع الاستثمار في البنى التحتية للمدن البديلة شريطة أن لا يكون ذلك النمو أسرع من تطويرها، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن انخفاض الهجرة من شأنه أن يساعد في استقرار المدن الرئيسية، إضافة إلى أن جميع دول العالم تخطط على نمو سكاني لا يتجاوز 2 في المائة فقط.

جامعات المناطق

* بينما يرى فهد الحمادي رئيس لجنة الفروع وعضو مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية في الرياض أن خطط التنمية بشكل عام تعد ذات بعد استراتيجي شمولي للسعودية في كافة مناطقها، غير أن الجانب المهم يتضمن ما شهدته المحافظات في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز من بعد تنموي في الجانب التعليمي والصحي.

وقال الحمادي لـ«الشرق الأوسط»: «إن ذلك البعد التنموي أعطى نوعا من الاستقرار لسكان تلك المحافظات عبر توفير متطلبات التعليم العالي، إذ إن طلاب المرحلة الثانوية مثلا لن يضطروا للتوجه إلى المدن الرئيسية من أجل الالتحاق بالجامعات بعد افتتاحها في معظم المحافظات»، مؤكدا أن ذلك له مردود على الهجرة في الوقت الحالي.

وشدد على أهمية التفكير في إيجاد فرص توظيف في المحافظات، لا سيما وأن غياب ذلك سيؤدي إلى هجرة طلاب الجامعة للبحث عن الوظائف في المدن الرئيسية، مشيرا إلى أن غرفة الرياض تسعى لتعزيز الجانب الاقتصادي والاستثماري في المحافظات التابعة للعاصمة، عدا عن إعداد دراسة حول الفرص الاستثمارية بهذه المحافظات والتي يتم العمل على تسويقها.

وأضاف: «يرتبط اتساع المدن بعوامل كثيرة من ضمنها الكثافة السكانية كونها أحد مظاهر نشأة المدن والتي تكتمل مع توفر الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية والاقتصادية النشطة، عدا عن وجود مدن تنمو بشكل سريع يجعلها تصل إلى المحافظات القريبة منها».

وذكر أن عملية التحول من المدن الصغيرة إلى الكبيرة تحتاج لبنى تحتية تسهم في بقاء السكان بمدنهم، إلى جانب المشاريع الكبيرة التي عادة ما تخلق المدن، متوقعا أن مشاريع المدن الاقتصادية والصناعية التي تم إقرارها ستساعد بشكل مهم في نمو المحافظات القريبة منها.

وأبان رئيس لجنة الفروع وعضو مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية في الرياض أن إنشاء الجامعات في المحافظات أسهم في تقليص الهجرة إلى المدن الرئيسية، إلا أنه من الضروري على تلك الجامعات خلق فرص عمل عن طريق مراكز الدراسات والأبحاث التابعة لها، وذلك من خلال المساهمة في تعزيز الجانب البحثي الاقتصادي وخلق مشاريع اقتصادية يقوم بها القطاع الخاص لتوفير فرص عمل لخريجيها.

وزاد: «ترتبط قضية الهجرة العكسية بمدى النمو والتطور الخدمي الذي يحدث في تلك المحافظات، وقد تكون تلك الهجرة حاليا من المدن الكبرى إلى غيرها موجودة، غير أنها ما زالت قليلة جدا، إضافة إلى أنها قد تكون مقتصرة على بعض المتقاعدين الذين يفضلون العيش في مدنهم التي قدموا منها».

وبيّن الحمادي أن محافظات منطقة الرياض شهدت نموا كبيرا وتقدما في خدماتها، الأمر الذي سيكون له تأثيره المباشر على الهجرة العكسية بعد اكتمال المشاريع التنموية التي تشهدها حاليا.

المدن البديلة

* فيما أوضحت الدكتورة أمل شيرة مديرة إدارة الموارد البشرية في إحدى الشركات الخاصة أن خطط التنمية في المدن الرئيسية لم تكن واضحة للجميع، عدا عن دور المؤسسات التعليمية في شرحها وتوزيع الاحتياجات الوظيفية للأفراد.

وقالت شيرة لـ«الشرق الأوسط»: «من المفترض أن تعمل كل من وزارتي التخطيط والاقتصاد والعمل معا، إلى جانب وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي بهدف تقديم خطط متكاملة»، لافتة إلى ضرورة توفير المدن البديلة للخدمات في ظل غياب التعاون بين الأطراف المعنية بخطط التنمية وتغييب المواطن عنها.

وأشارت إلى ضرورة الابتعاد عن تكديس الفرص الوظيفية في العواصم والمدن الرئيسية، لا سيما أن الكل يسعى نحو بناء وطن كامل، والذي لا يتحقق إلا بسحب ذلك التكدس والتفكير في المدن الصناعية مع مراعاة الخدمات المقدمة بها، مبينة أن ضعف الهجرة إلى المدن الرئيسية يعد وضعا صحيا باعتبار أن خدمات هذه المدن لن تغطي احتياجات السكان.

وأضافت: «تعد الهجرة العكسية إلى مدن بديلة أمرا سليما، غير أنه من الضروري مراعاة المدن الاقتصادية وغيرها لتوفير بنى تحتية من شأنها أن تعمل على جذب الناس لها والابتعاد عن المدن الرئيسية، ومن ثم ضمان انتشار السكان في أرجاء الوطن».

ولفتت مديرة إدارة الموارد البشرية إلى أن المدن الاقتصادية لم تثبت حتى الآن جدواها في اجتذاب الباحثين عن العمل نتيجة عدم اكتمال البنى التحتية لها، مطالبة بضرورة توفير المباني السكنية بها والمدارس والمنشآت الخدمية التي تستدعي ترك المدن الرئيسية والعيش بها.

وذكرت أن الحاجة تستدعي وجود فريق عمل متكامل وتخطيط كامل من قبل جميع الجهات المعنية والوزارات، عدا عن تجهيز المدن البديلة بشكل صحيح، مشددة على ضرورة تعاون وزارتي التعليم العالي والعمل من أجل وضع خطط متكاملة وتحقيق التوازن بين مخرجات التعليم والفرص الوظيفية.

وبحسب دراسات اجتماعية، فإن الهجرة من المدن الصغيرة والقرى إلى المدن تحدث بعض المتغيرات، مثل ظهور بعض المشكلات الاجتماعية والظواهر السلبية والأمراض النفسية، والتي أثرت بشكل مباشر على المواطن السعودي، فهجرة المواطنين إلى المدينة ظاهرة لا يمكن النظر إليها على أنها عملية اعتباطية تمت بمحض الصدفة، بل هي نتيجة لعوامل معينة تفاعلت فيما بينها، مما نتج عن ذلك وجود مدن متمايزة في كثير من المشاريع التنموية ومدن صغيرة وقرى أهملت أو تأخرت في عملية التنمية.

وأكدت الدراسات أن الهجرة إلى المدن الرئيسة في المملكة تمت بصورة واسعة وبحجم كبير بين عامي 1394 - 1413هـ، فيما كانت الهجرة في السابق مقتصرة على عدد قليل، بحيث تمركز السكان في مدن معينة مثل مدينة الرياض وجدة ومكة، فبقياس نسبة سكان كل مدينة لإجمالي سكان منطقتها يتضح وجود تباين كبير بين مناطق المملكة في درجة تركز السكان في مراكزها، فمدينة الرياض استقطبت وحدها 72.39 في المائة من سكان منطقتها عام 1413هـ، وترتفع درجة تركز السكان إلى أكثر من 50 في المائة في أغلب المدن، حتى أصبحت مدينة مكة المكرمة تشكل ثالث أكبر تجمع سكاني في البلاد.

3 عقود من الهجرة

* وفيما كان عدد سكان الرياض عام 1394هـ 650 ألف نسمة، تضاعف العدد إلى 500 في المائة وأصبح في عام 1427هـ 3.5 مليون، أي إن حجم الزيادة العددية المضافة لسكان مدينة الرياض أصبحت أكثر من 2.8 مليون نسمة، بينما كان تعداد سكان مكة المكرمة 1.7 مليون نسمة، لكنه تضاعف 350 في المائة في عام 1427هـ، وأصبح 5.7 مليون نسمة، وهذه الهجرة التي شهدها المجتمع السعودي، والتي اتصفت بالعشوائية وعدم التنظيم خلال الثلاثين عاما الماضية، أحدثت كثيرا من التغيرات والضغوط النفسية، مما أظهر مؤشرات الفقر والبطالة في منطقة جغرافية معينة، حيث كانت الخدمات مخصصة لعدد محدود، مما تسبب في وجود الفقر الحضري، وهذه المتغيرات أثرت في الأبنية الاجتماعية في المجتمع، مما أدى إلى انعكاس لتحولات سلوكية مختلفة، سواء أكانت اجتماعية أو نفسية أو اقتصادية، تسهم في التأثير بشكل مباشر وغير مباشر على سلوكيات الناس وأفكارهم وشخصياتهم وتطور أنساق المجتمع المختلفة.

وما إن تأخذ الهجرة العكسية في الزيادة حتى تصبح لها أبعاد اجتماعية تتمثل في تعزيز العلاقات الاجتماعية التي اختفت في المدن الكبرى نظرا لانشغال الفرد في حياته اليومية وتباعد المكان والزمان، وارتفاع مستوى الطموح، وذلك بإتاحة تكافؤ الفرص في المدن الصغيرة، والهجرة، نظرا لنشأة الفرص فيها فتعتبر مناطق بكرا يمكن التجديد فيها، والانفتاح وزيادة الميل للتجديد نظرا لثورة الاتصالات والعولمة، ومن فوائد هذه الهجرة أنها إيجابية في استيراد الأفكار الجديدة واستجابة سكان هذه المدن والقرى لها.

كما تشمل الأبعاد الاجتماعية التي تحدثها الهجرة العكسية اتساع نظرة المواطنين في المدن الصغيرة والقرى إلى المهاجر إليها وتقبله للعمل على تطوير المراكز الحضارية فيها، وقوة تأثير أساليب الضبط الاجتماعي في المدن الصغيرة والقرى على المواطنين، والتي تتحكم في تصرفات الأفراد بحيث تنجح في السيطرة على التصرفات والأفعال غير المرغوب فيها، وزيادة العلاقات الإيجابية التي تدور في المحيط الداخلي للأسرة، فكلما ازدادت هذه العلاقات ازداد التماسك الأسري الاجتماعي بين الأفراد داخل الأسرة الواحدة، والتي تنعكس على الأفراد الآخرين، إلى جانب انخفاض نسبة ذوي الدخل المحدود في المدن الرئيسة، إلى جانب انخفاض معدلات البطالة، وانخفاض معدلات الجريمة في المدن الكبيرة.

نمط الحياة

* ويرى بعض المتخصصين في المجال الاجتماعي، أن البناء الاجتماعي في المجتمع السعودي بات أكثر مرونة وانجذابا، إلا أنه تسبب في تغير نمط الحياة، وزاد حدة التباين الاجتماعي، وارتفعت شدة ودرجة الصراع بين الأفراد، وأصبحت العلاقة المادية هي المحرك الأساس الذي يحكم العلاقات الاجتماعية، حيث انتشرت النفعية والعزلة الاجتماعية، فالمهاجر إلى المدينة قام بالتركز في أحياء معينة داخل المدن وفي أطرافها، الأمر الذي نشأ عنه ما يطلق عليه في الدراسات الاجتماعية والنفسية بظاهرة «العزلة الاجتماعية»، وهي لجوء مجموعة من الأفراد تشترك مع بعضها في الموطن الأصلي أو الخلفية القبلية إلى السكن في حي أو أحياء معينة داخل المدينة، بحيث تشكل هذه المجموعة الأغلبية بين سكان تلك الأحياء، وهي تنشأ بسبب عدم تجانس السكان داخل المدينة، كما نتج عن هجرة المواطنين إلى المدن الكبرى بعض الأمراض النفسية والمشكلات الاجتماعية، نتيجة امتلاء المدن الكبرى بأعداد كبيرة من البشر تفوق الطاقة الاستيعابية للمدن وتتجاوز خدماتها العامة من التعليم، والصحة، والسكن، وفرص العمل، مما يزيد معدل الجريمة، كما تدفع حياة المدينة بالصورة التي نراها الفرد إلى الإحساس بالغربة والعزلة، ومن ثم تصدر بعض السلوكيات غير المرغوب فيها.

وترتبط الهجرة بحسب اختصاصيين اجتماعيين بانتشار الفقر واتساع طبقة «ذوي الدخل المحدود» لعدم استطاعتها مواكبة الحياة المدنية وارتفاع تكاليف الخدمات بسبب ازدحام الطلب عليها، مما نتج عن ذلك إحباطهم وتركزهم في مناطق شعبية رخيصة تعاني من مشكلات اجتماعية، فالفقراء لا يفكرون في المستقبل، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة في المدن، وعدم تكافؤ الفرص بين المواطنين في المدينة نظرا لوجود أعداد كبيرة منهم.

ويأتي ارتفاع معدلات الجريمة في المدن الكبيرة، استجابة للهجرة المتزايدة وغير المنظمة من القرى والمدن الصغيرة، إذ يلاحظ زيادة المعدل السنوي للحوادث الجنائية في المدن الرئيسة بشكل لافت من سنة إلى أخرى، وهي في تصاعد مستمر ينذر بخطر كبير.

وهنا تتطلب الحاجة إعادة تأهيل وزيادة معدلات التنمية في المدن الصغيرة والقرى ليتم تحقيق هجرة عكسية من المدن الكبيرة، وهذا بالفعل ما قامت به الحكومة بعد الدراسات والبحوث التي شخصت فيه الوضع الراهن ومن ثم وضعت استراتيجية تنموية، حيث أدركت أهمية المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية لإعادة الهجرة إلى المدن الصغيرة، فقد أقامت المشاريع التنموية والجامعات والكليات والمعاهد العليا التقنية في المناطق التي تركها المواطنون.

تضييق فجوة التنمية

* وجاء في الخطة التنموية الثامنة التي نشرت بنودها على موقع وزارة الاقتصاد والتخطيط الإلكتروني، أن الهدف الثامن للخطة ينص على تحقيق التنمية المتوازنة بين مناطق السعودية وتضييق الفجوة التنموية فيما بينها، وتؤكد توجهات الخطة أن تحقيق التنمية المتوازنة بين المناطق لا يتطلب توفير التجهيزات الأساسية والخدمات فحسب، بل يحتاج أيضا وبشكل متزامن إلى بناء قاعدة إنتاجية تستند بشكل أساسي إلى المعطيات الذاتية للمنطقة ومقومات التنموية، وإلى استراتيجية وطنية تهدف إلى تقليل التباين بين المناطق من خلال تحفيز الاستثمارات الخاصة على التوطين بالمناطق الأقل نموا.

وتشهد مدة الخطة استمرارا في توسعة الشبكة الوطنية للطاقة من الغاز الطبيعي والنفط والكهرباء لتوفير الوقود واللقيم والطاقة والكهربائية لمحاور التنمية الجديدة، وكذلك توسعة شبكة الخطوط الحديدية التي ستتيح في المدى المتوسط ربط المناطق التعدينية في شمال المملكة بالمنطقة الشرقية مرورا بوسط المملكة بغربها، كما تشهد هذه المدة البدء في تطوير المواقع السياحية التي حددتها الاستراتيجية بعيدة المدى للسياحة بما يزيد على 10 مواقع طبيعية أو تاريخية أو ثقافية يتوقع استغلالها سياحيا خلال العقدين المقبلين.

وتولي الخطة أهمية خاصة للتنمية الحضرية وتنمية المناطق من خلال توجهاتها نحو مواجهة المشكلات التي يثيرها التوسع الحضري والتركز في المدن الرئيسية، والتي تؤدي على المدى البعيد إلى تدهور البيئة الحضرية وتزايد نزوح السكان من المناطق الأقل نموا، وما ينطوي عليه من تكاليف اجتماعية وبشرية، وذلك بإنشاء محاور تنمية اقتصادية جديدة في مناطق المملكة، مع الاستفادة القصوى من ميزات الموقع المرتبطة بتنمية الخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية الموجهة نحو الأسواق المحلية والإقليمية فضلا عن تنمية مواقع جذب سياحية.

وفي سياق تطبيق مزيد من اللامركزية الإدارية يتوقع أن تستمر خلال عملية تفويض الصلاحيات للإدارات المحلية في المناطق، تمشيا مع التوجهات نحو تعزيز مشاركتها في العملية التنموية، حيث أشارت الخطة في هذا الصدد إلى التطور البارز المتمثل في قرار اعتماد منهج الانتخاب في اختيار نصف أعضاء المجالس البلدية، وهو ما يعد خطة مهمة نحو تعزيز دور الإدارات المحلية.

أهداف استراتيجية المناطق

* وثمة جانب مهم توليه خطة التنمية الثامنة اهتماما خاصا، وهو المتعلق بمسألة توفير البيانات والمعلومات التفصيلية حول جميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في مناطق المملكة، نظرا لأهمية ذلك في إعداد الاستراتيجيات والخطط لتنمية المناطق. وترمي استراتيجية تنمية المناطق خلال مدة الخطة إلى تحقيق 4 أهداف عامة رئيسية هي: تخفيض التباين في الأوضاع المعيشية ومستويات النشاط الاقتصادي بين مناطق البلاد، في إطار تنمية إقليمية متوازنة، وتوفير التجهيزات الأساسية والخدمات العامة لجميع المناطق مع الاهتمام بالتجمعات السكانية الصغيرة، وإنشاء محاور تنمية اقتصادية جديدة بعيدا عن المدن الرئيسية، والتحول التدريجي نحو اللامركزية الإدارية وتعزيز دور الإدارة الإقليمية والمحلية.

وحتى يمكن تقليل التباينات في مستويات المعيشة بين المناطق في المملكة، يتم التركيز على تبني سياسات وبرامج ومشروعات تغطي جميع المناطق تساعد في توفير فرص عمل للمواطنين على نطاق المملكة، كما يتم الاهتمام برفع مستويات السكن بالنسبة للأسر الفقيرة والتوسع في حملات مكافحة الأمية وبخاصة في المناطق ذات معدلات الأمية المرتفعة وذلك من منطلق أهمية التعليم في مكافحة الفقر.