دبلوماسي هولندي عايش الملك المؤسس يكتب عن شخصيته وسياسته في بناء الدولة

رسم قبل 6 عقود صورة عن السعودية ومؤسسها واستشرف مستقبل البلاد * الملك عبد العزيز يفتح أبواب الجزيرة نحو العالم متصلا بالإسلام العالمي * تعامل مع البريطانيين سياسيا ومع الأميركيين اقتصاديا

الملك المؤسس وولي عهده الأمير سعود
TT

يعد كتاب الدكتور فان در مولين، الوزير المفوض لهولندا في السعودية، عن الملك عبد العزيز وجهوده المحلية والعربية والإسلامية العالمية في فترات توحيد الدولة وما بعدها واحدا من الكتب المهمة، حيث عايش المؤلف الملك المؤسس وأتيحت له فرصة مقابلته، كما أن الفترة الطويلة التي قضاها في السعودية جعلته يضع سيرة للملك، تناول فيها شخصيته وسياسته المتزنة، ودوره في بناء الدولة السعودية الحديثة، وجهوده في بسط الأمن ووحدة الصف وتطوير البلاد، وجعلها تتكيف مع الوسائل الحديثة، دون الإخلال بمبادئها أو منهجها، كما تناول الدبلوماسي الهولندي مواقف الملك عبد العزيز تجاه الكثير من القضايا على الساحات العربية والإسلامية والعالمية، وفي مقدمتها قضية فلسطين التي استأثرت باهتمام وعناية الملك.

واستشرف مؤلف الكتاب مستقبل البلاد التي وصفها بأنها بلد الدين والزيت، بعد أن اقترب الملك المؤسس من نهايته، وبعد أن رسم المؤلف صورة لرجل كبير ولتاريخ الجزيرة العربية.

يشدد المؤلف على أن هذا الكتاب ليس إطراء لبطل، بل هو محاولة لرسم صورة لرجل كبير ولتاريخ جزيرة العرب، وتاريخ الإسلام فيها، في ضوء منجزات هذا الرجل. لقد أسس ابن سعود مملكته البدوية في جزيرة العرب ببطولة تستوحي رومانسيتها من هذا البلد الصحراوي القديم، واستخدام إمكانيات محدودة غير متأثرة بالتقدم الحضاري في معارك التحرير، وإن كانت مستثمرة بصورة عبقرية في معارك التوحيد، لكنه بعد ذلك يبعد الحواجز المانعة عن معرفة ما لدى العالم المعاصر.

ويضيف المؤلف: «ويختم ابن سعود حقيقة تاريخية تنتهي معه، فلقد حصل على فرصته الأخيرة بأن أدرك الواقع في شيخوخته، حيث دخلت قوة النفط المحركات الحديثة بسرعة، وبدأ إشعاع التطور الحديث يدخل أجزاء الجزيرة، ولن يتوقف عند حدود دولة ابن سعود، وسيعبر الصحارى البعيدة، وتبدأ جزيرة العرب في الانسحاب من العربي القديم بمجده وجماله وفقره وشهامته وخوفه.. لننتظر قدوم جزيرة عرب جديدة»..

ويوضح المؤلف في تقديمه الكتاب أن جزيرة العرب دخلت مرحلة جديدة من تاريخها الطويل؛ فبعد أن ظلت بلا تقدم خلال عدة قرون، بدت فعلا جزيرة يحيطها عالم هائج، بينما هي لم تأخذ بعد بالتغيرات السريعة التي حدثت في العالم من حولها، ولا تريد أن تكون جزءا منه، وقد حمتها طبيعتها الجغرافية بحواجز كثيرة ضد دخول الأجانب، كما كان لسكانها مقاومة روحية ضد كل جديد وغير عربي، نتيجة لانعزال نظامهم القبلي وتمسكهم الواثق والفخور بدينهم، فاعتبروا أنفسهم، بوصفهم عربا ومسلمين، شعبا قدر له الله أن يكون جارا لبيته في مكة، واستحقوا بركاته باتباع الدعوة إلى الصراط المستقيم، وبذلك أعطوا هذا المعنى للعالم، وما زالوا يعطون هذا المعنى من جديد».

وبسبب الصخور البحرية أمام سواحل الجزيرة العربية، وصحاريها وحرارتها وفقرها، نشأت منعزلة عن العالم، وعن تطورات الأحداث الجادة المهمة، وكان هذا البلد غير معروف، ومغلقا أمام الغربي وغير المسلم من الشرق، وكان آخر البلدان التي لم تكتشف بعد.

حافظت جزيرة العرب على انعزالها الصارم، وحملت فقرها المادي في وعي ثروتها الروحية، ولم ترغب في أي شيء من خارجها، بل كان في استطاعتها تقديم شيء إلى هذا العالم الضال، وكانت الجزيرة صاحبة وحي الله الأخير والكامل، الذي أنزله الله بلسان العرب، وجعله مرتبطا بالوطن العربي إلى الأبد، فأصبحت هذه البلاد مكان الحج للمؤمنين، وبلد الخير، وألزم كل مسلم بالتوجه إليها أينما كان مكانه في العالم.

وعلى الرغم من ذلك، تعرف العالم تدريجيا على جزيرة العرب غير المعروفة، والفخورة والأبية، وهي لم تفتح أبوابها، ولكن بعض الناس دخلوها وبدأوا بكشف مواقع التاريخ، وبذلك عملوا على فتح الجزيرة للخارج، ولكن عملية الفتح الفعلي كانت مطلوبة أيضا من الجزيرة نفسها، واحتاج الشعب إلى رئيس يكسب ثقته، إلى رجل يحرره من فرقته وحروبه، رجل ذي شجاعة لكسر الحواجز المانعة من الاتصال بالخارج، وكان من المفروض أن يتطور هذا الرجل من رئيس بدوي ذي عادات بالية، إلى رئيس للمسلمين، تعتبر كلمته مهمة في العالم الإسلامي، وله مكانته بين رؤساء العالم.

حصلت جزيرة العرب على رئيسها لعصر جديد، وكان يحلم هو وشعبه بنهضة دينية داخل الوطن العربي تعيد المجد القديم والازدهار تلقائيا، ولكن الوضع لم يكن على ما يشتهي ويأمل.

إن الرجل الذي نتناول سيرته في هذه الكتاب إنسان كبير، ولد رئيسا بدويا، ولم تكن الرئاسة هدفه، ولكنه لفت نظر كثير من الناس، في كل العالم، إليه وإلى وطنه وإلى دينه، كيف يمكن تفسير ذلك، هل وجدت سمة استثنائية في العوامل الثلاثة: القائد ووطنه ودينه، إلى درجة أنها لفتت نظر العالم الذي كان منهمكا في همومه اللانهائية، ومحتكا بضوضاء متشائمة إلى ما حدث في جزيرة العرب؟ نعم. بدا أن ابن سعود رجل لا يولد مثيله إلا مرة واحدة فقط خلال عدة قرون، فهو من كبار الشخصيات، نظرا لما أنجزه في جزيرة العرب، حيث بنى بها مملكته الكبيرة (المملكة العربية السعودية). كذلك حقق بها إنجازه، بصفته رئيسا دينيا لشعبه على ضوء ما خطه أعظم العرب، رسول مكة، تحت دعوة الإصلاح، والعودة إلى مصدر الحقيقة والهدى الذي نشأ قبل 1300 عام في هذا البلد، كانت هذه السمة عاملا جديدا في عالمنا القديم، كان هذا التطور غير متوقع حتى في جزيرة العرب، وعادة تظهر الشخصيات الكبيرة في تاريخ العالم متى ما تغير هذا التاريخ أو بدأت فترة جديدة.

رجل كبير وبدوي يستحق الزعامة

* وفي مقابلة وصفها المؤلف بأنها كانت أكثر من استقبال رسمي، اختصر الدكتور فان در مولين، الوزير المفوض لهولندا في السعودية، انطباعاته عن هذا اللقاء، الذي تم في أول مارس (آذار) من عام 1926 مع الملك عبد العزيز عندما زار الملك جدة للمرة الثانية، وأتيحت للمندوبين الأجانب، الذين لم يحضروا دخول الملك الرسمي لمكة الفرصة لمقابلته، بقوله: تعامل في جدة مع مندوبي الدول الغربية والشرقية التي اهتمت بظروف الحجاز، نظرا لقيام مواطنيها المسلمين بالحج، وتابعت هذه الدول تجربة الدولة السعودية في المدن المقدسة بانتباه كبير، انتهت التجربة الأولى تحت ضربات الحملة العسكرية المصرية، بقيادة إبراهيم باشا، عام 1812، وكان السؤال المهم: هل ستستقر السيطرة السعودية على البلاد المقدسة؟

ويتوقف كثير من ذلك على زعيم الدولة السعودية؛ فمن كان ذلك البدوي من نجد الذي عرفناه خلفا لمحمد بن سعود، الرجل الذي سمعنا كثيرا عنه، وكنت متوترا في مقابلتنا الأولى له، التي سوف تتبعها مقابلات كثيرة موزعة على فترة تستمر 18 عاما.

زار الملك جدة للمرة الثانية أول مارس 1926، وحضرت باخرة باسم الحكومة البريطانية تشريفا لتوليه الملك على الجزء الجديد من دولته، وأتيحت للمندوبين الأجانب، الذين لم يحضروا دخول الملك الرسمي لمكة، الفرصة لمقابلته، وذهبت بوصفي مبعوثا هولنديا قادما مع زميلي السابق إلى المنزل الجميل لصديقنا محمد نصيف، حيث أقام ابن سعود بسبب عدم توفر قصر له، رأينا جلالته في المجلس الرئيسي، حيث أدخلنا سكرتيره للشؤون الخارجية، العراقي عبد الله الدملوجي، وكان الملك يتحدث مع حافظ وهبة، مستشاره المصري، الذي أصبح ممثله في لندن منذ عدة سنوات، تم تقديمنا إلى الملك ابن سعود مع تزكية ومجاملة بسبب معرفة المندوبين الهولنديين باللغة العربية.

قام من مقعده بجوار حائط المجلس، ونظر إلينا مبتسما، ودعانا إلى الجلوس، كل منا على جانب له، وأشار إلى مستشاريه أن اخرجوا من الصالة، وهناك بقينا وحدنا معه في المجلس الواسع والمرتفع، كان الملك يجلس مرتفعا عنا، وينظر إلينا بنظراته الجميلة، وبصوته الدافئ، وبحركة فمه إذا تكلم برفق، ولو كان تعلمي للعربية أفضل لاستطعت التمتع بجمله الجميلة الواضحة، وبحركات يديه، قال ابن سعود إنه خصص مدة كافية للمندوبين الهولنديين لإيضاح بعض الأمور المهمة، بحيث نتمكن من تبليغ حكومتنا بها.

«كذلك حكومتكم وشعبكم يعتقدون بأنني رجل قاس وخشن، إن حكايات تصرفاتي قد سبقتني بلا شك، زودكم أعدائي بمثل تلك الأخبار، تستحق ملكتكم أن تعرف الحقيقة عني، فعلا ضربت بشدة وعاقبت بقسوة، تغلبت على خصم سيئ بعون الله، سوف يعرف هذا البلد الأمان والاستقرار والعدل، عاقبت اللصوص والمذنبين بشدة، وليست هذه العقوبات قاسية، ولكنها رحيمة، إن شاء الله ليس من الضروري أن أعاقب لفترة طويلة لا هنا ولا في مكان آخر في مملكتي المديدة، قد سمع الناس في كل مكان عن عقوبتي لبني مالك، فهو عقاب للقبيلة كلها.. للسرقة المرتكبة في منطقتها، تعاقبون خفيفا وتحبسون المذنبين في مبان جميلة بعناية طيبة، هذا التصرف قاس، حيث إنكم مضطرون إلى مواصلة العقاب سنة بعد سنة، أعرف البدو وأعرف معالجتهم، هل هذا البلد ليس آمنا، هل تسرق فيها حتى الحاجة البسيطة؟

والله الناس هنا يعرفونني منذ مدة قصيرة فقط، ولكن أؤكد لكم أنه لن ترتكب سرقة ولا جريمة هنا في خلال الوقت القريب.

حدثوكم عن تعصب الوهابيين، يهمني أن تعرفوا الحقيقة عن إيماني وإيمان إخواني، أشهد بأن الله يستخدمني أداة في يده، ما دمت صالحا للاستخدام سوف يعطيني النجاح، ولا توجد قوة لتفادي النجاح، إذا أصبحت غير صالح للاستخدام فيرميني، ونقول الحمد لله».

يقطع جمله الطويلة وأفكاره الجدية بـ«نعم» أو «أنتم معي»؟ يصبح مضمون كلامه جديا أكثر فأكثر، ولكنه يبتسم عندما ينطق «نعم» برفق عفيف، يتكون الجزء الأخير لمحادثته الطويلة من جمل تبدأ بـ«أشهد أن» الخاصة به، كان يريد أن يوضح لنا أن كل ما يفعله يرجع إلى إيمانه، فليس هو المتعصب الذي تعرفنا عليه من الحكايات التي جاءت إلينا من نجد، ولكنه ابن سعود الذي ينظر خلف حدود بلده الصحراوي، الذي اتصل بالإسلام العالمي، ويدرك أنه سوف يستطيع أن يحكم أراضي الإسلام المقدسة، ويظن أنه قادر على ذلك، ويحتاج إلى التعبير عن أفكاره تجاه نفسه وتجاه الآخرين، كنا معجبين بجديته وحماسه، حتى ولو كان من الصعب علينا متابعة كلماته، وحيث إننا نملك إيماننا الذي يقترب من إيمانه، وفي الوقت نفسه يختلف عنه كثيرا، شعرنا بالتعاطف خلال هذه المقابلة مع إنسان يتكلم عن إيمانه كأغلى ثروة له، ويقدمه إلى الآخرين.

كانت هذه المقابلة أكثر من استقبال رسمي، وسمح لنا بالدخول في غرفة رجل كبير، لا يخاف من رأي الأجنبي الناقد الذي يفكر في الأمور بصورة مختلفة تماما، وتوقفنا بعد هذه المقابلة متحيرين أمام منزل محمد نصيف، ونظر بعضنا إلى بعض معترفين بأننا قابلنا رجلا كبيرا، واستفدنا من المقابلة، ونستطيع أن نتوقع كثيرا من هذا الملك البدوي لصالح الأراضي الإسلامية المقدسة، التي كانت تحت سيطرة سيئة لعدة قرون، وكذلك لصالح الحجاج الذين عانوا من تلك السيطرة السيئة، ومن المحتمل لعالم الإسلام كله الذي يأمل في منقذ حينئذ، وبالتأكيد لم يتوقعه من أخلاف السعوديين القادمين من نجد.

وفي آخر حياة الملك المؤسس، حيث كان يعاني من المرض والتعب، يصف المؤلف مقابلته مع الملك عبد العزيز بقوله: أتيحت لنا الفرصة أن نلتقي به مرة أخرى في الجزء القديم من قصره المربع، الذي بناه ليكون حصنا داخل الحوائط الطينية، له أكثر من 20 برجا للدفاع، يبعد بعض الكيلومترات عن الرياض، وبعد بضع سنوات أقنعه وزيره للشؤون المالية وأبناؤه بإنشاء قصر سكني حديث، مزود بمصاعد ومرافق غريبة أخرى، لكنه لا يزال يحكم في البيئة القديمة، وبالأسلوب القديم، وهناك السكرتير الذي قابلناه منذ سبع سنوات في هذا المكان، المستشار للشؤون الخارجية لم يتغير، ورجال الحراسة من نبلاء شعبه البدوي، وقد انخفض عدد السود الذين كانوا عبيدا للملك، يمكن أن نقول إن الحراس البدو كانوا ينظرون نظرة استهجان إلى الأجانب الذين سوف يشدون انتباه ملكهم، جلسوا كلهم القرفصاء يحملون الجراب المزين بالذهب والفضة، وفيه السيف الذي استخدم شعارا للدولة، ووقف عند مدخل صالة الاستقبالات بعض الضباط الذين يسلمون علينا بالطريقة العسكرية، ووقف بعض الشيوخ البدو هناك أيضا، ولكنهم لو سلموا علينا لسلموا بالطريقة الشرقية، وهم يكوِّنون الخلفية التقليدية للأماكن الخاصة باستقبالات الملك، مرتدين عباءاتهم البنية الجميلة ذات الحواشي الرقيقة المزينة بالخيوط الذهبية، وكان الملك يجلس على الجانب البعيد للصالة، ولم يقم الملك عندما اقتربنا منه ليسلم علينا، كما تعود أن يفعل، وينهض معه كل البدو الحاضرين، إذ بقي الملك جالسا، وهم جالسون أيضا، إن الملك عبد العزيز بن سعود، المهيب القوي البنية، يجلس الآن في عربة متحركة قدمها له الرئيس روزفلت.

إن لحيته الرقيقة وشعر رأسه الظاهر قليلا من تحت غترته، الأسود المصبوغ. ويديه النحيلتين اللتين كانتا عنيفتين، أصبحتا الآن متيبستين ومتجعدتين، والوجه متغضن، ولا يزال الصوت مؤثرا، وإن فقد من نبراته الأولى كثيرا، ولا يرتفع صوته عند توجيهه إلى الحاضرين من شعبه فوق وجوه الضيوف لمتابعة سير تفكيره أو توضيح وجهة نظره، وهذا كان مميزا لكل استقبال وكان جزءا متكاملا منه، والجزء المهم فعلا هذه المرة لا يوجد كثير من الأسباب للتعليق من قبل الملك، وتم استقبال بعض الأميركيين الكبار من شركة الزيت أثناء حضورنا، ولا يتكلم الأميركي لغة الملك، ولذلك جاء معه مترجم يجلس بقرب الملك، وكان الأميركي يتكلم كثيرا وسريعا، والملك يرد عليه ردا مناسبا وبرفق وبسخرية خفيفة أحيانا، لأنه كان مريضا، ويستمر هذا النوع من المقابلات من زمن طويل، ولكنه تكلم مع الأجانب مرارا عن المواضيع التي اهتم بها أكثر، وكان الزيت هو الختام، لم يركز على خطة حياته، والعمل الكبير الذي حققه بالوحدة بعون الله، ولما جاء الزيت والأميركيون العاملون فيه بدأ كل شيء يتغير، لم يكن هؤلاء الغربيون معقدين مثل البريطانيين، وكان غريبا أنهم بقوا في المجال الخاص بهم، مجال الزيت والتقنية، ولحظ أنه نشأت مشكلات جديدة وغير متوقعة، ولكنها كانت خارج النطاق الذي عرفه وتحكم فيه، ولا يريد أن يفكر فيها، وعلى أبنائه أن يفكروا في ذلك فيما بعد، ولم يعبر الملك عن أفكاره، وكان يرد على ضيوفه وديا، تركنا الملك هذه المرة من دون أن نسمع شيئا جديدا أو أمرا مبدعا في نطاق دين الإسلام أو نطاق السياسة العربية، وعلَّم ضيفه الأميركي درسا صغيرا فقط عندما قطع حكاية الأميركي الطويلة عما تعلم من مرضه: «لو كنت مسلما لعرفت ذلك من دون أن تمرض».

خرجنا من صالة استقبالات لم تعد تشكل اللوحة الناصعة لحاكم يقود ويهذب شعبه، فقد اقترب من نهايته، وأصبح ينتظر تلك اللحظة، حيث إنه ليس من الممكن أن تبدأ الفترة الجديدة قبل ذلك، وسوف تبدأ الفترة الجديدة من قصر آخر في الناصرية، حيث يسكن ولي العهد.

الأب الروحي للوحدة

* ويشير المؤلف إلى سعي الملك المؤسس إلى تحقيق التحالفات والوحدة بين العرب والمسلمين، وعدم الاعتماد على مشاريع وحدوية ذات أهداف شخصية: بادر ابن سعود بالسعي إلى الخطوات الأولى الفعلية على الطريق المؤدي إلى اتحاد عربي، وكانت سياسته على النحو التالي: بعد حرب قصيرة ناجحة ضد خصمه الوحيد بشبه الجزيرة، الإمام يحيى من اليمن، قدم له ابن سعود صلحا باسم الصداقة الإسلامية والأخوة العربية، وأعلن الحاكمان في اتفاقية صلحهما، وأن شعبيهما ينتسبان إلى وطن عربي واحد، وعرض ابن سعود اتفاقية الصلح هذه في خطبه ونشراته، بصفتها نموذجا يطبق من قبل الدول خارج شبه الجزيرة، وأبرم ابن سعود اتفاقية مماثلة للصداقة الإسلامية والأخوة العربية مع خصمه الآخر، الملك الهاشمي، فيصل، ملك العراق، والمحمي من قبل بريطانيا، تلك هي اتفاقية بغداد، المبرمة بتاريخ 2 أبريل (نيسان) 1936م، ويعلن فيها ابن سعود أنهما سوف يتعاونان لانضمام اليمن إليهما، وانضمام كل دولة عربية مستقلة تطلب الانضمام، وتنص المادة رقم (7) من الاتفاقية على أن الأطراف المتفقة سوف تتعاون لتوحيد الثقافة العربية والإسلامية... إلخ.

وتظهر هنا البداية الفعلية للوحدة العربية، ويستحق الملك ابن سعود أن يسمى «الأب الروحي» للوحدة، فقد قام بالخطوة الأولى لتحقيقها بطريقة مبدعة وحكيمة، ربما يكون من المبالغ فيه أن تسمى بريطانيا «أبو الوحدة» كما تسمى عادة، ولكن لا شك في أن السياسيين البريطانيين شجعوا هذه الفكرة في البلدان العربية.

وينضم اليمن إلى هذا التحالف العربي الناشئ الناتج عن اتفاقية بغداد المذكورة أعلاه، في شهر أبريل 1937م، كما وقعت اتفاقية صداقة بين مصر والمملكة العربية السعودية قبل هذا التاريخ، في شهر مايو (أيار) 1936م، وتنتهي فترة التباعد بين البلدين، ويدل ذلك على الرغبة المتنامية في التعاون عند حكومات الشعوب العربية.

يبدو أن ابن سعود أراد أن ينسحب من الوحدة العربية بعد البدء فيها، ولكن الفكرة كانت قد تطورت ولن تتوقف، ودخلت الفكرة في قلوب كل الشعوب العربية بسبب العمليات الصهيونية في فلسطين، البلد العربي المسلم، وسيطرت فترة من الهدوء قبل تنبه العالم إلى خطر اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتم اندلاعها فعلا مما جعل كل المسائل في الظل، وحققت بريطانيا في فلسطين صلحا بين اليهود والعرب خلال مدة الحرب (لم يتوقف الملك عبد العزيز عن دعمه لمسألة الوحدة العربية الصحيحة).

يقدم السياسي البريطاني، أنتوني إيدن، الطموح العربي إلى الوحدة للمناقشة في مجلس العموم بتاريخ 24 فبراير (شباط) 1943م؛ فبريطانيا في حاجة ماسة إلى عطف، أو على الأقل حياد الشعوب العربية، ويشرح إيدن أن الإعلان الرسمي الصادر عن الحكومة البريطانية يتعاطف مع الطموح العربي إلى الوحدة، وفي العام نفسه يقدم في القاهرة احتمال اتحاد الدول العربية للمناقشة، تحت رئاسة النحاس باشا، رئيس الوزراء المصري حينذاك، ويدعمه نوري السعيد، رئيس الوزراء العراقي، ويتم التخطيط لمؤتمر عربي كبير، وتكرر بريطانيا عطفها ودعمها للوحدة العربية، ينعقد المؤتمر التمهيدي لتأسيس جامعة الدول العربية، تحت رئاسة النحاس باشا، رئيس الوزراء المصري، في الإسكندرية خلال خريف عام 1944م، ويجتمع المؤتمر العربي العام بتاريخ 22 مارس عام 1945م، وتشارك فيه ست دول عربية، ولم يحضر المؤتمر اليمن فقط، وقد وضع هذا المؤتمر ميثاق جامعة الدول العربية الذي وقعه الحاضرون.

يبدو أن مصر، وممثلها النحاس باشا، قامت بالمبادرة، بإيحاء من الملك ابن سعود في المرحلة الأخيرة، كيف يمكننا أن نشرح ذلك؟ من المحتمل أن يرجع هذا الأمر جزئيا إلى التدخل البريطاني المتزايد، ورغبة الملك عبد العزيز في تشكيل الجامعة العربية لمواجهة ذلك، ورأت بريطانيا في الجامعة العربية سبيلا لكسب التعاطف العربي خلال السنوات الأخيرة، وهو تعاطف لا يستغنى عنه، بالإضافة إلى ذلك توقعت بريطانيا تقليل النفوذ اليهودي في فلسطين الذي لم تستطع أن تتحكم فيه بمرور الأيام، وكان ابن سعود رجلا مستقلا لا يسمح أن يُستغل لصالح السياسة البريطانية.

وبعد تأسيس الجامعة العربية وعجز بريطانيا عن المحافظة على قوة انتدابها في فلسطين، لم يكن من الممكن تفادي حرب بين اليهود والدول المنتسبة إلى جامعة الدول العربية، وتنتهي الحرب بهزيمة كاملة للعرب، فلم تكن الجامعة قد حققت الوحدة بعد، والدول المنتسبة إليها كانت في المرحلة الأولى لنشوئها، ولم تتمكن من تشكيل قيادة مركزية، وإبعاد الخلاف والشك بين الدول العربية، فانهزمت جيوش الجامعة في الحرب الفلسطينية بشكل مذل، إن هذه الهزيمة قد تعني سقوط الجامعة التي فشلت، ولكنها قد تعني أيضا إعادة النظر، وكانت تلك العملية هي الأولى التي قامت الجامعة بها من غير إعداد، وبلا خبرة، وقد أدت إلى هزيمة كاملة، أصابت الكبرياء العربي بجرح عميق، لكنه غير قاتل.

أثارت تلك الأحداث أحد القادة الفلسطينيين، موسى العلمي، مؤلف كتاب «مثال فلسطين المنذر»، وكان لهذا الكتاب فعالية، أيقظت الأمة العربية كلها، وجعلتها تتقدم.

خاب أمل ابن سعود في إنجاز حلمه الخاص بالوحدة العربية وأعماله المعادية لليهود، وبدا أنه لم يضع في حسابه وزنا كافيا لعلاقاته التي تربطه مع القوات الغربية، فبجانب الارتباط ببريطانيا نما ارتباط آخر أقوى من الأول، وهو الارتباط بأميركا، الذي بحثه ابن سعود شخصيا، بدت هذه العلاقة مفيدة ونافعة له ولشعبه، وفعلا فتحت هذه العلاقة مجالات جديدة غير متوقعة للمملكة العربية السعودية، ولكن هل كان يدرك أخطار العلاقة أيضا بوضوح، وهل اتخذت تدابير من الجانبين، لحماية شعبه ضد تلك الأخطار؟ يجب أن ننتظر ما يحدث مستقبلا، وخلال الحرب ضد اليهود اختبر ابن سعود قوة ارتباطه بالاقتصاد الأميركي، ومنعه هذا الواقع من التعبير عن رأيه، أو المشاركة بالأعمال التي أثرت في إنهاء الحرب، أكثر من جهود الجيوش العربية المشتركة، فلو قطع ابن سعود الصلة الذهبية التي ربطته بالاستثمار الأميركي للزيت، لإلزام أميركا بالوفاء بما وعده الرئيس روزفلت، ولعرض القضية، التي قاتل العرب من أجلها، على المسرح العالمي بصورة حاسمة، فلو قام ابن سعود بالعمل ونطق بالكلمة المناسبة للفت أنظار العالم، وأجبر الحكومة الأميركية على الرد.. (رواية المؤلف هنا غير صحيحة؛ لأن الارتباط مع أميركا لم يكن على المستوى السياسي، وإنما مع شركات خاصة، علاوة على أن الزيت في ذلك الوقت لم يصل إلى حد الاستخدام السياسي، كما فعلت السعودية عام 1973م).

تطلع رؤساء جامعة الدول العربية إلى الرجل الذي مهد الطريق لاتحاد الدول العربية بشكل مبدع، وأنار لهم الطريق في الأراضي التي عرفها؛ الجزيرة العربية، ولكن عندما ترك النحاس باشا في مصر، ونوري السعيد في العراق، تحت تشجيع بريطاني، تلك الأراضي الملغومة، فلم يذهب ابن سعود معهما، وتابع المراقبان ابنه الثاني الأمير فيصل، وسكرتيره للشؤون الخارجية، الشيخ يوسف ياسين، المفاوضات، ويتعاونان في تنظيم وتأسيس الجامعة، ولكن لم يقدها ابن سعود، ولم يتحمل المسؤولية عنها كما تطلع الكثيرون إليه في الخارج.

بلد الدين والزيت

* ويتحدث الدبلوماسي الهولندي عن تأثيرات الحرب العالمية الثانية على اقتصاد البلاد ومداخلها، وخصوصا العائدة من الحج؛ يقول الدكتور فان در مولين: بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية ازدادت مشاغل ابن سعود، وتوقف سيل الحجاج، وبالتالي توقف المصدر الرئيسي لدخل حكومته، وبالإضافة إلى ذلك، عرقلت عمليات الغواصات الألمانية شحن السفن إلى حد كبير، فكان البحر الأحمر منطقة خطرة، طالما لم تستسلم إيطاليا في الحبشة، فتفادت السفن ميناء جدة، ولم يعد هناك عائد اقتصادي.

وتوقف استيراد المأكولات تقريبا، ولسوء الحظ فشل الموسم الزراعي، الذي يدر غلالا قليلة على أي حال، في شبه الجزيرة كلها، نتيجة لفترة طويلة من القحط والجفاف، وواجهت الجزيرة الجوع، وواصلت بريطانيا الدعم في المناطق التي تتحمل مسؤوليتها مباشرة، مثل عدن وحضرموت، بالإضافة إلى ذلك مملكة ابن سعود، ولم يكن هذا الدعم بسبب قضية العطف، بل كان قضية سياسة؛ فهمت الحكومة البريطانية أن أفضل طريق لكسب عطف العالم الإسلامي أو المحافظة عليه هو العناية باستمرار الحج إلى البلد المقدس، لذلك كان من الضروري مواصلة توريد الأرز والحبوب، حتى لو لم تتمكن حكومة ابن سعود من دفع ثمنه، وبالإضافة إلى ذلك زودت المملكة بالقروض المالية اللازمة لسداد نفقات الشرطة والجيش والموظفين، للمحافظة على الأمن والاستقرار.

رست زوارق دورية على فترات منتظمة على رصيف ميناء جدة، وعلى متنها شحنات من الريالات السعودية المضروبة حديثا، وصناديق الليرات الذهبية، العملة القياسية للبلد، لم يكن ذلك هو العامل الأهم، فقد يستطيع زورق دوري صغير نقل الذهب والفضة من مصر، ولكن كان الأمر الصعب حينذاك هو الحصول على باخرة كبيرة لنقل الدقيق من كندا والأرز، نعم من أين؟ لا بد من توفير الأرز لسكان البلد الحرام وللحجاج الذين نجحوا في الوصول إليه، سعت بريطانيا لتوفير الأرز في مكة والمدينة، ولم يجع أحد أثناء الحرب العالمية كلها، ولم ترتفع تكاليف الحياة إلى مستويات رهيبة، كذلك ساعدت بريطانيا، التي كانت هي نفسها تواجه ابن سعود، ووقف هذا العربي الكبير إلى جانب ونستون تشرشل الذي أعجب به باقتناع من البداية المظلمة للحرب إلى نهايتها المجيدة، لم تكن ثمة فترة أخرى وقف خلالها ابن سعود خلف القضية البريطانية بمزيد من الاقتناع وبصوته الجهوري، كان بقاء ابن سعود حليفا للبريطانيين خلال تلك السنوات أمرا في صالح بريطانيا، التي استفادت من صوت ابن سعود المنادي في الصحراء بحق بريطانيا في بيئته التي كانت تقف أولا إلى جانب ألمانيا، وأخذت أميركا كذلك جزءا من المسؤوليات البريطانية في الجزيرة العربية، عندما تم انضمامها إلى صف الحلفاء، انتقلت المملكة العربية السعودية إلى اهتمام بلد أكبر وأغنى من بريطانيا، فأميركا كانت بلد سيارات «فورد» و«شيفروليه» و«دودج»، السيارات الوحيدة التي تتحمل خشونة الدروب الصحراوية، بناء على قوة محركاتها، وارتفعت قيمة المستندات الأميركية خلال السنوات الأخيرة للحرب العالمية الثانية، بقدر ما ازداد الدعم الأميركي من شعب يبني أقوى وألمع وأسرع السيارات، ويستطيع أن يحظى بالتقدير والإعجاب في البلدان الشرقية، وتوقعت المملكة العربية السعودية من أميركا أكثر مما توقعته من بريطانيا، البلد المنهك الفقير نتيجة للحرب.

إن ابن سعود لم يكن يهتم بالمال أبدا، رغم علمه بأن لا غنى عن المال، خلال سنوات الفقر في طفولته بالكويت وعند كل لحظات عدم التوفيق التي عاشها والده، وشارك فيها ابن سعود، تعلم أن النقص في المال ليس السبب، وأن النجاح في أول الأمر يعتمد على بركة الله، وبعد ذلك على المهارة الشخصية، كان المال وسيلة مساعدة ثانوية، فإذا حصل على المال صرفه بلا هموم للمستقبل، والفقراء والضيوف والأصدقاء أسهموا في حلول البركة المالية التي وهبها الله، وكان كرمه جزءا من إيمانه، ملك الشجاعة ليعيش عيشة كريمة.

أول بنك في البلاد هولندي

* عندما قدم الله له النعمة، وانسحب إلى الاقتصاد البدوي في كل شيء، وعندما قلت الثروة المالية، وبلغت المملكة حجمها الحالي، اتضحت ضرورة تحويل المجتمع البدوي إلى مجتمع عصري، واحتاج ابن سعود إلى المال لبلده، إلى مصدر منتظم من المال، ولا بد من توفير المال من الخارج، لأن بلده كان فقيرا وغير خصب إلى درجة أنه لا يستطيع أن ينتج متطلباته للطعام، إن دخل بلده الوحيد كان من المدن المقدسة، حيث أمر الله المؤمنين بالحج إليها، فكان الحج أهم مصدر مالي لبلده، وينبغي تحديث الأماكن المقدسة، بناء على ذلك المصدر، لذلك أعطى تنظيم الحج انتباها خاصا، بعد أن ضم الأراضي المقدسة، وكان ذلك من ضمن التزاماته الدينية، وسوف تشكره وتثق به الشعوب الإسلامية لأجل ذلك، وسوف تزداد أعداد الحجاج، وسوف تكون الزيادة في الرسوم التي يدفعها الحجاج مقبولة في ضوء تحسن خدمات الحج، بالإضافة إلى عوامل دينية وسياسية دولية كثيرة أثرت على الحج، وهي عوامل لا علاقة لها ببلد الإسلام المقدس، فخلال السنوات الأولى من حكمه ازدادت أعداد الحجاج بصورة كبيرة عن ذي قبل، وازدادت المبالغ المتحصلة، ثم انخفضت أعداد الحجاج، ولم تنجح الدعايات في وقف الانخفاض. رأى ابن سعود أن الرسوم قد ارتفعت، واعتقد أن ذلك الارتفاع نتيجة لما يقدم للحجاج من الأمن والاستقرار، وتهيئة الظروف الصحية الحسنة إلى حد كبير، وللأسف لم يلحظ الإنسان غير الشاكر المحاسن والإيجابيات، بل لحظ أكثر المساوئ والسلبيات التي يواجهها، ألزمته شكوى الحجاج وسكان الأراضي المقدسة، الذين لم يسمح لهم باستغلال الحجاج، التفكير في مصادر مالية أخرى لا تعارضها الدول في الخارج.

وكثيرا ما عالج الملك مسائل مالية بالاستعانة ببعض الحجاج الأثرياء، مثل الحجاج المقبلين من جاوة والجزر المحيطة بها، يقال إن الهولنديين كذلك أثرياء، ولا بد من ذلك، لأنهم ذوو خبرة في مجال المال، وهم شعب صغير بلا قوة ولا يشكل خطرا، وعندما رأى ابن سعود ضرورة تأسيس بنك أعطى لبنك هولندي حق العمل في مملكته.

وحينما فكر في البحث عن مصادر مالية لبلاده طلب من الحكومة الهولندية إرسال خبراء للقيام بالمسح بحثا عن الموارد الطبيعية، وكان وجود تلك الموارد واقعا لا شك فيه، ويعرف كل عربي مثقف مما ورد في الكتب القديمة، وحتى في الكتب المقدسة لليهود والمسيحيين أن الجزيرة العربية بلد الذهب والمر واللبان، وينجح العالم الغربي فعلا في الكشف عن مناجم الذهب القديمة وينشئ أخرى حديثة، ربما وجدت كذلك معادن أخرى من تلك التي أصبحت مهمة في العصر الحديث، وكلفت الحكومة الهولندية خبراءها في هذا المجال استجابة للطلب، فوضعوا خطة علمية ومدروسة لبحث جيولوجي نظامي غطى المملكة العربية السعودية كلها، وسوف تصبح تلك الخطة عملا متصلا طويل المدى يكلف المال الكثير، ولكن أكد الخبراء تغطيته لكل المملكة، ولم يهمل المخططون الكفاءات الوطنية كذلك، وإضافة إلى ذلك اقترحوا تنفيذ هذا العمل الكبير باستخدام طلابهم خلال الوقت المناسب تحت إشرافهم، وقبل البدء في العمل كان من الضروري وضع مبلغ في البنك الهولندي في جدة، لتجنب أي مخاطر مالية بالنسبة إلى هؤلاء الجيولوجيين الهولنديين، وبمساعدة مترجمينا تمت ترجمة التقرير إلى اللغة العربية، قرئ التقرير بانتباه في دوائر الحكومة السعودية، ولكن بعد قراءة الفصل المالي، وما يوحي به من عدم الثقة بالوضع المالي للمملكة، شكرت الحكومة الهولندية على تقديم التقرير المتخصص، واتجهت الحكومة السعودية إلى بعض البلدان الصغيرة الأخرى التي وثقت - على خلاف هولندا - بالوضع المالي للمملكة، لذلك كانت الفرصة أمامها طيبة لتنفيذ المسح الجيولوجي، لو لم يلتق ابن سعود بأميركيين غربيين في غضون ذلك.

لم يكن الأميركي تشارلز كرين المليونير الكبير (هارون الرشيد العصر الحديث)، ومعه مساعده للشرق الأوسط، كارل تويتشل، يبحث عن الامتيازات، ولم يكن يرغب في أي فوائد مالية في البلدان العربية، وأراد أن يستعمل جزءا من ثروته لصالح شعوب الشرق الأوسط، وحاول أن يقابل شخصيا رؤساء البلدان العربية خلال رحلاته الكثيرة، واهتم بمشكلات الدول العربية وأزمتها اهتماما عميقا، تعود السيد كرين زيارة صديقه المكرم في مدينة لايدن بهولندا، البروفسور سنوك هرخرونية، المستشرق العالمي المشهور، بعد كل رحلة من رحلاته إلى العالم العربي، عند عودته إلى أميركا، قدم استفساراته خلال سفره، وطلب توصية البروفسور، وبعد تلك الاستشارة سافر إلى وطنه، حيث أخبر أصدقاءه بانطباعاته عن البلدان الإسلامية، وموَّل كرين في أول الأمر أنواعا مختلفة من رعاية الشباب، ودفع تكلفة تربية لأطفال عرب نبلاء، خاصة السوريين، ودعم أعمالا علمية، بمساعدة كارل تويتشل، وبدأ بتنفيذ خطة لتطوير عام في اليمن، وشرع في إنشاء الطرق والجسور وتحسين الزراعة والري، وأدى سوء الثقة في هذا البلد المتأخر جدا، وفساد إدارته، والنقص في الخبرة من قبل الأميركيين، إلى الفشل الكامل لهذه الخطط المفيدة، وكان كارل تويتشل - الذي تولى هذه الخطط - رجلا عجيبا ذا خيال وعزيمة، وكان واحدا من تلك الجماعات الصغيرة من الرجال المولودين من بيئات غربية مختلفة، ويأسرهم غموض البلاد العربية القديمة، وبالتالي يعطون حياتهم لها، ولما توقفت خطط الدعم في اليمن، قرر تويتشل بموافقة كرين أن ينظر إلى البلد المجاور، المملكة العربية السعودية، حيث كانت الأوضاع السياسية، وتماسك الحكومة أفضل بكثير من أوضاع اليمن في عهد الإمام يحيى، وارتاح تويتشل للمملكة وملكها ابن سعود، وقرر أن يبذل كل جهوده لصالح هذا البلد، ووافق السيد كرين على ذلك.

أراد تويتشل التعاون مع الحكومة السعودية، على أساس تجاري، فبادر إلى البحث عن الذهب دون خطة مدروسة ومن دون خبرة، معتمدا على الوعد بأنه يستحق الفرصة الأولى لتعدين الذهب إذا اكتشف شيئا، يبدو أن تويتشل كان مؤمنا بالكتاب المقدس ومصدقا به.

فلو أمر الملك سليمان بإحضار الذهب من الجزيرة العربية - كما ورد في الكتاب المقدس - فلا بد من وجود بقايا لذلك الذهب، ولا يوجد شيء أسهل من أن يشرح لشيوخ البدو ما يبحث عنه، ويعد الأشخاص الذين يقودونه إلى تلك المناجم بهدايا، فالقدماء كسروا المعادن من الصخور وسحقوا الحجر باستخدام مطاحن يدوية.

وقد تعامل ابن سعود مع بريطانيا في الجوانب السياسية، أما تعامله مع أميركا، فقد أخذ جانب التنمية الاقتصادية، الذي استشفه من الرعايا الأميركيين الذين عايشهم في بلاده، فكان هؤلاء الأميركيون باحثين وفنيين وخبراء مرشدين؛ فبعد استغلال ابن سعود لمناجم الذهب، عمل على دراسة الإمكانيات في مجال الزراعة والري، وبعد أن رأى ابن سعود حرص الأميركيين على هذه الجوانب، أوكل إليهم أمر التنقيب عن البترول واستخراجه في مناطق شرق المملكة العربية السعودية، وقد استطاعت الشركات الأميركية التغلب على الصعوبات التي واجهتها في بدء أعمالها، مما مكنها من اكتشاف كميات ضخمة من النفط في سواحل الخليج العربي قرب الظهران وشماله، الأمر الذي جعل المملكة العربية السعودية تتيح للشركات الأميركية فرصا فاقت تصور تلك الشركات.

لقد آثر ابن سعود أن يتعامل مع الشركات الأميركية دون البريطانية، لأن الشركات البريطانية لها مناطق أخرى تزخر بالزيت، مثل إيران والعراق والبحرين، فبريطانيا منهمكة في العمل في تلك المناطق، أما أميركا فحديثة الدخول في هذه المجالات، ولذلك تسعى إلى العثور على مناطق جديدة غنية بالزيت، سهلة الاستخراج، فوجدت بغيتها في أجزاء من المملكة العربية التي تمكنها من استخراج الزيت بكميات كبيرة، وفي أزمنة قياسية، فكان اختيار ابن سعود لها، وإسناد هذه المهمة لها، لما لها من مقدرة مالية، وإمكانات علمية، تمكنها من ذلك، فأصبح لدى ابن سعود انطباع طيب عن الأميركيين، عندما شاهد سرعتهم وبراعتهم في هذه المجالات، بالإضافة إلى أن همومه المالية جعلته يهتم بهذا المصدر المالي الذي سوف يؤتي ثماره عاجلا، ومن جانب آخر، فقد كانت أميركا في وضع أفضل من بريطانيا، فهي بلد غير معروف، وليس لأحد ذكريات مُرّة معها في هذا الجزء من العالم، وبالتالي فهي لا تحتاج أن تكافح ضد أحكام وتقاليد موروثة، ولذلك فقد انتهزت أميركا الفرصة المواتية، ونمت استثماراتها في هذا البلد الجديد بسرعة فائقة، يحدوها حسن النية والأمل الكبير في النجاح، في بلد وشعب لم تعرفه قبل ذلك إطلاقا.

فالعنصر الأميركي بادر إلى استثمار هذه الفرص التي لاحت في مجال الاقتصاد بتفاؤل وحيوية في هذا البلد الجديد عليهم، والشعب غير المكتشف في نظرهم، فأميركا تختار ممثلين طيبين لإرسالهم إلى بلد ابن سعود، وهيأت لها الظروف أن تختار من بعض المواطنين ذوي الأصول العربية أفرادا يتكلمون اللغة العربية أحسن من أي مستشرق غربي، لأنهم مهاجرون من سورية ولبنان وفلسطين، وكان أبرزهم الذين تخرجوا من المعاهد الأميركية لدراسات الشرق الأوسط، ووجدوا من هناك الطريق ممهدا إلى العالم الجديد الذي كان معبرا لعودتهم إلى أوطان الجدود.

كان المندوب الأول من أميركا إلى بلد ابن سعود هو ابن أحد المسيحيين، وكان يعمل في سورية، فتعلم اللغة العربية من أصدقاء اللعب في الطفولة، وعاد إلى بلد طفولته ليخدم العمل التنصيري أيضا، وأثناء الحربين العالميتين أصبح وليام ألفريد إدي عقيدا بالأسطول البحري، واختارته الحكومة الأميركية مستشارا للمهمة المتطورة بسرعة في المملكة العربية السعودية، والتقى العقيد إدي في جدة ببعض أصدقاء طفولته في سورية، الذين أصبحوا بدورهم مستشارين للملك، وأصبح العقيد إدي مركزا للنبلاء السعوديين الذين يستمعون إلى ذلك المندوب المقبل من الغرب، الذي يجيد اللغة العربية، ويثير في المستمعين إليه الدهشة والضحك برواياته الهزلية، فأصبح صديقا لابن سعود، وبقي كذلك حتى بعد استقالته من الخدمة الدبلوماسية، وصار مستشارا سياسيا لمديري شركة الزيت السعودية الأميركية، وقد ساعد في تعزيز الثقة والصداقة بين الملك والأميركيين أن العمليات الأميركية الأولى كانت ناجحة إلى حد كبير، وكان التعاون ممكنا للثقة والصداقة المتبادلة بين المديرين الأميركيين والملك، وبسبب إعجابهم بالملك البدوي. إن ابن سعود كان الإنسان المفتاح، ولذلك كانت هذه الصداقة قاعدة ثابتة للتجربة، وعندما أرادت أميركا إنشاء المطارات، أهدى الرئيس روزفلت طائرة إلى الملك ابن سعود، اختارها الملك بنفسه، هدية شخصية عند مقابلتهما في مصر، وكانت هذه الطائرة المهيأة حسب الذوق العربي بعد فترة قصيرة تجوب أجواء الصحارى قرب مدينة الرياض، بطاقم يتناوب كل شهرين، ولكن العلماء قد نصحوا الملك بعدم استخدام هذه الطائرة، ولكن أبناءه وأقرباءه يستخدمونها كثيرا، وأصبحت الوسيلة السريعة لنقل الموظفين المهمين، والضيوف، فهم لا يصلون إلى مقر الملك إلا بالطائرة الملكية، وتم إنشاء المطارات تحت إشراف شركات أميركية، وكان ذلك في فترة وجيزة، وكانوا يستخدمونها ولا يجدون صعوبة في عبور طائراتهم الأجواء السعودية، من جدة إلى الظهران عن طريق الرياض، وكان لا بد أن تستقر إدارات الشركات الخاصة باستخراج الذهب والزيت في جدة؛ حيث إنها مدينة الممثلين الأجانب.

قدم الأميركيون عدة مستحدثات فنية تبرز معجزات هذا التقدم الاقتصادي للعالم الغربي، ولذا كان يتم تزويد كل أميركي يشتغل في المملكة العربية السعودية بمنزل ومكتب مكيف وخال من الذباب، وكانت عربات التكييف تسبق الجنود الأميركيين إذا دخلوا الصحراء، للقيام بدورة تدريبية للضباط السعوديين، وكانوا يجيئون أيضا بأفلام وأجهزة عرض تستخدم للدراسة من ناحية، ومن ناحية أخرى تستخدم للترفيه، وكان الأميركيون يتيحون لتلاميذهم العرب تناول السجائر خلال إلقاء المحاضرات والدروس، وكانوا يتناولون ذلك مجانا، ليكون عادة تسود مجتمعهم، وما وصل إليه الأميركيون في زمن وجيز لم يتمكن البريطانيون وبقية الأوروبيين من الوصول إليه إلا بعد زمن طويل، وتخطي عقبات جمة في سبيل ذلك، أما الأميركيون فقد وصلوا إلى ذلك سريعا، لأن نجاح أميركا في الحرب العالمية اختصر لها الطريق، فوصلت إلى هذا الوضع المريح.

وكان استخراج الزيت السعودي من أقوى الأسباب التي مكنت القوات الأميركية من تحقيق النصر على اليابان، وكانت أميركا حريصة وقتها أن تتزود بكامل حاجتها من الزيت المستخرج من المملكة العربية السعودية من الظهران، وعندما لم يستوعب معمل التكرير الصغير سيل الزيت الخام المتدفق بسرعة لجأوا إلى إنشاء أنبوب في قاع البحر لنقل الزيت الخام إلى المعمل بالبحرين، وتم نقل الإيطاليين عن طريق الجو من الحبشة، لإنشاء مدينة نفطية مزودة بكل مظاهر الحياة الأميركية، ليقيم فيها الأميركيون، شريطة أن تزود بصالات الطعام وبالوجبات الملتزمة بالمعايير الأميركية.

قريبا ينتقل الثقل الاقتصادي في مملكة ابن سعود من شاطئ البحر الأحمر، حيث يقع البلد المقدس للحج، إلى شرق المملكة، حيث نشأت بسواحل الخليج أبراج التنقيب، ومعمل التكرير، والميناء البحري المسمى الدمام وشركة الزيت بالظهران، فالآن تم إنشاء السكة الحديدية الأولى بالمملكة العربية السعودية، وقد دمرت السكة الحديدية في الحجاز تحت قيادة العقيد لورتس، التي كانت خاصة بنقل الحجاج من سورية وفلسطين إلى المدينة، ولم تصلح بعد الحرب العالمية الأولى، وتربط السكة الحديدية الجديدة الرياض بالظهران والدمام عن طريق الهفوف، وأنشأت شركة الزيت مطارا بقرب مدينة الزيت لأحدث الطائرات، وبهذا فتحت الجزيرة العربية قلبها للخارج.

انتهت الهموم المالية لابن سعود بعد ارتباط إنتاج الزيت بالشركة الأميركية، وانتهت همومه بالنسبة إلى النقصان في المال، وبدأت مسؤوليته في الاستفادة من المال الكثير، ويبدو أن الأخير أصعب من الأول. تولت الدولة السعودية مجسدة في الشخص الذي تولى، مسؤولية نشر الإسلام الصحيح وخدمته بعد ضم الحجاز، وهذا ما تطلع إليه وبكل إيجابية سكان المنطقة وكل المسلمين، خيبت هذه التطلعات آمالنا كغربيين مهتمين، حيث إننا تابعناها بتوقعات؛ فالسعودي الملتزم لم ينجح في تحويل اعتقاده، بحيث يكون مقبولا للناس خارج صحارى الجزيرة العربية، ولم يفقد فخره وثقته بنفسه، ولكنه فقد التوقعات المستقبلية بالنسبة إلى نهضة إسلامية نقية.