المطلق فقيه حنبلي يقدم الفتاوى الدينية بنكهته الاجتماعية وحسه الفكاهي الفطري

يرقد على السرير الأبيض فغاب عن المشاهدين.. وترك فراغا لا ينكر

الشيخ عبد الله المطلق
TT

افتقد المشاهدون على مدى الأسابيع الماضية طلة الشيخ عبد الله المطلق، عضو هيئة كبار العلماء ومستشار الديوان الملكي، في برنامجه الأسبوعي على القناة السعودية الأولى، الذي لطالما حمل وسمه الخاص بفتواه الدينية المغموسة بنكهته الاجتماعية وحسه الفكاهي الفطري، إثر النوبة القلبية التي ألمت به وتطلبت التدخل الجراحي السريع.

واعتاد مشاهدو القناة السعودية الأولى على أسلوب المطلق، الذي ظل يقاوم رياح الحداثة العاتية وبريق النجومية الذي سبح في بحره كثير من الدعاة، فلم يتوقف عن عاميته الشعبية وبلكنة «الأفلاج» لناحية «الأنقياء البسطاء»، في الرد على استفتاءات متابعيه، بصورة بسيطة بعيدة عن التكلف، بحيث يكاد يخيل للمشاهد بأن الاستوديو التلفزيوني أحد مكونات منزل الشيخ.

ويأتي المطلق امتدادا لنخبة من العلماء والقضاة والفلكيين الذين أنجبتهم مدينة الأفلاج أو مدينة «العيون» و«الحب العذري» كما يحلو للبعض أن يطلق عليها حيث اختيرت «ليلى» عاصمة لها تخليدا لذكرى ليلى العامرية، التي عاشت وترعرعت في منطقة «الأفلاج» مع مجنونها قيس بن الملوح، التي امتاز علماؤها بسعة الأفق ودماثة الخلق والتصالح مع الحكم السياسي.

وخرج المطلق من بيئة تركت علماء مشهورين أمثال الشيخ دخيل الكثيري، والشيخ ناصر الشثري، والشيخ حمد بن عتيق، وغيرهم كثير، نقشوا أثرا فقهيا واجتماعيا وضربوا مثالا للتدين والتسامح للأفلاجيين والمناطق السعودية الأخرى.

ومع أن الشيخ أصبح على مشارف الستين من عمره إلا أن صولاته وجولاته لم تنتهِ في ساحة الفتوى والإفتاء، وبالأخص عقب بصماته الهامة التي ما فتئ يسجلها مع شيخه عبد الله المنيع في «المصرفية الإسلامية».

فالشيخان المطلق والمنيع خاضا حربا ضروسا معا رغم الأسبقية للأخير، في مرحلة مبكرة ضد جبهتين متناقضتين، الأولى ربوية، لا تؤمن بإمكانية بناء مصرفية على أسس إسلامية، من دون التأثير على المكاسب والعوائد، والأخرى جبهة إسلامية، تشكك أيضا في جدوى المحاولة، أو لا تؤمن أصلا بالنظام المصرفي الحديث برمته، وتزعم استحالة تكييفه مع قواعد الشريعة الإسلامية.

وعلى الرغم من ضراوة المعركة المصرفية التي ما زالت رحاها تدور حتى الساعة، فإنها لم تكن آخر معاركه التي ما فتئت تنطلق مع بداية أول شرارة لفتوى جديدة، منها توسعة مسعى الحرم المكي، والاعتماد على رؤية هلال رمضان بالعين المجردة، ورفضه للحساب في حال توافر الأولى، بالإضافة إلى فتواه الخاصة في الزواج بنية الطلاق للطلاب المبتعثين وللأقليات المسلمة المقيمة في الغرب التي صححها بعد ذلك.

ولم تسجل الساحة الدينية على المطلق أيا من الصراعات والسجالات مع مختلف التيارات الفكرية المعاصرة، مركزا جهوده على الاقتصاد الإسلامي واهتمامه بتأهيل القضاة، رغم خروجه في أوقات كثيرة بآراء جريئة معاكسة حينها للتيار السائد، اعتمد عقبها عدد كبير من الدعاة نهجه.

إلا أنه رغم ذلك اكتسب المطلق مناوئين حتى من التيار ذاته في ظل معارضته الشديدة للصحوة ورجالاتها منذ بزوغ فجرها، متحفظا على منهج الانفعال والاجتهاد في غير محله من قبل أصحابها كما يرى، التي كانت أساس إشكاله مع الصحوة، إلى جانب جرأته في بعض فتواه، منها عدم رؤيته بوجوب عباءة الرأس، مؤكدا أن لكل زمان ظروفه، رافضا في الوقت ذاته فوضى الفتوى من أئمة المساجد ومشايخ الساحات الفضائية التي صعب ضبطها، معتبرا أي فتوى من غير هيئة كبار العلماء «فيها نظر».

ومع الرايات البيضاء التي نبتت في ساحات التلميذ ومناوئيه، بقي المطلق محافظا على موقفه المتشدد من الصحافة والإعلاميين، الذي كثيرا ما لخص موقفه بمجرد لقائه مع إعلامي أو إعلامية «نحونا ولا علينا»، الإجابة الأوحد لأي سؤال صحافي آملا في كثير من الأحيان بدعاء خفيف بـ«كف شر الإعلام عنه»، على عكس منهج المنيع أستاذه ورفيق دربه الذي زاحمت مشاركاته ولقاءاته الإعلامية الصحف السعودية أجمع.

ومع التباين الشديد ما بين الشيخ وتلميذه إلا أنه يكفي القول بأنه تلميذ بار جدا للشيخ المنيع، بل ظهر في مسألة المصرفية أخا ووزيرا عضيدا، فلا تكاد تجد هيئة يترأسها المنيع إلا وجدت المطلق عضوا فيها، كما يندر أن يطلق أحد الشيخين رأيا ثم يتوانى الآخر في الدفاع عنه بصلابة وقناعة.

تلك الروح الجميلة بين الشيخين الجليلين، وإن ظلت مثيرة للانتباه، وجمعتهما حتى في الديوان الملكي مؤخرا، إلا أنها لم تمنع كلا منهما أن يحتفظ بنكهته الخاصة. فالمطلق الذي نبغ مبكرا شاعرا ومتفوقا، ظل مستمسكا بدماثة خلق أهل الأفلاج ونكتتهم، فما كان أحد يحسن مثله في الإجابة عن تساؤلات المستفتين، وتقريب مسائل العلم إليهم في ظرف وتودد وزعه بسخاء على الجميع.

ومن بين تلك الفتاوى التي تميزت بسرعة بديهة الشيخ بالردود التي لا تخلو من الفكاهة برده على أحد المستفتين هل يجوز يا الشيخ الأضحية بالبطريق؟ رد عليه «إن لقيته!».

ويروى، ما إن عرف مشاهدوه شغفه بالفكاهة حتى أمطروه بوابل منها أثناء رحلته الدعوية إلى إندونيسيا التي صادفت شهر رسائل الجوال المجانية المشهور سعوديا (ديسمبر 2009 خدمة مجانية من الاتصالات السعودية لعملائها...)، حتى أخذ الشيخ المطلق لا يتردد في تلاوتها على «علاتها» في مجالسه الخاصة ساعة تغيب عن الجميع العباءة الدينية في ظل وجود خاصة الخاصة.

لم تكن الفتوى بنكهة «المطلق» التي باتت تعد كماركة تجارية يصعب تقليدها، هي فقط ما برع فيه، وإنما كان له أيضا في تفسير الأحلام والمنامات خطى واثقة إلا أنها بعيدة عن شاشات التلفزيون واكتسب من خلالها جماهيرية كبيرة بالأخص من قبل النسوة والفتيات.

ويعتبر المطلق «ملَكة» تفسير المنامات التي بدأت معه منذ زمن طويل، أمرا وراثيا في عائلة «المطلق الأفلاجية» فقد اكتسبها عن أبيه عن جده، كما لأخيه الشيخ خلف المطلق باع أيضا في تفسير وتعطير المنام.

ويبقى منعطف تعيينه مؤخرا مستشارا لدى الديوان الملكي مع شيخه المنيع ورفيقه الشيخ عبد المحسن العبيكان إشهارا رسميا لنهجهم المتسامح العصراني الذي أتى منسجما مع نهج الانفتاح الديني المزمع توطيده عبر مؤسسات الدولة المختلفة.

ومع أن المشايخ الثلاثة تجمع بينهم وشائج كثيرة مثل الدين والعلم والوطن، إلا أن القاسم الأكثر بينهما، هو ما أفاء الله عليهم جميعا من «بسطة في العلم والجرأة».

سيرته

* الشيخ عبد الله المطلق، من فخذ الغييثات من قبيلة الدواسر، هو أستاذ الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وهو داعية سعودي، وعضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية، ومن مواليد مدينة الأفلاج في تاريخ 1374هـ.

تخرج من جامعة الإمام محمد بن سعود من مرحلة الدكتوراه عام 1404هـ، من قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء، عمل باحثا بوزارة العدل، ثم محاضرا في المعهد العالي للدعوى الإسلامية بالرياض، ثم وكيلا للمعهد العالي للقضاء، ثم رئيسا لقسم الدعوى والاحتساب بكلية الدعوى والإعلام، ثم رئيسا للفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء، ثم عضوا في اللجنة الدائمة للإفتاء، وعضوا بهيئة كبار العلماء، ومستشارا في الديوان الملكي ولا يزال على رأس العمل.