رحالة إسباني في الجزيرة العربية قبل قرنين: السعوديون في قلب الصحراء سيظل النصر حليفهم

زار الحجاز ووصف المدينة المقدسة والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيها * الرحالة باديا.. المملكة الجديدة للسعوديين سيرتفع شأنها لتماثل الخلافة القديمة * مستشرفا مستقبل الدعوة الإصلاحية ونفوذها الذي ستفرضه مع الدول المحيطة

باب أجياد في الحرم المكي في صورة التقطها محمد حلمي منذ 63 عاما («الشرق الأوسط»)
TT

أدخل الرحالة الإسباني دومنغو باديا المتسمي بـ«علي باي العباسي» بلاده إلى حلبة الرحلات، ونجح في أن يسجل في ميدانها اسما آخر قادما من المستعمر العتيق، بعد أن كانت القائمة تضم فقط رحالة إسبانيا مسلما بعد سقوط غرناطة، وهو ما جعل لبلاده إسهامات محدودة في مجال الرحلات، ولعل من المصادفة أن الرحلتين اللتين يفصل بينهما نحو قرنين من الزمن كانت وجهتهما الحجاز، وقد أخذت هاتان الرحلتان صفة واعتبارا، ومعهما دخلت إسبانيا حلبة الرحلات مع الفرنسيين والإنجليز وغيرهم من الأوروبيين مثلما كانت بريطانيا وفرنسا وإسبانيا تشكل أضلاع مثلث الصراع كان ميدانه رحبا والبلاد العربية من أهدافه بل ووجبة شهية لالتهامها من الثالوث العتيق.

وقدمت دارة الملك عبد العزيز ضمن سعيها لخدمة تاريخ الجزيرة العربية للمكتبة العربية كتابا للرحالة علي باي العباسي أو دومنغو باديا، كتابا ترجمه ودرسه وعلق عليه الدكتور صالح بن محمد السنيدي، حوى وصفا لطريق الرحلة إلى مكة المكرمة، وتناول مناسك الحج، ووصفت فيه ريشة الرحالة المسجد الحرام وما فيه من معالم، وتحدث بصورة موسعة عن مكة المكرمة: جغرافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وصحيا، وعدت الدارة الكتاب ذا قيمة علمية ويحظى بمكانة تاريخية لكونه واحدا من الكتب التي حوت معلومات تاريخية ووصفا للمدينة المقدسة في القرن التاسع عشر الميلادي، كما تعد مادته خصبة لدراسات لاحقة، تتميز بالتنوع التاريخي والاجتماعي والسياسي لتلك الحقبة، فتكمن أهمية الرحلة في العرض السلس لمعلوماتها التي اتسمت بالثراء والتنوع، وصاحب الرحلة لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أقحم نفسه فيها.

وسبق الحديث عن الرحلة معلومات قدمها المترجم والدارس والمعلق على الكتاب بعنوان «رحالة إسباني في الجزيرة العربية» عن صاحب الرحلة وأهدافها وعرض لأهم محطاتها حتى وصوله إلى الحجاز مع التوقف عند أبرز النقاط التي تناولها، ثم وقفة موجزة مع الظروف السائدة في زمن رحلته تلك، وقدم الكتاب تعريفا بنظرة الرحالة لبعض الأحداث وانطباعاته الشخصية التي دونها في سجلات مذكراته عن قضايا اجتماعية ودينية وسياسية وعلمية وطبوغرافية، علما أن الرحلة تمت في عام 1807م أي قبل 203 أعوام.

جدة مدينة الروائح العطرة

* قدم الرحالة الإسباني دومنغو باديا (علي باي العباسي) معلومات عن رحلته بدأها من جدة قادما من السويس بعد أن أجرى الاستعدادات اللازمة لرحلته إلى مكة، حيث خرج من القاهرة في الخامس عشر من ديسمبر (كانون الأول) عام 1806م الموافق للخامس من شوال عام 1221هـ مصحوبا بكثير من الوجهاء، وبعد أن كتب بعض أصدقاء الرحالة إلى من لهم علاقة بهم، سواء في السويس أو في جدة أو في مكة، لكي يهيئوا له سكنا ويؤمنوا له الحماية في جميع الأماكن التي سيزورها.

عن جدة التي زارها الرحالة يلخص باديا مشاهداته عن المدينة بقوله:

مدينة جدة هي مدينة جميلة بشوارع منتظمة، وبيوت لطيفة ذات طابقين أو ثلاثة طوابق، مبنية جميعها من الحجر، وإن كان بناؤها أقل متانة نوعا ما، وفيها عدد كبير من النوافذ الواسعة والسطوح المنبسطة، وفيها خمسة مساجد ليست بذات شأن، ويحيط بالمدينة سور رائع ذو أبراج غير منتظمة، وعلى بعد عشر خطوات من الجانب الخارجي، هناك خندق غير ذي فائدة، إذ لا يرى فيه أي بناء يدعمه، وعوضا عن الجسر المتحرك أمام بوابة المدينة، فإن هذا الخندق لا يملأه غير التراب، وعلى الرغم من البناء الحديث فلا يبدو أنه سيعمر طويلا لأن جدرانه مقطوعة عموديا من دون انحراف ولا نتوء، ويبلغ عرضه 9 أو 10 أقدام بينما عمقه 12 قدما.

الأسواق العامة في جدة تحتوي على الكثير من البضائع، لكن الأسعار فيها مرتفعة جدا: فسعر الدجاجة الواحدة يبلغ دورو إسبانيا، وتحمل البقول إليها من أماكن بعيدة، فليس بالقرب منها نهر ولا ينابيع، كما أنها تخلو من الحدائق والمزارع والبساتين، والماء الذي يشرب في جدة هو ماء الأمطار، وهو ماء عذب لأنه يحفظ جيدا في الخزانات، ولكني لن أقول الشيء نفسه عن الخبز الذي لم يبدُ لي أنه جيد النوعية.

وتنتشر في جدة دائما الروائح العطرة، ففي جميع الأماكن العامة هناك أناس يبيعون أقداحا من الماء للشرب، ويضعون دائما بالقرب منهم مواقد يحرقون فيها البخور والعطور الأخرى، ويحدث الشيء نفسه في المقاهي والحوانيت والبيوت وفي كل مكان.

ويقطن جدة نحو خمسة آلاف نسمة، ويمكن اعتبار هذه المدينة مركزا لتبادل التجارة الداخلية للبحر الأحمر، فسفن مخا تحمل إليها القهوة وغيرها من البضائع من الهند ومن جميع بلدان الشرق، حيث تنقل في سفن أخرى إلى السويس وينبع والقصير ومراكز أخرى في سواحل الجزيرة العربية وأفريقية.

ولو أن العرب كانوا على درجة أكبر من التقدم في فن الملاحة لتمكنت مخا بلا شك من أن ترسل حمولاتها مباشرة إلى السويس دون التوقف في جدة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يرفع من قيمة التجارة كثيرا، لكن ذلك يعد من المستحيل تقريبا مع وضع أسطولها الحالي وسفنه التي هي دون أبراج ورديئة الصنع، وبقيادة بحارة مغرقين في الجهالة، فرحلة عادية من مخا إلى جدة بالنسبة لهم، كأنها نصف جولة حول العالم تقريبا، ومصلحة العرب من ناحية أخرى تقتضي رفض أي تحسين في هذا المجال، فالبضائع المارة في الوقت الحاضر تجلب إلى بلادهم منتجات فيها أرباح وعمولات ووسائط نقل وضرائب، وهو ما سيفقدونه لو حسنوا سفنهم، وفي هذه الحالة لن تكون جدة ميناء مهما كما هو حالها الآن.

يشتري تجار جدة من مخا، أو بالأحرى، فإن تجار مخا يبعثون ببضائعهم إلى جدة، ويرسل تجار القاهرة عن طريق وسطاء السويس أموالهم إلى جدة للشراء، وتصل إلى جدة عن طريق السويس بعض المواد من أوروبا، وخصوصا الأقمشة، لكنها لا تكفي لسداد أثمان بضائع الهند وقهوة اليمن، وتدفع معظم الأثمان بالدورو الإسباني أو بالإسكودو الألماني السميك، وهذه العملة الأخيرة هي المرغوبة في جدة لأنها تعادل الكثير في اليمن ومخا.

وقد بدا لي أن التاجر المكلف بشؤوني في جدة يقوم بتجارة واسعة، لكني كنت أدعي امتلاك القليل من النقد، فقد كان إنفاقه يكلفني كثيرا.

ويلحظ البذخ الكبير في الملابس والسكن، ولكن هناك ممن ينتمون للطبقات السفلى من الشعب، أفراد يسيرون شبه عراة في حالة فقر مدقع.

تتألف الحامية من 200 جندي من الأتراك أو العرب، ولكن لا يفكر أحد في أن هؤلاء الجنود يقومون بالحراسة أو يؤدون خدمة عسكرية ما، فعملهم يقتصر على قضاء النهار جالسين أو متسكعين في مقهى، يلعبون الشطرنج ويدخنون أو يتناولون القهوة.

ليس هناك من أوروبيين في جدة، لكن يشاهد بعض النصارى الأقباط ممن ألزموا بالإقامة في منزل أو في كهف قريب من المرسى (مغالطة صححها الباحث).

أشهر شخصيات المدينة والتاجر الرئيسي فيها هو سيدي العربي جيلاني، وهو رجل ذو نبوغ وصاحب علاقة قوية بالإنجليز، ومعهم يقوم بكل تجارته تقريبا.

وكان سكان جدة حينها يشعرون باستياء شديد فقد كان الفرنسيون قد استولوا في العام السابق على سفينة للسلطان الشريف، وكانت محملة بكل ما هو ثمين، كما استولوا على غيرها من السفن العربية، ومع ذلك لم يطالب هؤلاء بالثأر، ولم يحقدوا على الأمة الفرنسية، بل على العكس من ذلك كانوا راغبين في الصلح على الرغم من أنهم كانوا يجهلون كيفية ترتيب ذلك، لكني شخصيا أعتقد أنهم بدأوا يحبون الفرنسيين حقيقة، خاصة وقد رأوا تصرفاتهم في مصر.

لقد انخدعت فيما وصل إلى مسامعي من شهرة وصيت للخيول العربية، فبعثت بخيولي من السويس إلى القاهرة، ولكن سرعان ما ندمت على فعلتي عندما رأيت أن ليس هناك من خيول في جدة، غير ما كان لدى أغنياء التجار منها، وما كان هؤلاء يريدون الاستغناء عنها، كما لم أشاهد بغالا، أما الحمير فممتازة، إنها كبيرة وحسنة الهيئة، لكنها ليست أطول من حمير مصر، وهناك عدد كبير من الجمال، وهي حيوانات النقل الوحيدة في البلاد، وتجول في الشوارع أعداد كبيرة من الكلاب السائبة، كما هو الحال في جميع المدن الإسلامية، وتبدو بالطبع وكأنها منظمة أو موزعة على عدة فصائل أو عوائل، ويحدث أن يبتلى الكلب أو يتجرأ على الانتقال إلى جهة أخرى أو مجموعة غريبة، فتثور كلاب هذه المجموعة محدثة جلبة جهنمية، ولا يتخلص الكلب المتهور منها إلا بعد أن يصاب بجراح متعددة.

وليس عدد القطط بأقل من عدد الكلاب، وهي شبيهة بقطط أوروبا، وهناك أيضا القليل من الذباب، ولكن ليس هناك بعوض ولا غيره من الحشرات.

وتخلو مدينة جدة من الفحم، والوقود الوحيد الموجود هو الحطب الذي يجلب من بعيد أو من نفايات المراكب، أما الدقيق فيؤتى به من أفريقية.

وقد بدا لي أن السكان هم خليط من دماء عربية وحبشية أو سوداء مع قليل من الدماء الهندية، ولقد شاهدت وجوها فيها شبه كبير من سحنة الهنود مع شيء من الدماء الصينية.

ومن الشائع هنا اقتناء الجواري من الحبشيات أو الأفريقيات السوداوات، وقد عرض علي تاجري أول شيء وفي اليوم الأول من وصولي إلى جدة، شراء جارية حبشية، لكني امتنعت عن ذلك، مع أن القانون لا يمنعه، لأنني كنت في حالة إحرام أثناء الحج.

هناك ما يقرب من مائة مركب تقوم بالنقل الساحلي البحري ما بين جدة والسويس، كما أن هناك أخرى غيرها تعبر إلى مخا، وبما أن الموجود منها - كعهدها دائما - إما معطوبة أو يجري إصلاحها، فإن عددها باعتقادي سينخفض إلى الثمانين، والواقع أنه لا يمر عام دون أن يغرق عدد منها في شعب البحر الأحمر، ولكن هناك صناعة مستمرة للسفن في السويس وجدة ومخا.

تقع جدة في سهل هو في الحقيقة صحراء، وطقسها متقلب باستمرار، فمن يوم لآخر كنت أرى مقياس الرطوبة ينتقل من أقصى درجات الجفاف إلى أقصى درجات الرطوبة، وتبلغ الرياح الشمالية التي تقطع صحراء الجزيرة العربية درجة من الجفاف تجعل الجلد ناشفا، والورق يفرقع وكأنه وضع في بوابة فرن، كما يأتي الهواء محملا بالتراب، فإن تبدلت الرياح لتصبح جنوبية، بدت فجأة الأعراض المعاكسة، فالهواء وكل ما يلمسه مشبع برطوبة لزجة تجعل الغضاريف الحيوانية رخوة، وهو شديد الإزعاج على الرغم من أن السكان يعتقدون أنه أكثر صحة من ريح الشمال الجافة، وأعلى درجة حرارة شعرت بها كانت 24 في مقياس الحرارة، ولقد وجدت الجو أثناء هبوب رياح الجنوب محملا نوعا ما بالضباب.

وفي إحدى الليالي كان القمر في سمت الرأس، وفي ليلة أخرى كان ناحية الشمال، وبتأثير خط العرض فقد كنت على بعد درجتين تقريبا جنوب المدار.

ومنذ لحظة وصولي كانت تقدم لي كل يوم جرار صغيرة من ماء بئر زمزم العجيب، وكنت أشرب وأدفع أجرته.

وفي عشية سفري إلى المدينة المقدسة، وقد حضر قبطان سفينتي لزيارتي، انكسر مؤشر مقياس الرطوبة.

منظر مهيب لن يمحى من الذاكرة

* ويواصل الرحالة باديا وصفه لرحلته وهو على مشارف مكة متناولا وصفا للكعبة ومراسم النسك حسب ملاحظاته لذلك المشهد الديني.

وفي منتصف ليلة الخميس للثالث والعشرين من يناير (كانون الثاني) عام 1807م الموافق للرابع عشر من شهر ذي القعدة من عام 1221 هجرية، وصلت - بفضل العناية الإلهية - إلى مشارف المنازل الأولى للمدينة المقدسة مكة المكرمة بعد مضي 15 شهرا لخروجي من المغرب.

وفي مدخل المدينة كان هناك الكثير من المغاربة أو عرب الغرب الذين أحاطوا بي وبأيديهم أباريق صغيرة مملوءة بماء زمزم، قدموها لي لأشرب منها، راجين ألا أشرب من غيرها، وعرضوا علي في الوقت نفسه تأمين السكن، كما أسروا إلي ألا أشرب أبدا من الماء الذي يعرضه علي شيخ الزمازمة.

كان في انتظاري كذلك عدد من شخصيات المدينة، وقد دخلوا في جدال فيما بينهم حول من سيستضيفني، إذ إن السكنى من القضايا المهمة لهم مع الحجاج، لكن حسم الموضوع - فيما يتعلق بسكني - أولئك الذين تحملوا مسؤولية حاجاتي الملحة خلال وجودي في جدة، إذ قادوني إلى بيت قد جهز لي بجانب الحرم، ملاصق لبيت السلطان الشريف.

يجب على الحجاج أن يدخلوا مكة سيرا على الأقدام (ليس ذلك من واجبات الحج ولا مستلزمات الدخول إلى مكة)، لكن بسبب مرضي فقد دخلت محمولا على جمل حتى مكان إقامتي، وحال وصولنا اغتسلنا ثم سرنا في موكب إلى الكعبة مع كل رجالي، وكان الرجل الموكل بنا يدعو خلال مسيرتنا بأدعية مختلفة وبصوت عال ونحن نردد وراءه كلمة بكلمة وبنفس النغمة، وكنت أعاني من الضعف والهزال لدرجة أني كنت مسنودا من قبل اثنين من خدمي.

على هذا النحو، وصلت إلى الحرم والتففنا مع الشارع الرئيسي كي يكون دخولنا من «باب السلام» الذي يعد الدخول منه فألا حسنا، وبعد أن نزعت حذائي دخلت من هذا الباب السعيد بجانب الزاوية الشمالية للكعبة، وعندما اجتزنا الرواق وهممنا بالدخول إلى الساحة الكبرى حيث يتراءى بيت الله، أوقفنا دليلنا مؤشرا بإصبعه نحو الكعبة قائلا لي بنبرة عالية: «شوف شوف بيت الله الحرام».

إن صورة الموكب المحيط بي، والرواق ذي الأعمدة الممتدة على مدى اتساع النظر، والساحة الكبرى، ثم بيت الله المغطى من الأعلى إلى الأسفل بالقماش الأسود، والمحفوف بالمصابيح، في هذه اللحظات المواتية مع هدأة الليل، ودليلنا الذي كان يتكلم أمامنا بكل ذل وخشوع، شكل أمامي لوحة مهيبة لن تمحى من مخيلتي إلى الأبد.

إن مدينة مكة المقدسة هي عاصمة الحجاز أو الجزيرة العربية المقفرة لدى الجغرافيين القدامى، وهي مركز الدين الإسلامي، نظرا لوجود الحرم الذي شيده إبراهيم عليه السلام فيها لله تعالى، وهو الرمز الذي تصبو إليه أفئدة المسلمين كافة.

يوجد في مكة وظيفة مميزة تعرف بـ«المنجم الباشوي» أو رئيس المنجمين، لكن شاغلها ليس لديه من يعمل في خدمته، ويجهل موقع المدينة الجغرافي تماما، وليس لديه أي فكرة عن علم الفلك، وهو مع بقية الناس يعدون هذا الفن بكل سهولة كالتنجيم، ومع ذلك يتمتع ذلك الشخص بتقدير كبير.

تسمى هذه المدينة بالعربي مكة، وتقع في واد ذي سعة متوسطة، تقدر بـ155 تويسا (نحو مرتين) على خط مائل يتجه من الشمال الشرقي صوب الجنوب الغربي بين الجبال، ولهذا فالمدينة تتبع تعرجات الوادي، وتأخذ شكلا فوضويا غير منتظم، ويساهم هذا النظام في وضع البيوت التي بنيت في الوادي، وعلى منحدرات الجبال المحاذية.

إن صورة مكة المتوافرة في «أضابير الإمبراطورية العثمانية» لها أهميتها عندما لم تكن تشغل المدينة أكثر من نصف الوادي، ولكن تلك ليست مكة اليوم، فلا وجو لتلك النافورة الجميلة التي ترى في رسم ذلك الفنان الآن، والماء الوحيد الذي يوجد هو ماء الآبار، ولا أقول شيئا حول الحرم، لأن المخطط والصورة التي أعطيتها له تكفي لإثبات عدم دقة ما سطره م. أوسون، فمن دون شك لقد هيأ لي صورة لمكة رسمتها في مخيلتي، ولكن لأني أردت أن أكون أكثر دقة في لوحاتي، مثلما هو الحال في كتاباتي فلم أعمله، لأن الرسم سوف لن يعطي أكثر من تصورات غير واقعية، كما سيكون الحال مع المنظر العام لهذه المدينة.

وفضلا عن ذلك يمكن ملاحظة تكدس البيوت المتراصة والمتنامية شمال الحرم، بينما امتدادها في شكل هلال يمتد من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي في جزئها الجنوبي، وتتسع المدينة على خط طوله 900 تويس تقريبا، و266 عرضا في منتصف ما بين الشرق والغرب.

الشوارع الرئيسية منظمة بما فيه الكفاية، ومن الممكن أن نقول عنها إنها جميلة بفضل واجهات تلك المنازل المتاخمة لها، وهي ترابية ومريحة جدا، مثلما هو الحال في المدن الأفريقية التي اعتدت العيش فيها، لكنني اندهشت لمنظر مباني مكة الجميلة، وأعتقد أن هذه المباني أخذت طابعا هنديا أو فارسيا وصل إلى مكة خلال حكم الخلافة في بغداد.

ويظهر في غرف المنازل صفان من الشبابيك كما هو موجود في قبرص، وكثير من الشرفات المغطاة بالمشربيات، وترى أيضا بفتحات تظل مفتوحة تماما كما هو الحال في أوروبا، ولكن القسم الأكبر منها مغطى بستارة من سعف النخيل الخفيف جدا كي يقي من حرارة الشمس دون أن يمنع دخول الهواء، وترفع هذه إلى الأعلى بحرية كما هو الحال في تلك التي تستعمل في أوروبا.

وكل البيوت المكية بنيت بالحجارة بشكل متين، وتوجد فيها ثلاثة أو أربعة طوابق وأحيانا أكثر، وواجهاتها مزخرفة بزخارف ناتئة ورسومات، مما يعطي مظهرا جميلا، لكن الغريب في الأمر هو الأبواب التي لا تحمل أي زخرفة، ولها قاعدة بدرج، ودكات من الجانبين، كما أن مشربيات الشرفات ليست واسعة كما أنها مقطعة إلى أجزاء مع فتحات صغيرة.

وسقوف المنازل مستوية، أو ذات سطوح محاطة بسياج يعلو 7 أقدام، مقطع إلى أجزاء بفراغات تشكل مناور بيت بالطوب الأحمر والأبيض، المرصوف أفقيا، وبتناسق يسمح للهواء بالمرور، وتعطي كذلك جمالا للواجهات، وتمنع رؤية النساء عندما يخرجن إلى السطوح.

وكل السلالم التي رأيتها ضيقة ومظلمة، ودرجها عال جدا، ومقاس الغرف جيد سواء في الطول أو العرض أو الارتفاع، وفضلا عن الشبابيك والشرفات الواسعة يوجد في هذه البيوت صف آخر من نوافذ أصغر محاطة برف خشبي كما هو الحال في الإسكندرية، يستفاد منه في وضع مختلف الأشياء.

وجمال الأبنية يؤكد الماضي الناصع لمكة، ومن ناحية أخرى، فإن سكان هذه المدينة لديهم الرغبة الأكيدة في المحافظة عليها لجذب الحجاج، حيث إن إيجار البيوت يعد موردا رئيسيا لهم.

لا توجد في مكة أسواق بالمعنى المعروف للسوق، لأن طبيعة الأرض وضيق المجال لا يسمحان بذلك، فالأسواق العامة تحتل الشوارع الرئيسية على امتدادها، ويمكن القول: إن الشارع الكبير في قلب مكة هو سوق مستمر تلتقي فيه أطراف المدينة، والبائعون يجلسون في أكواخ من العصي والحصر، وآخرون لا يملكون غير شمسية كبيرة، مستندة على ثلاثة أعواد تجتمع في الوسط.

هذه الأسواق يوجد فيها الزاد والمؤن بما فيه الكفاية، وكذلك كل أنواع الأشياء العادية، وفي كل ساعات النهار ترى السوق مزدحمة بالناس، وخاصة في الحج، ويوجد أيضا بائعو الأكلات الشعبية المتجولون وبائعو الحلوى، وكذلك الصباغون والإسكافيون وصنّاع آخرون من هذا النوع.

والمواد الغذائية وإن كانت موجودة بوفرة، لكنها غالية الثمن باستثناء اللحم، فكبش كبير يكلف 7 فرنكات، أما الطيور فنادرة وبدرجة تالية يأتي البيض، ولكن لا يتوافر أي نوع من أنواع الصيد، أما القمح، أو يفضل القول الدقيق، فيأتي من أعالي مصر، والبقول والرز تصل من الهند، والخضراوات ترد من الطائف التي تمون أيضا بالقليل من الحنطة، وإن كانت أقل جودة من مثيلتها المصرية، والسمن الذي يحتفظ به في قربة أو عكة وهي وعاء منتشر في هذه البلاد، ولكن بسبب الحرارة فإنه يبقى سائلا باستمرار مثل الزيت.

أما أسعار المواد فهي متفاوتة للغاية بسبب انعدام الأمن في الجانب التجاري.

أما الأوزان والمقاييس فهي نفسها المستعملة في مصر، لكنها أقل دقة، بمعنى أنه لا جدوى من تحري الوزن الحقيقي.

والنقود المستعملة هي كما في مصر كذلك، فالدورو الإسباني يساوي في السوق خمسة قروش تركية، وكل قرش واحد منها يساوي أربعين بارة، وفي عملية الصرف يساوي أربعة ونصفا فقط، وفي مكة تتداول نقود من كل الدول، ويشاهد الصرافون يوميا، متربعين أمام طاولاتهم في الأسواق العامة، مع ميزان صغير وهم مشغولون في التصريف، وتتم عملياتهم في حقيقة الأمر بأسلوب فظ، لكن في كل الأحوال، يستحيل التصور بأن هؤلاء سيصبحون ضحية لأي أخطاء قد تقع.

كما توجد أيضا في أسواق مكة، كل المنتجات الطبيعية والصناعية من الهند وفارس، وقرب بيتي كان هناك صفان من الدكاكين المتخصصة فقط ببيع المواد العطرية، وقد احتفظت بكتالوغها ووصفها.

وفي مكة كما هو الحال في غيرها من مدن الجزيرة العربية، لا يعمل الخبز بالشكل المعروف، أو على الأقل حسب المتعارف عليه بهذا الاسم، بل يعمل من طحين مذاب في الماء بلا خميرة، أو أحيانا معها ولكن بكمية ضئيلة بحيث يشكل عجينا بغلظ 3 خطوط أو 4 فقط، وبقطر من 8 بوصات إلى 9، ويباع الرغيف نصف مستوٍ ورقيقا كالمعجنات، ويطلقون عليه «الخبز».

المياه الحلوة التي تحملها الجمال باستمرار من الجبال المجاورة ومن منى جيدة، وماء الآبار ولو أنه مالح بعض الشيء وثقيل إلى أنه صالح للشرب كماء زمزم والعامة لا تشرب من غيره.

واللحم الذي يؤكل في مكة أقل جودة، فمع وجود الخراف الكبيرة إلا أنها بشكل عام هزيلة، أما السمك فمجهول تقريبا مع أن البحر لا يبعد سوى 12 فرسخا والخضراوات التي تصل من الطائف ومن المناطق الأخرى المجاورة خاصة من وادي فاطمة تتكون من الفجل واللفت والقثاء والرجلة والكبار (الكرنب) ونوع من السلطة مكون من ورق مشابه لورق النجلي، وهذه النبتة الأخيرة التي استحال علي رؤيتها كاملة اسمها «الكراث».

أثناء إقامتي في مكة لم أرَ زهورا باستثناء واحدة عند ذهابي إلى عرفات، فأمرت واحدا من خاصتي أن يقطع النبتة ويأتي بها إلي، لكن لاحظه بعض الحجاج الذين أبعدوه في الحال عنها وزجروه، وقالوا له بأنه من الخطأ اقتلاع أو قص نبتة خلال الحج إلى عرفات، فوجدت نفسي مجبرا على ترك تلك الزهرة الوحيدة التي رأيتها.

ويعمل في مكة أنواع من الشراب: من الزبيب والعسل والسكر والفواكه، أما الخل الذي يحضرونه من الزبيب حسبما أفادوني فهو سيئ.

أعتقد أنه لا يوجد مدينة إسلامية تجهل الأعمال الحرفية مثلما هو حال مكة، فليس فيها شخص يستطيع أن يصنع قفلا أو يشكل مفتاحا، والأبواب تغلق بمفتاح بدائي من الخشب، والصناديق والحقائب تقفل بقفل مستورد من أوروبا، ولهذا فمن غير الممكن استبدال مفتاح حقيبة، ولا حتى مفتاح صندوق التلسكوب الذي سرقوه مني في منى.

تأتي النعال والأخفاف من القسطنطينية ومن مصر، لأن أهل مكة لا يصنعون سوى القبقاب الخشبي أو الجلدي بلا دباغة، وكذلك أحذية سيئة للغاية، ولا يوجد متخصصون بالأعمال الدقيقة، ولا من يجيد الرسم أو النقش على الحجر كما هو الحال في وقت مضى، كما لا يوجد بائع أسلحة يستطيع أن يعمل مسمارا أو يضع قطعة في صفيحة بندقية أوروبية، وبائعو الأسلحة هؤلاء لا يعرفون صنع أكثر من البنادق الشرارية البدائية، والسكاكين المحدبة، والرماح التي تستعمل في البلاد بأي منطقة كانت، ويتم التسليح بها لأي محترف بأي لحظة، فكل أدواته هي حفرة في الأرض كي تكون فرنا، وجلد أو جلدان لماعز، وأحد العاملين يحرك المنفاخ أمام المكان بالتناوب، وحصيرتان أو 3 من سعف النخيل، و4 عصي تشكل الحيطان وسقف المعمل، ويغير مكانه كلما تطلبت الحاجة لذلك.

ويوجد عدد من الحرفيين الذين يطلون الأدوات النحاسية بالقصدير، وإن كانت هذه المصنوعات تصل من الخارج، كما يوجد كذلك سمكريون يصنعون نوعا من الأواني التي يستخدمها الحجاج لحمل ماء زمزم، حتى أني وجدت نقاش أختام نحاس سيئا.

كذلك الحال فيما يتعلق بالعلوم التي تبدو مهجورة في مكة كما هو شأن الأعمال الحرفية، وكل قاطنيها يقتصرون على قراءة القرآن، وتعلم الكتابة ولو بطريقة رديئة، ومنذ الصغر يتعلمون الصلوات ومناسك الحج إلى بيت الله، والذهاب إلى الصفا والمروة للحصول على الكسب السريع بخدمة الحجاج مطوفين، ولهذا فستجد أطفالا في الخامسة أو السادسة من أعمارهم يقومون بهذه المهمات محمولين على أكتاف الحجاج أو أذرعتهم، يكرر هؤلاء الأدعية التي يتلوها الأطفال كلمة بكلمة بصوت عال، وفي الوقت نفسه يوجهون مسيرة الحجيج لأداء مناسك الحج في مختلف محطاته.

وقد أردت اقتناء ورد مكتوب في مكة، لكن كان الحصول عليه من الصعوبة بمكان، وإذا ما توافر فهو سيئ للغاية، ومليء بالأكاذيب ولا يفيد بشيء.

وليس في مكة مدارس نظامية، وإنما هناك أمكنة لتعليم القراءة والكتابة، وما عدا ذلك فهناك بعض الطلاب أو الأساتذة يذهبون بدافع الطموح أو الغرور أو الطمع في مكافأة ما للجلوس تحت الأروقة أو في صالات الحرم حيث يقرأون بصوت عال لجذب المستمعين الذين يحضرون عادة واحدا بعد آخر ليصطفوا في حلقة حول الأستاذ، وهذا معناه أن تقرأ أو تعظ كما يحلو لك، وأن تذهب وتعود متى شئت، هذه النظم السائدة والموجودة في هذه المدينة المقدسة، وفي كل مساء يذهب اثنان أو ثلاثة من هؤلاء الأساتذة إلى أروقة الحرم، ولكن لم أر مع أحدهم أكثر من 12 شخصا.

حرية للمرأة المكية

* ويتحدث باديا عن المرأة المكية وماذا ترتديه من ملابس، مشددا على أن المرأة المكية تتمتع بحرية أكبر من تلك التي نجدها في مدن إسلامية أخرى، ربما كان لحالة الازدهار وكذلك توافد الأجانب المكثف دور في هذا الانفتاح، كما أن لحالة الفقر والبؤس التي يعيشها الناس أثرها أيضا، فكل ذلك حد من محافظتهم على خصوصيتهم بتفاوت اقترب من الهجران، والحقيقة أن الغنى والفقر هما على السواء طرفا نقيض فيما يتعلق بالمحافظة على العادات والتقاليد.

تغطي النساء وجوههن بقماش، فيه فتحتان للعين كما هو الحال في مصر، لكن هاتين الفتحتين من السعة بما يمكن من رؤية نصف الوجه، ومع ذلك يبقى القسم الأكبر منهن مكشوف الوجه، وكل النساء يرتدين نوعا من الأردية الضافية، المخططة بالأزرق والأبيض على طوله وعرضه كما هو موجود في الإسكندرية، وهي مصممة تصميما حسنا، وطيلة مدة إقامتي في مكة كانت السماء تتناوب فيها الغيوم، مع رطوبة في الليل كما هو الحال في البلدان المعتدلة، ولم ألحظ تغييرات فجائية في الحرارة أو الرطوبة كما يحدث في جدة.

يبدو أن جو مكة صحي، فليس هناك الكثير من المرضى ولا حتى الأمراض المزمنة، ولكن لا يوجد في الوقت نفسه شيوخ بعمر متقدم، كما لا يوجد عميان، ولا أمراض عيون مثلما هو شائع في مصر.

ومن خلال ما ذكرت يسهل تكوين فكرة حول الحرارة العالية خلال الصيف، ففي شهر يناير، والشبابيك مفتوحة ليلا، بصعوبة أتحمل شرشفا يغطيني، وفي الوقت نفسه فإن الزبدة تبقى دائما سائلة كالماء.

ماذا يحدث في شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب)؟ إن المدينة تقع داخل المنطقة الشديدة الحرارة بمقدار درجتين، فالشمس عمودية تقريبا، أو عندما تزيد درجتين يختلف موضعها في السمت لمدة شهرين ونصف الشهر، أي من منتصف شهر مايو (أيار) وحتى نهاية شهر يوليو، وإذا أضفنا لهذا موقع المدينة في عمق واد ترابي، ومحاطة من جميع الجهات بالجبال الصخرية الملساء، ودون مياه جارية، فلا نهر ولا عيون ولا أشجار ولا نباتات، ولا أي غطاء نباتي، فلك أن تتخيل الحرارة السائدة هناك في فصل الصيف! بلا شك، الله تعالى تكرم بوضع حرمه هناك رحمة بقاطني هذه المدينة الذين لولاه لاختفوا تماما من على وجه البسيطة.

ليس في مكة كما هو الحال في بلدان أخرى أطباء بما تعنيه الكلمة، وقد وجدت مع ذلك اثنين، كانت لديهما الجرأة في أن يسميا أنفسهما أطباء، أحدهما كان عليه أن يبدأ بعلاج نفسه. هؤلاء المتطببون يوظفون باستمرار الأدعية والممارسات الخرافية في علاج مرضاهم، ونتيجة لذلك لا يمكن أن يؤمل بوجود صيدليات أو بائعي أدوية وعقاقير، وعندما يقع أحد السكان طريح الفراش يقوم حلاقه بعمل مشروب فواكه له، ويعطونه كميات من ماء الزنجبيل، ويسقى كذلك من ماء زمزم المعجزة ويغتسل منه، كما يناولونه الكثير من القرفة والقرنفل وغيرها من الأفاويه، والمريض يشفى أو يموت حسب إرادة الله.

ولأني أحمل خزانة أدوية فقد كنت أعالج خدمي عندما يمرضون، وعندما تعرض الخازندار أو رئيس خدمي لنوبة من الحمى، أعددت له مقيئا تناوله فكان علاجا ناجعا، ولكن في اليوم التالي، وعوضا عن أن يتحسن كما كان متوقعا فإنه أصيب بنوبة حمى أشد، ولم أعرف لماذا حدث هذا التدهور غير المتوقع؟ ثم عرفت صدفة بعد أن صعدت في تلك الأمسية إلى الحرم بأنهم كانوا قد نقلوه خلال الليل إلى بئر زمزم، وبللوه كثيرا بالماء البارد، وأعطوه من ماء زمزم ليشرب منه ما استطاع، وعند عودتي إلى البيت زجرت معنفا من قاموا بهذا الفعل دون إخباري، وعاودت مداواة الخازندار الذي عاد إلى صحته العادية.

أما بلسم مكة المشهور فهو مما جادت به هذه المدينة، وقبل ذلك كان نادرا ما يعرف، ولا يتوافر إلا عندما يأتي به البدو صدفة من أماكن أخرى من الجزيرة العربية، أحد هؤلاء الجالبين لهذا البلسم ويبدو أنه من غير أهل مكة فهو على شيء من الاطلاع والمعرفة قال لي: إن هذا البلسم يستخرج بصورة رئيسية من منطقة المدينة واسمه «بلسم»، لكن أهل بلده لا يعرفون الشجرة التي تنتجه، وهي التي تحمل اسم شجرة خيلياد.

حالة سياسية فريدة

* كانت الحالة السياسية للبلاد فريدة من نوعها عند وصولي، فالشريف هو الحاكم الفعلي والمباشر، وعلى الرغم من الاعتراف بمملكته فإنه يعد ممثلا ساميا فيها لسلطان القسطنطينية، وكان يدعو له في خطبة الجمعة، في الوقت الذي كان فيه (السلطان) سعود يسيطر على البلاد مع جماعته، وقد منع ذكر سلطان القسطنطينية في خطبة الجمعة التي سبقت عيد الأضحى.

وكان الباب العالي قد أرسل أحد باشاواته إلى جدة، لكن هذا الباشا أمضى الوقت في مكة يأكل على نفقة الشريف دون أن يمارس أي عمل رسمي، حيث كان الشريف يتجاهل وجوده تقريبا.

كان سلطان «القسطنطينية» يرسل كل عام إلى مكة وجدة والمدينة قضاة كي يقوموا بمهمة القضاء، لكنهم لم يستطيعوا التكيف أبدا مع ما يتعلق بموضوع الإدارة، لأن هذه كانت تحت سلطة الشريف بالكامل، الذي كان يحكم وكأنه سلطان مستقل بواسطة ولاته الذين يحملون لقب «وزير» مع أنهم كانوا من عبيد الشريف الزنوج.

السلطان سعود فرض طاعته هناك، ولكنه لم يكن قد أحكم سيطرته تماما، ولم يفرض الإتاوات، ويبدو لي مع ذلك أنه ما زال يحترم سلطة الشريف.

وبينما كان الشريف يزاول مهامه بكونه سلطانا مستقلا، كما لو كان المتحكم المطلق في حياة الناس وأموالهم، وحسب مشيئته كان يملي السلام أو الحرب، ولديه نحو ثلاثة آلاف رجل من الجيش بين أتراك وزنوج ومغاربة، وهذا كله لم يكن كافيا للوقوف في وجه طموحات السعوديين، فكان يجبر على احترام أوامرهم، وتنفيذ القوانين التي يفرضونها تاركا العمل لهم بحرية، ومع ذلك فقد كان حريصا على أن تكون قلاعه مغلقة، وفي حالة دفاعية كي يحافظ على قوة كبيرة باستمرار.

مثل هذا الصراع على السلطة نتج عنه أن مدينة مكة لا تعرف من هو صاحبها الحقيقي، فالسلطة المتنازع عليها من قبل الكثير من المتآمرين ستلحق الضرر بشؤون العدل وحقوق الأفراد وحريتهم الشخصية، ومن ثم سيؤدي ذلك وبخطى حثيثة إلى انهيار سعادة الرعية.

ليس للشريف علاقات سياسية مع أي من الحكام الآخرين، ما عدا علاقته بتركيا، فلا يوجد في البلاد قنصل ولا مفوض لدولة أجنبية، والإنجليز هم وحدهم الذين لهم حضور بين وقت وآخر في ميناء جدة، لأن لهم حظوة لدى الناس، فهم يتاجرون معهم في الهند، وقد قلنا: إن الشريف هو الممثل الرئيسي لهذه التجارة، فسفنه تبحر من جدة، وتصل إلى مخا، ومن هناك تواصل إلى مسقط فسرات (ميناء هندي تجاري شهير).

كانت هذه هي الحالة السائدة في البلاد عندما أعلن السلطان سعود في السادس والعشرين من فبراير (شباط) سنة 1807م (18 من ذي الحجة 1221هـ) في كل الساحات والأمكنة العامة، أنه يجب على الجنود الأتراك والمغاربة التابعين للشريف الخروج من مكة في عصر اليوم التالي، والرحيل إلى خارج الجزيرة العربية، ويشمل هذا القرار الباشا التركي الموجود في جدة، وكل القضاة القدماء والجدد في مكة والمدينة والأماكن الأخرى، وقد نزع سلاح الشريف، وبهذا انهارت سلطته، وانتقلت السلطة القضائية إلى يد السعوديين.

لقد قالوا بأن السلطان سعود سيقتفي أثر هذا الحرس والحجاج حتى الحدود السورية، ثم يعود في الحال ليوطد استقراره في مكة، أو على الأقل ينصب أحد أبنائه على حكومة هذه البلاد، وفي هذه الحالة تصبح المملكة العربية الجديدة للسعوديين وقد ارتفع شأنها، وأصبحت مماثلة للخلافة القديمة.

ويعبر الرحالة عن رأيه تجاه الدعوة الإصلاحية من منظور غربي بقوله، إن مسيرة السعوديين يمكن أن تكون في يوم ما ذات أهمية كبرى من خلال نفوذها الذي من الممكن أن تفرضه في عملية التوازن مع الدول المحيطة، خاصة إذا ما خففوا من تشدد مبادئهم، والتزموا نظاما أكثر مرونة، لكن لو أصروا على التمسك بصرامة بما نص عليه المصلح فسيكون من شبه المستحيل عليهم أن يحملوا تلك الأمم التي لديها بعض مبادئ الانفتاح على قبول دعوتهم، وأن يمتد نفوذهم لأبعد من حدود صحاريهم، وسيصبحون عند ذلك بلا أي أهمية لبقية العالم، موضحا كانت المدينة ومكة على قدر كبير من الاهتمام بالتمسك بالطقوس القديمة، وكذلك أيضا الارتباط بالممارسات والاهتمامات الشعبية التي تغذيها، فلم تكن هذه متوائمة مع ما دعا إليه المصلح، ولذا فقد قرر الاتجاه نحو الشرق في سبيل مد خطواته لنشر دعوته بين القبائل العربية البدوية، لأنها لم تكن تختلف معه فيما يتعلق بالعبادات، كما أنها كانت على قدر كبير من الجهل، وهذا يجعلها قليلة التمسك أو الدفاع عن طقوسها الخاصة، ولكونها من جهة أخرى غير مهتمة بالانحياز لأي جهة كانت فقد منحته تسهيلات كبيرة كي يواصل مسيرته، وينشر مبادئه دون عوائق.

وبالفعل فقد حصل (ابن) عبد الوهاب على نصير له، تمثل ذلك في شخصية ابن سعود، الأمير أو شيخ العرب الكبير المقيم في الدرعية، وهي المدينة التي تبعد 17 مرحلة إلى الشرق من المدينة في الصحراء، ومنذ ذلك التاريخ (1747م) بدأت حركة إصلاح (ابن) عبد الوهاب.

إن (ابن) عبد الوهاب لم يقدم نفسه بصفته نبيا مرسلا أبدا البتة كما أراد بعضهم تصوير ذلك، وإنما اقتصر على كونه شيخا مصلحا، أراد تصفية العقيدة من كل الإضافات التي أضافها الأئمة والشراح أو العلماء، وإعادتها كما كانت في بدايتها النقية وكما جاءت في القرآن، ولكن لكون الإنسان إنسانا دائما، وهذا يعني أنه قاصر فإن (ابن) عبد الوهاب قد وقع في قضايا جانبية لم يكن لها علاقة بالعقيدة ولا بالأخلاق.

وأورد الرحالة بعض النماذج التي تعكس موقف أهل البدع المعادي للدعوة السلفية.

النصر حليف السعوديين

* ويعود باديا للحديث عن الأسلحة والملابس والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والدينية وتوقعاته عن الدعوة الإصلاحية بقوله: الأسلحة التي يستخدمها السعوديون هي السلاح نفسه الذي يستخدمه أهل مكة، فهم يستوردون من أوروبا وتركيا بنادق ذات مواسير غليظة ويستخدمونها بخشونة، وهم أنفسهم أيضا يصنعون البارود وطلقات الرصاص ولكن بقدرات ضعيفة، والبارود يخرج كله تقريبا على شكل حبات، الغليظة منها كحبة البازلاء، أما الطلقات فليست أكثر من حجارة مغلفة بطبقة خفيفة من مادة الرصاص، ويشترون هذا المعدن والكبريت من مكة ومن بقية المدن الساحلية في شبه الجزيرة العربية، بينما يجدون ملح البارود متوافرا في بلادهم.

وملابس السعوديين مثل ملابس العرب الآخرين، وقد لحظت أن ولدي سعود هما الوحيدان اللذان لهما شعر طويل، مما يميزهما بكونهما أحدي أفراد العائلة المالكة، وكما قالوا لي فإن السلطان يتظاهر بأبهة غير عادية، ولكني رأيته عاريا تماما منها في وقت الحج.

أما الدرعية العاصمة، فهي مدينة كبيرة، تقع على بعد 130 فرسخا إلى الشرق من المدينة، وتبعد 100 فرسخ إلى الجنوب الغربي من البصرة، و160 فرسخا إلى الجنوب الشرقي من القدس.

وليس للسعوديين تنظيم عسكري، وكل مخططاتهم العسكرية تعتمد على تجمعهم على شكل أفواج تحت إمرة قائد يتبعون كل حركاته بلا ترتيب أو تشكيلات، وحقيقة تنظيمهم العسكري هو إسبرطي، طاعته مطلقة، وتكفي إشارة صغيرة من قادته كي تفرض السكوت والاحترام، أو إخضاعهم لأشق الأعمال وأقساها.

أما نظامهم المدني فليس في أحسن حالاته، فلا يوجد من بينهم موظفون، وبدرجة أقل كثيرا المحاكم العليا أو الصغرى، وكل شيخ أو رئيس قبيلة هو مسؤول عن دفع العشر، وتوفير فرقة من الرجال للحرب، ويرسل (الإمام) سعود قضاته إلى تلك المدن التي تخضع لسيادته، ولم يكن لديه قضاة أو ولاة أو باشاوات أو وزراء أو حتى موظفون آخرون.

إن المصلح (ابن) عبد الوهاب نفسه لم يحمل أي ألقاب سواء كانت فخرية أم سياسية، وكان دائما هو رئيس المذهب، ولم يطلب أبدا أي تمييز أو اعتبار شخصي، وقد حافظ ابنه الذي خلفه بعد وفاته على نفس روح البساطة.

ويعتقد باديا أن السعوديين في عمق صحرائهم سيظل النصر دائما حليفهم، ليس ذلك بسبب قوتهم العسكرية وإنما لطبيعة بلادهم التي لا تصلح لسكن أي أمة أخرى، ولسهولة اختفائهم والهرب من قبضة أعدائهم.

وسيتمكن هؤلاء من فتح مكة والمدينة والمدن الساحلية مؤقتا، لكن هل تستطيع حامية متواضعة ومعزولة في وسط صحراء مرعبة البقاء لمدة طويلة؟

عندما يتقدم عدو قوي إليهم فإن السعوديين يختفون كي يهجموا عليه ويحطموه في الحال، ويجد نفسه مشتتا يبحث عن لقمة العيش، وهذا ما يدفعني إلى الاعتقاد بأنهم لن يستمروا وقتا طويلا خاضعين تحت قوة السلاح، وهو نفس السبب الذي وقى الجزيرة العربية في كل الأوقات من السيطرة الأجنبية(ما ذكره باديا غير صحيح بدليل استمرار الحكم السعودي).