مذكرة تفسيرية للرواية الأكثر جدلا.. «شقة الحرية»

TT

«كنت أحد رواد تلك الشقة».. بهذه العبارة رد الدكتور سليمان السليم، وزير التجارة السابق، على سؤال حول علاقته بـ«شقة الحرية»، التي كانت أمرا واقعا فعلا، وجسدها الوزير غازي القصيبي بعمل روائي، أثار حوله جدلا لم ولن ينتهي.

الدكتور السليم، الذي كان من أعز أصدقاء القصيبي، قدم ما يشبه أن يكون مذكرة تفسيرية لرواية «شقة الحرية»، مستعرضا الحقبة الزمنية التي جمعته وغازي ووزراء آخرين.

وجاء في هذه المذكرة:

«أرجو ألا تكون ليلتنا هذه بكائية أخرى. فقد ذرف من الدمع على غازي ما لم تذرفه الخنساء على صخر. أراد غازي في ما كتب ونظم أن يدخل الجمال والبهجة إلى قلوبنا، فلنحاول ألا نخيب أمله. من هذا المنطلق اسمحوا لي أن أنقل إليكم جو الشقة التي شهدت أول لقاءاتي بغازي»..

«تقع الشقة في بناية قرب ميدان المساحة (عبد المنعم سابقا)، بحي الدقي، مسيرة ربع ساعة من جامعة القاهرة. سكانها غازي ومحمد صالح الشيخ، وهما من طلبة كلية الحقوق، ومحمد كانو، وهو من طلبة كلية التجارة»..

«نحن نتحدث عن خمسين سنة مضت. أدركنا بقايا مصر التي عايشها كبيرنا الذي علمنا كل خير الدكتور عبد العزيز الخويطر، ووصفها في مذكراته. لم تكن هناك ثلاجات كهربائية، وإنما صناديق ثلج وقلل فخار توضع في الشرفة. لم تكن هناك أفران غاز، وإنما دافور لإحماء صندوق حديد لتحضير المعكرونة بالباشاميل والكنافة في رمضان. لم نعرف الغسالة الكهربائية، وإنما كانت أم سيد تتربع أمام (الطشت) وتدعك الغسيل بقالب الصابون الضخم، حيث لم يعرف مسحوق (تايد) بعد. لم يكن هناك تلفزيون، وإنما راديو وربما غرامافون. تلك كانت الشقق التي يتبختر فيها الطلبة الخليجيون بأرواب الـ(دي شامبر) التي يحرصون على اقتنائها حال وصولهم مصر»..

«حدثت التغيرات ونحن هناك.. دخل الفريجيدير، ودخلت أنبوبة الغاز، ودخل (أومو) الذي يغسل أكثر بياضا، كما ادعت إعلاناته. لكن أم سيد استمرت في أداء مهامها الدعكية، لأن كلفتها أهون من شراء الغسالة وتشغيلها»..

«كان الراتب الشهري 33 جنيها. وإيجار الشقة 15 جنيها. وراتب الطباخ 5 جنيهات إذا كان يقوم بالتسوق، وأكثر من ذلك إذا تولى أحدنا المهمة وحرمناه من السعي الذي يحصل عليه من الجزار والفكهاني أو من التحسينات التي يدخلها على الفواتير»..

«يتقاسم السكان هذه التكاليف الثابتة، وما يتبقى يتيح الذهاب مرة في الأسبوع إلى سينما مترو ماتينيه أو سواريه بتذكرة تكلف 18 قرشا. مع التوقف في (بامبو) أو (الأميركيين) لتناول معكرونة بالفرن وقوفا بتكلفة ستة قروش. بعد ذلك قد يتسنى المرور على بائع الآيس كريم وطلب (تروا بتي كوشو)، مع زم الشفتين وتدويرهما وبصوت مسموع للفت النظر إلى بدلة الشركسكيين وربطة عنق السولكا اليتيمة. أما من ابتلي منا بالتدخين، فإنه يضع الكرافن أي (أبو بس) الإنجليزي بعلبته الذهبية الفالصو في جيب، وفي الآخر علبة البلمونت المصري، ثم يلبس لكل حالة لبوسها»..

«لم يكن أحد منا يحلم باقتناء سيارة، ولكن (الأبونيه) يتيح ركوب الأوتوبيس من دون حدود. وذلك مفيد وقت انقطاع الكهرباء، حيث يستطيع الطالب المذاكرة في الأوتوبيس من دون تدخل الكمساري الذي يعتبره أحد سكانه»..

«أما مطاعم الشيوي والحاتي وخميس وصوفر وكافيتريا الهيلتون فقد تحظى بتذوق طيباتها ولكن بمعية الأقارب الميسورين الذين يأتون لزيارة المحروسة»..

«هذا باختصار جانب من حياة سكان الشقة. ونمطها كما يشهد بذلك من عاصروا تلك الفترة. نمط عادي. ما هو غير عادي كان خيال غازي الخصب الذي نفخ الروح فيها. فشخصيات شقة الحرية شخصيات كاريكاتورية، بالغ غازي في بعض صفاتها مثلما بالغ رسامو الكاريكاتير في حجم أسنان كارتر، أو أذني الرئيس أوباما»..

«كان سكان الشقة وروادها - كغيرهم - متنوعي التوجهات، لكن معظمهم كان متابعا لكرة القدم، وعندما فاز الأهلي على الزمالك (4/1) أقيم حفل مهيب في الشقة، حيث شمر عبد الرحمن رفيع عن ساعديه وأدى تحية تشرشلية لكن بأربعة أصابع، ثم ألقى قصيدة عصماء مطلعها: تصبر يا زمالك فالهزيمة على ناديكم كانت أليمة»..

«كان معظمهم مأخوذا بعبد الناصر، ومنهم من كان تحت المنبر في الجامع الأزهر، يستمع إليه، وهو يلقي خطابه أثناء أزمة السويس، وفي ميدان عابدين وهو يحتفل بالوحدة مع المواطن الأول شكري القوتلي الذي أعلن (إنه ليوم عظيم من أيام العمر)»..

«شقة الحرية.. ليست سيرة ذاتية، كما أنها ليست قصة خيالية. هي أقرب ما يكون لدوكيو دراما: سجل مضخم أو طبخة ببهارات مناسبة، أجاد غازي خلطتها لحقبة من حياة طلاب خليجيين في مرحلة من تاريخ مصر»..

«وهنا.. أدعوكم إلى قراءة ما اختاره غازي مما كتب في تقريظ شقة الحرية، ووضعه على غلافها الخلفي. ستجدون إلى جانب المقتطفات التي تشيد بالرواية، أخرى تحط من شأنها. وعلى الرغم من أن التهجم جاء من طرف منحاز وغير منصف، فإن إبرازه في الغلاف ينم عن شجاعة وثقة بالنفس لدى غازي، بل إنني أرى فيه دعوة للنقاد للتمعن في إنتاجه وتقويمه مهما كان لديهم من ملاحظات. ألم يصنف غازي نفسه في إحدى مقابلاته في الدرجة الثانية بين الشعراء وفي الدرجة الثالثة بين الروائيين؟.. وهذا في رأيي ليس من باب التواضع المصطنع، فالذي أعرفه أن غازي يجل شعراء مثل إبراهيم ناجي، وعمر أبو ريش، وروائيين مثل نجيب محفوظ»..

«لكن هل يترك تصنيف الشاعر للشاعر نفسه، والروائي للروائي نفسه؟. أليس الأحرى أن يقوم بذلك النقاد المؤهلون الذين قد يجدون في إنتاج غازي جوانب لا يجدونها في الآخرين. لقد حظي غازي بما لم يحظ به الكثير من رجالات هذا الوطن من التكريم والاحتفاء، وهو المستحق لكل ذلك. لكن سيرته المفصلة التي تكتب بقلم ذلك الناقد المؤهل لم تنشر بعد. فهل نطمع في عمل يخلد ذكرى غازي من نوع ما كتبه الدكتور إحسان عباس مثلا (بدر شاكر السياب.. دراسة في حياته وشعره)؟».

ويختتم السليم ذلك بأمنية قائلا «لعل ذلك آت بعد أن تهدأ العواطف التي أثارها فقده، وبعد أن يجمع ما لم ينشر من شعره ومراسلاته المتعددة.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته».