ذكريات «حلوة» ومواقف «مرة».. يكشف عنها أصدقاء الوزير القصيبي.. لأول مرة

5 من كبار مسؤولي الدولة وشاعر بحريني حاولوا تلخيص مسيرة 50 عاما في 150 دقيقة.. بلا دموع

وزير الإعلام خلال كلمته
TT

لم تكن ليلة «بكائية»، كما تُوقع لها أن تكون، على الرغم من أن من أحيوها يعدون من الأصدقاء المقربين جدا له. لكنها كانت «ليلة المفاجآت»، وفيها من الذكريات الحلوة، والمواقف المرة، ما يكشف عن أمور في حياة الراحل غازي القصيبي لأول مرة.

كثيرة هي القصص التي كشف عنها 5 من كبار مسؤولي الدولة السعودية، وشاعر بحريني، للوزير الراحل، غير أن أكثرها إثارة، تلك التفاصيل التي أوردها الدكتور عبد العزيز الخويطر، وزير الدولة، عن تخلي أصدقاء غازي الصحافيين عن زميلهم بعد توليه وزارة العمل، وذلك لصالح الحفاظ على علاقاتهم مع أصحاب رؤوس الأموال.

وعلى مدار 150 دقيقة، حاول أصدقاء الوزير الراحل تلخيص مسيرة 50 عاما، قضاها القصيبي متنقلا بين مفاصل العمل الحكومي، والتمثيل الدبلوماسي في الخارج، قبل أن تعيده القصيدة العصماء التي كتبها انتصارا للفلسطينيين من عاصمة الضباب إلى داخل مؤسسات الدولة من جديد.

وخلافا للأصوات التي انتقدت أداء الوزير القصيبي إبان توليه زمام الأمور في وزارة العمل، وقف وزير الدولة، عبد العزيز الخويطر، مدافعا عن أداء زميله الراحل.

وقال: «هناك من يقول إن غازي أخفق حينما تولى وزارة العمل. هذا غير صحيح. الصحيح هو أن وزارة العمل وقفت على قدميها بمجيء غازي. فلقد صحح مسار الوزارة، ووضع القطار الأوتوماتيكي على طريق مستقيم».

وبجرأة، تحسب للوزير الخويطر، قال إن أصدقاء غازي الصحافيين تخلوا عنه بعد توليه وزارة العمل، وذلك للإبقاء على علاقاتهم مع أصحاب رؤوس الأموال الذي يعلنون في صحفهم، وكانوا بالأساس مناوئين لغازي، جراء الإجراءات التي اتخذها بعد توليه زمام الأمور في وزارة العمل.

وبينما حاول محمد رضا نصر الله، عضو مجلس الشورى، ومدير الجلسة الحوارية التي خصصت عن الوزير القصيبي، عكس وجود اختلاف بين مزاجي الخويطر والوزير الراحل، نفى الأول هذا الأمر. وقال: «لا وجود لاختلاف بين مزاجي ومزاج الوزير القصيبي. غير أن كل ما في الأمر هو أن غازي يحب أن يقفز الحواجز، وأنا كنت أنصحه بأن يمسك الرسن قليلا».

وأعطى وزير الدولة الخويطر، الوزير الراحل، شهادة تاريخية، حينما قال في حقه: «غازي القصيبي أبدع بعمله في كل الوزارات التي تسلمها. غازي عملاق في كل شيء تلمسه يداه، شعرا ونثرا وأدبا وثقافة وإدارة ورواية».

وكثيرا ما كان المختلفون مع غازي القصيبي يصفون فكره بالتغريبي. أمر بدأ مع أول يوم صدرت فيه رواية «شقة الحرية» التي كانت حاضرة وبقوة في أمسية أول من أمس، وانتهاء بمنصبه الأخير في وزارة العمل، وما كان يقوم به من مجهود لصالح توفير فرص عمل خاصة بنساء بلاده.

لكن ما لم يعرفه مخالفو القصيبي، وغيرهم كثر، هو ما أفصح عنه الوزير الخويطر، حينما قال: «لقد كان غازي عالما بعلوم القرآن على نحو لا يجاريه فيه أحد، وقد أصبح القرآن من يومها في ذهنه وفي شعره»، مدللا على ذلك بافتتاح القصيبي قصائده بأسلوب التساؤل، وهو الأسلوب الذي جاءت به العشرات من السور في القرآن الكريم.

وفي أجواء مجلس الوزراء، يتحدث الخويطر، عن أن غازي كان ينشغل في بعض الأحيان بكتابة أبيات من الشعر يوجهها لأحد وزراء الحكومة، أو كان يرسم أحد الأشخاص الحاضرين.

لكن عبد الرحمن السدحان، أمين عام مجلس الوزراء في السعودية، أكد بشكل واضح أن غازي كان يقوم بدور «فك الاشتباك» حول أي قضية من الممكن أن تتباين حولها الرؤى داخل جلسات المجلس الأسبوعية.

ويقول السدحان: «كان الوزير القصيبي عضوا فاعلا في مجلس الوزراء، وكان لا يتحدث إلا إذا كان هناك بد لذلك، وكان رأيه في كثير من الأوقات يضع النقاط على الحروف، ويكون رأيا حاسما، وقد يفك الاشتباك الحواري في قضية ما».

ويضيف: «كم من مرة حدثت هناك اشتباكات داخل مجلس الوزراء، وكنت من موقعي في المجلس أعطي غازي إشارة بعيني أن (تدخل وفض الاشتباك). هذا ما كان يحدث بالضبط».

وبلغة يعتريها الألم، أوضح أمين عام مجلس الوزراء في السعودية، أن التشكيك في إيمان غازي ومعتقده، استمر من أصحاب الهوى حتى بعد مماته. حيث كان المختلفون معه يدفعهم حب الشهرة من وراء ذلك الاختلاف.

ولعل أكثر المحطات التي دفعت نجم غازي للبزوغ، العمل الروائي الأكثر جدلا «شقة الحرية»، وهو العمل الذي وجد من المحافظين انتقادا لاذعا له ولصاحبه، قبل أن تخرج اتهامات التغريب في حق كاتب الرواية.

لكن الوزير الدكتور سليمان السليم، الذي كان يشغل منصب وزير التجارة سابقا، كان من رواد شقة الحرية التي جسدها القصيبي في عمل روائي، وقدم مساء أول من أمس مذكرة تفسيرية لرواية «شقة الحرية»، تنشرها «الشرق الأوسط» بشكل مستقل، وفيها ذكر: «.. نمطها (شقة الحرية) كما يشهد بذلك من عاصروا تلك الفترة. نمط عادي. ما هو غير عادي كان خيال غازي الخصب الذي نفخ الروح فيها. فشخصيات (شقة الحرية) شخصيات كاريكاتيرية، بالغ غازي في بعض صفاتها مثلما بالغ رسامو الكاريكاتير في حجم أسنان كارتر، أو أذني الرئيس أوباما».

ولا يزال الدكتور محمد عبده يماني، وزير الإعلام السابق، الذي أسهم في إحياء ذكرى الراحل أول من أمس، يتذكر مناكفات غازي القصيبي له حينما كانوا وزراء في الحكومة التي ترأسها الملك الراحل خالد بن عبد العزيز.

ويقول يماني: «في إحدى المرات، كانت جلسة مجلس الوزراء، يغلب على موضوعاتها كافة طابع السرية، طائرات عسكرية وخلافه، وقتها كان القصيبي يتندر، ويقول: (ماذا يمكن أن تقول في البيان الختامي للجلسة؟!)، قبل أن يتولى أحد زملائنا إعداد بيان عام نظرا لقوة لغته وأدبه».

ومن المواقف الطريقة التي لا تزال عالقة في ذهن وزير الإعلام السابق يماني، حينما دعاه الملك خالد، هو و4 وزراء آخرين منهم القصيبي والخويطر، لرحلة صيد.

يقول: «لم يكن أحد منا يجيد الصيد بالصقور. لكن وقتها لم نرفض طلب الملك للخروج، حيث أمر بإحضار 5 صقور ليصيد بها وزراؤه، فتم إطلاقها واحدا تلو الآخر، ولم يعد أي منها مرة أخرى».

ويضيف: «وقعنا وقتها في موقف محرج فلقد تسببنا في ضياع صقور الملك. فلم يجد غازي بدا من كتابة قصيدة كاملة للملك خالد يعتذر فيها عن إضاعة الصقور، ويصف فيها مجموعة الوزراء بأنهم غشيمون في الصيد».

ولم يقف الحديث عن غازي القصيبي، عند أصدقائه مسؤولي الدولة، بل كان لصديقه المحبب إلى قلبه، عبد الرحمن الرفيع، الشاعر البحريني المعروف، وقفة في ذكرى غازي، وخصوصا بعد تخطي الراحل سن الخمسين، وقدوم حفيده الأول.. وغيرها من المواقف التي أسفرت عن قصائد متبادلة بين الشاعرين.

ولعل من أطرف المواقف التي ساقها الشاعر الرفيع، كان عندما زار عدد من شعراء البحرين سفارة السعودية لتهنئة غازي باليوم الوطني للسعودية، وكانت له لحية قصيرة فكتبوا قصائد رثاء فيها.

وجاء في قصيدة «لحية غازي»:

«ما رأينا قبل هذا لحية عاشت قليلا..

مثلما لحية غازي لم تدم عمرا طويلا..

ولدت ذات صباح واختفت أن أصيلا..

لحية ويح الليالي لم تر العيش الجميلا..

ما سعى مشط أنيق في ثناياه مهيلا..

لا ولا شمت بخورا والتوت عطرا أصيلا..

لو على اللحية يبكى لبكيناها طويلا..

قتلت من غير ذنب رحم الله القتيلا..».

ورد غازي القصيبي بعد هذه القصيدة بقوله: «أفلسوا شعراء البحرين، فلم يعد لديهم موضوع سوى لحيتي ليكتبوا فيها».

ولم تكن المنامة حاضرة وحدها في ذكرى غازي، فلقد كانت الكويت حاضرة هي الأخرى، وبقوة، عبر الأديبة والمثقفة الكويتية نورية الرومي، التي وصفت غازي بأنه كان قائد المقاومة الكويتية الباسلة في وجه الغزو العراقي الغاشم، وذلك بقصائده التي انتصرت للكويت، ولعل أهمها قصيدة «أقسمت يا كويت.. برب هذا البيت».