العمل التطوعي.. صحوة جيل سعودي يرفض التثاؤب

منخرطون في العمل التطوعي لـ«الشرق الأوسط»: متفائلون بنجاح التجربة.. ونطالب بسن أنظمة حكومية

الأنشطة التطوعية صحوة جديدة تنتظم أوساط المجتمع السعودي («الشرق الأوسط»)
TT

بماذا يهتم الشباب في السعودية؟ سؤال لو تم طرحه قبل سنوات من الآن لكانت الإجابة ملخصا لصورة نمطية عن جيل اتكالي وكسول وغير مبال تحضر فيها عناصر الأسواق والسيارات والألعاب الإلكترونية والبطالة كعناصر رئيسية. ولو طرح السؤال مرة أخرى في الوقت الحالي فإن المصرين على الإجابة السابقة لا يمكنهم تجاهل اهتمامات أخرى بدأت تحتل الجدول اليومي وقائمة الهوايات للشاب السعودي. وضمن هذه القائمة تحضر الأنشطة الاجتماعية التطوعية كصحوة جديدة في المجتمع السعودي وقودها ومحركها الشباب.

جهود بدأت قبل سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، لم تجد الاهتمام الرسمي الكافي غير أنها تحولت في غضون سنوات إلى ميدان لتفريغ طاقات الشباب وشكل من أشكال التعبير عن وجودهم. واستطاعت أن تكرس وجودها عبر جملة من الأحداث المختلفة التي شهدتها السعودية خلال أقل من عام. ففي الخبر (شرق السعودية) التي تعرضت واجهتها البحرية إلى أعمال تكسير وتخريب في سبتمبر (أيلول) الماضي حضر الشباب المتطوعون لإصلاح ما فعله أبناء جيلهم وهو الأمر الذي دفع نائب أمير المنطقة الشرقية للاحتفاء بهم وقتها. وفي الجنوب السعودي حيث خاض الجيش السعودي حربا مع عصابات متسللة تابعة لحركة التمرد الحوثي في اليمن ساهم المتطوعون في أعمال إيواء وإغاثة آلاف النازحين الذين شردتهم الحرب. وفي جدة (غرب السعودية) كان المتطوعون الأسرع حضورا في مشهد إغاثة المتضررين من السيول التي اجتاحت شرق المدينة في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي. وفي الرياض التي شهدت عاصفة جوية شلت أطراف المدينة أكد المتطوعون حضورهم بحملة شارك فيها مئات الشبان في مايو (أيار) الماضي.

وفي الوقت الذي لا تتوافر فيه إحصاءات دقيقة حول أعداد المتطوعين في السعودية نظرا إلى الإقبال الذي تشهده المؤسسات التطوعية وعدم وجود غطاء واحد يجمعها، يقدر مهتمون بالمجال التطوعي وجود 8 آلاف مساهم في المؤسسات التطوعية في المنطقة الشرقية التي شهدت بداية وتنامي الظاهرة، وألف متطوع في العاصمة السعودية الرياض، وأرقام مقاربة في المنطقة الغربية.

وفي هذا التحقيق تناقش «الشرق الأوسط» مع مجموعة من المهتمين ورموز العمل التطوعي في السعودية ملامح العمل التطوعي للشباب ومستقبله والتحديات التي يواجهها.

نجيب الزامل، عضو مجلس الشورى والكاتب الصحافي والناشط الاجتماعي المعروف، يرى أن انخراط الشباب في الأعمال التطوعية جاء بعد أن كاد المجتمع يصدق مقولة مجحفة ترى أن الشباب السعودي اتكالي وكسول وعنصر غير فاعل في مجتمعه. إلا أنه يرى أن الظاهرة التطوعية جاءت لكسر هذه الصورة وأذهلت المراقبين بالقدرة العالية التي أبرزها مجموعة من الشباب السعودي في إدارة وتفعيل الفرق التطوعية ضمن مستوى عال من التنظيم والفاعلية مستشهدا بحادثتي جدة والرياض كمثال برع فيه المتطوعون في إدارة الكوارث على الرغم من أنها أحداث طارئة لم يعتد عليها السعوديون. ويقول الزامل الذي أسس نادي «أولاد وبنات الدمام» التطوعي وأشرف على تأسيس «أولاد وبنات الرياض» التطوعي، إن الفلسفة التطوعية لهذه الأندية تقوم على أن تفعل طاقات الشباب بحيث تكون شريانا يغذي المدينة ويلبي احتياجاتها المدنية، معبرا عن ذلك بقوله: «هؤلاء هم البلدية والمدرسة والمصلحة». ويرفض الزامل الاتهامات التي ترى أن العمل التطوعي ما زال فوضويا وقاصرا، مشبها هذه الاتهامات بأنها تميل إلى وضع العصا في العجلة. ويؤكد أن التجارب التي مرت بها المؤسسات المدنية التطوعية أثبتت قدرتها في التنظيم وشهدت للمتطوع السعودي بالتميز الإقليمي. مضيفا أن الأعمال التطوعية بدأت تميل إلى اتجاهات أكثر حرفية مثل الاهتمام بالتدريب وتأسيس حاضنات الأعمال التطوعية والتخصص في جوانب اجتماعية محددة. وحول الدور الحكومي المنتظر يقول الزامل إن المؤسسات الحكومية يجب أن تقدم الغطاء التنظيمي والدعم لهذه التجارب وسن القوانين التي تسهل إجراءات إنشاء منظمات تطوعية والحصول على تصاريح لأنشطتها وتلقي الدعم المادي.

ومن جانبه يرى الدكتور سالم الديني، المشرف على وحدة العمل التطوعي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وصاحب تجربة تطوعية في الولايات المتحدة الأميركية تجاوزت 10 سنوات من العمل الخيري، أن نمو وتبلور ظاهرة الأعمال التطوعية المنظمة والمؤسسية يأتي ثمرة موجة الانفتاح في المجتمع السعودي ومواكبة تجارب تم استقاؤها من المجتمعات الأخرى. ويقول الديني: «بدأ الشباب السعودي يعي دوره فيما يتعلق بالبذل والعطاء والعمل من أجل المجتمع»، مضيفا أن هذه المواكبة تتناغم مع الموروث الديني الذي يحث على فعل الأعمال الخيرية ومساعدة الناس. ويشير الديني إلى محرك مهم يدفع الشباب نحو الانخراط في الأعمال التطوعية وهو محاولة تحقيق الذات والحصول على القبول الاجتماعي التي تأتي ضمن احتياجات الإنسان التي يقررها هرم «ماسلو» للاحتياجات البشرية. ويرى الديني صاحب فكرة مهرجان اليوم التطوعي في الشرقية، أن هذه الصحوة الاجتماعية يجب أن يتم وضعها في قالب مؤسسي وتنظيمي يضمن لها الاستمرارية في مجالها وتكوين عمق معرفي وثقافي يدعم وجودها. ويذكر أن هذا يمكن أن يتم عبر زيادة الفرص التطوعية في المجتمع وتعدد أشكال التطوع وألا تبقى حبيسة الأعمال الإغاثية والتقليدية بحيث يجد جميع أفراد المجتمع فرصا تناسبهم. مؤكدا أن ثقافة العمل التطوعي ما زالت ضعيفة وليست ذات انتشار واسع، إضافة إلى وجود نقص في التنظيمات الإدارية للمؤسسات التطوعية. مشيرا إلى أن أهم تحد تواجهه هذه الأندية هو ضمان استمرارية العنصر المتطوع وإطالة العمر التطوعي له وهو ما لن يتحقق إلا عبر إدخال أبعاد معرفية جديدة للعمل وإيجاد مفهوم لإدارة المتطوعين.

ويخلص الديني إلى أن الجامعات وغيرها من المؤسسات التعليمية يجب أن تتبنى نشر ثقافة العمل التطوعي بين المنتسبين إليها، معللا ذلك بأنها المكان الذي تنشأ فيه القيادات ويتعلم الأفراد فيه مهارات الحياة. إضافة إلى تفعيل البحث العلمي لخدمة الجانب التطوعي بتوفير المعلومات حول احتياجات المجتمع لهذه الأعمال وقياس أثرها وتقييم تجاربها. وحول تقييمه للتجارب التطوعية القائمة يقول الديني: «لا نستطيع أن نحكم على التطوع من خلال المشاركات القائمة بل من خلال الأثر الذي يتولد عن هذه التجارب كمردود للمجتمع وكمردود مهاري وخبراتي عائد على الفرد المتطوع وكمردود اقتصادي على البلد».

ويجيب الديني عن سؤال حول استمرارية التطوع بقوله: «التزام المتطوع بالتجربة التطوعية يتم إذا أصبح مشمولا بالمنظومة القيمية لهذا العمل ويحمل عمقا في ثقافته التطوعية إضافة إلى وجود المرونة في أداء العمل التطوعي والمحفزات وتوافر الفرص التي تناسب شخصية المتطوع».

ويؤكد الديني أن ثمة دورا منتظرا من المؤسسة الحكومية يتلخص في سن نظام للعمل التطوعي المؤسسي ووضع هيئة عليا تجمع الأنشطة التطوعية وضمان حقوق المتطوعين وحمايتهم من الاستغلال وتسهيل إجراءات إنشاء الأندية التطوعية.

وإذا كان الحديث الذي سبق ينبع من وجهة تنظيرية وأكاديمية لرموز العمل التطوعي، فالشباب الرائدون في هذه التجربة يحملون تصورات متباينة من داخل الميدان التطوعي.

وفي هذا الصدد يشير الناشط الاجتماعي في المنطقة الشرقية، عمر عثمان، إلى أن التجربة التطوعية ما زالت غضة وفي بداياتها حيث لم يتجاوز عمرها ثلاث سنوات وهي ما زالت تحبو ضمن جو يتسم بالفوضى وغياب الرؤية والنضج. مضيفا أن التجربة تجد صداها حاليا لدى الفئات العمرية من سن 15 إلى 30 عاما وتستهوي فئات مختلفة من الشباب حيث بات من الممكن أن ترى في الميدان وجوها غير تلك التي تألفها في العمل الدعوي والنشاطات المدرسية والجامعية، معللا الأمر بأن للعمل التطوعي جاذبية خاصة تكمن في إنسانيته وملامسته للفطرة. ويعترف عثمان بفضل التقنية في الإسراع من وتيرة انتشار الأفكار التطوعية حيث تشكل الشبكات الاجتماعية على الإنترنت مناخا خصبا لتوالد هذه الأفكار وجذب المتطوعين إليها وتحويلها من المقاعد الافتراضية إلى الواقع المجتمعي مباشرة.

ويجيب عثمان عن سؤال حول نضج وتخصصية الأعمال التطوعية بقوله: «هناك بعض الفرق الناضجة نتيجة نضوج أفرادها الذين يملكون خبرات سابقة أو مهارات مكنتهم من التقدم بشكل سريع، هذه المجموعات استطاعت أن تنتقل من الدور الفوضوي إلى الدور التخصصي الذي يركز على المشاركة المجتمعية التكاملية التي تسد احتياجا أو تطور جانبا مهما في المجتمع». ويعبر عثمان عن تفاؤله بقدرة الأعمال التطوعية على الاستمرارية والتطور حيث يقول: «على الرغم من عدم توافر الرعاية الرسمية والبيئة المنظمة للعمل التطوعي فإننا نشاهد مشاركة وتطورا متسارعا لوتيرته، وهو الأمر الذي يبشر بمستوى أفضل لو وجدت التنظيمات والدعم الذي يرعى هذه الجهود».

ويشدد عثمان على أن الواقع التطوعي المحلي يجب عليه الاستعانة بالخبرات العالمية في هذا المجال من أجل تطوير وتأهيل المتطوعين حيث يواجه هؤلاء المتطوعون تحديا يتعلق بنقص الخبرة وندرة المتخصصين. إضافة إلى توسيع الاهتمام والفرص التي يطرحها التطوع لسد الاحتياجات المتنوعة داخل المجتمع إلى جانب التنسيق بين المتطوعين للاستفادة من توزيع القوى الموجودة على المساحات الفارغة في خريطة النشاط الاجتماعي السعودي.

سؤال حول استمرارية التجربة التطوعية يجيب عنه محمد المطيري المشرف على نادي «أولاد وبنات الرياض» التطوعي بقوله: «ضمان الاستمرارية يتحقق حين يشعر كل فرد بأهميته ودوره في التغيير من الواقع المحيط، إضافة إلى إدراك أن التطوع هو أسلوب حياة وأن العمل الطوعي ليس مشروعا ولا موضة وإنما هو فلسفة يعيشها الإنسان في كل لحظة من حياته، وهو الأمر الذي سوف يلغي هاجس الخوف من انقطاع العمل التطوعي».

وفي رده على سؤال حول تخصصية الأعمال التطوعية وتبلورها يستشهد المطيري بتجربة «أولاد وبنات الرياض» في أزمة أمطار الرياض التي شهدتها العاصمة السعودية مطلع الشهر الماضي، حيث يرى أن العمل يجذب إليه المتخصصين بمجرد بداياته على أرض الواقع. ويقول المطيري: «انضم إلينا في حملة (جسد واحد) التي أتت استجابة لأزمة أمطار الرياض أطباء وإداريون ومهندسون ونماذج لم نكن نحلم يوما بمشاركتها في التجارب التطوعية».

وفي إجابة عن سؤال حول توفير الدعم المادي يلفت المطيري إلى فلسفة فريقه التطوعي في هذا الجانب التي تتم بالعمل على توفير الرعاية عبر توفير الجهة الراغبة في دعم تكاليف المشروع كاملة مقابل التعهد لهذه الجهات بالدعاية والإعلان لها في جميع المواقع التي يشملها المشروع التطوعي، وهو الأمر الذي حل إشكالية الدعم وأوجد جهات متعددة ترغب في دعم المشاريع التطوعية.

ولم تقتصر التجربة التطوعية في السعودية على الذكور وحدهم، بل كان للحضور النسائي دوره الذي تعدى الهامش إلى المشاركة بندية، حيث تقول الناشطة الاجتماعية في المنطقة الشرقية داليا بادغيش: «70 في المائة من القوة التطوعية في العالم من النساء والمرأة تميزت في هذا المجال لأنها تتحرك بصفة العاطفة الإنسانية التي هي سمة التطوع».

وحول مساحات العمل التطوعي المتاحة للمرأة في السعودية تشير بادغيش إلى نتائج دراسة قامت بها لواقع العمل التطوعي في السعودية كشفت عن وجود نساء أرامل يكفلن ما يفوق 400 عائلة، ونساء يتطوعن للمطالبة بحقوق المطلقات في مجتمعهم، وطالبات يشاركن في حملات توعوية في مجال الطب، وفتيات يساهمن في الترفيه عن الأيتام، ومؤسسات خيرية نسائية تقوم بالعمل على الرقي بفكر الفقراء في الأحياء بدلا من التوجه إلى توفير الصدقات لهم، إضافة إلى قائمة أطول تكشف عن مجالات لا محدودة للمشاركة النسائية التطوعية. وترى بادغيش أن نقل مستوى التجربة إلى جانب احترافي أكبر يتم بالتخصص والتقييم المستمر للنتائج والبحث عن أساليب جديدة للحملات التوعوية والتنموية وتطوير الكوادر التطوعية وإقامة ورش متخصصة باستمرار.