فلسطيني في السعودية قبل 83 عاما عدّد سجايا الملك عبد العزيز وأجاب على السؤال: «لماذا أحببت ابن سعود؟»

كان أميرا مهاجرا وقائدا فاتحا وملكا جليلا أزال بثاقب فكره ما صادفه من أشواك * الملك المؤسس متواضع في سجيته.. ديمقراطي في خلقته فتح بابه لكل مظلوم وأصغى إلى كل شاكٍ مهضوم * دليل الباحث في رحلة المدينة والعلا الذي منعه من الغناء قتل 35 رجلا وتاب بفضل الملك

TT

سجل محمد أمين التميمي الذي قام برحلة إلى السعودية من مسقط رأسه فلسطين قبل 83 عاما ما لمسه من السجايا الحميدة التي اتصف بها الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود من خلال معايشته الشخصية عندما أقام في السعودية لمدة خمس سنوات عابر سبيل وطالب علم وموظفا، كما سجل مشاهداته أثناء رحلته إلى السعودية عبر طريق البر قادما من فلسطين حتى وصوله إلى الرياض ثم جدة.

ورغم تأكيد التميمي على أن كثيرا من الكتّاب والمؤرخين عربا وأوروبيين كتبوا عن الملك عبد العزيز وبحثوا تاريخه أميرا مهاجرا، وغازيا مهاجما، وقائدا فاتحا، وإماما مكرما، وسلطانا معظما، وملكا جليلا، هذا الرجل الذي سما إلى المجد بعد أن أزال بثاقب فكره ما صادفه من أشواك، وذلل بصائب رأيه ما اعترضه من عقبات، وأماط بحدّ سيفه ما لاقاه في سبيله من أذى، فتبوأ هذه المكانة السامية الممتازة، وعدّه العاقلون المنصفون من أفذاذ الرجال الذين قلّما يجود التاريخ بأمثالهم.. رغم تأكيد التميمي على كل ذلك فإنه لمح في كتابه الذي عنونه بـ«لماذا أحببتُ ابن سعود» إلى أنه لم يحاول التعرض لما سجله المؤرخون عن حياة هذا الرجل العظيم مما يستوعب المجلدات الضخمة ويقتضي الوقت الطويل، لكنه اكتفى في الكتاب على تناول ما لمسه فيه عن كثب من النواحي الخلقية والسياسية، وما شاهده في بلاده مدة السنوات الخمس التي أقام فيها عابر سبيل وطالب علم وموظفا.

وشدد المؤلف على أن الكتاب ليس الغرض منه التحليل النفساني الدقيق، أو البحث التاريخي العميق، ولكن السبب في وضعه هو أن «كثيرا من الإخوان والأصدقاء الذين أشيد أمامهم دائما بذكر ابن سعود وأدحض كل دعاية ينشرها ضده وضد حكومته وبلاده من ليسوا واقفين على مجرى الأمور في بلاد العرب ولا على تاريخ هذا الرجل وما اتصف به من خلق، طالما وجّه إليّ هؤلاء الإخوان والأصدقاء السؤال قائلين: لماذا أحببت ابن سعود؟ فوضعت هذا الكتاب جوابا على سؤالهم وضمنته حقائق ومشاهدات كانت سببا في تغيير مجرى حياتي».

بدأ التميمي كتابه بتلخيص تاريخ حياته في صباه قبل هجرته من فلسطين، ومشاهداته في رحلته إلى نجد والحجاز، موضحا بالقول: «لما اختمرت في ذهني فكرة الرحيل إلى نجد، تركت عملي واتجهت إلى شرق الأردن لأعمل كمأمور مقسم للهاتف بإدارة البرق والبريد والهاتف ابتداء من 5 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1926م، وذلك لمدة شهرين»، ثم تبدأ رحلته إلى السعودية مرورا بالجوف، وحائل، فالمدينة المنورة، واصفا معالم هذه المدن، ثم بعد أربعة أشهر توجه إلى مكة المكرمة ليعود بعدها إلى المدينة المنورة ويقضي فيها شهرين، درس خلالهما التوحيد على الشيخ محمود شويل، والقراءات السبع على مدرس مصري بالمسجد النبوي، ثم يعود إلى مكة ليعمل مأمور برق للغات الأجنبية بإدارة البرق والبريد، ثم كاتبا عند تاجر معروف، ثم مسجلا لأمور التابعية في مديرية الشؤون الخارجية التي أصبحت بعد ذلك وزارة الخارجية، ثم أسند إليه عمل إضافي في موسم الحج وهو استخراج شهادات وفيات الحجاج التي تقدم لبيت المال وتحصر بموجبها تركات المتوفين، ثم أسندت إليه إدارة الشعبة السياسية، ثم عمل مسجلا للشركات، إلى أن غادر السعودية في السابع من أغسطس (آب) 1931م.

ومن واقع معايشته الشخصية يتحدث التميمي عن الملك عبد العزيز بعد لقائه به في مكة بقوله: «في مساء يوم من أيام شهر ربيع الآخر سنة 1346هـ، سبتمبر (أيلول) سنة 1927م كنت في طريقي بسيارة إلى القصر الملكي الواقع في أقصى البلد الحرام في طريق منى، بصُحبة العالم السلفي الفاضل الشيخ محمد بهجت البيطار، مدير المعهد السعودي في ذلك الوقت، وكان الغرض من الذهاب إلى القصر السلام على جلالة الملك، ولم أكن في طريقي ملتفتا إلى حديث الأستاذ، فقد كنت في شغل شاغل، لأن هذه أول مرة أقابل فيها ملكا، وكنت أتخيل الملك متربعا فوق عرشه في قاعة لا يدخل عليه فيها إلا المختصون والمقربون الخاضعون الراكعون عند الأعتاب، الساجدون اللاثمون للأذيال المغطية لركبتي جلالته والممتدة إلى منتصف القاعة، وكنت أتصور الملك متوجا بتاج من الذهب الوهاج، ومرتديا حلة من الحرير الأطلس والديباج. وما طرد تخيلي وتصوري غير تنبيه الأستاذ لي بوصولنا إلى القصر، فدخلناه ورقينا إلى سطح جناح من أجنحته قد فرشت جوانبه بمقاعد عربية اقتعدها عدد كبير من الرجال، واتجهنا نحو ركنه الشرقي حيث يجلس رجل بادر إلى القيام فسلم عليه الأستاذ، ووقفت على أطراف أصابع قدمي، كما أومأ هو أيضا لأتمكن من تقبيل جبهته، وأجلس الأستاذ عن يساره وأجلسني عن يمينه، ولما قدمني الأستاذ إليه أخذ يلتفت إلي بين لحظة وأخرى، سائلا عن الصحة والحال، ولم يكن هذا الرجل الطويل القامة المليء الجسم الباسم الوجه ذو الهيبة والوقار، لم يكن يختلف عمن حوله من الرجال في الزي إلا بغترته الحمراء وعقاله المقصب، أما العباءة والثوب فلم يكونا ممتازين عما يلبسه الرجل العادي، بل إن الرجل العادي ليلبس أحسن نوعا وأغلى ثمنا مما يلبسه هو، وأما الحذاء فليس إلا نعلين نجديتين يحتذيهما أفقر الرجال.

كان هذا المتواضع في سجيته، الديمقراطي في خلقته، هو عبد العزيز بن سعود، سيد الجزيرة العربية الذي عشقته أذني قبل عيني، وحببته إلي أعماله قبل أقواله، وكان سببا في تغيير مجرى حياتي.

وها أنا ذا بين يديه أرى شخصه وأسمع كلامه لأول مرة، وها هو ذا يضرب بريشة بيانه وإفصاحه على وتري الحساس فتطرب النفس ويرقص القلب ويلهج اللسان بالدعاء: طوّل الله عمرك يا عبد العزيز، وها هي ذي شخصيته البارزة الجبارة تؤثر فيّ تأثيرا سحريا، وتجتذبني إليها اجتذابا قلبيا، فتتوثق عرى المحبة، وتتقوى صلة الود والإخلاص، وتتمنى النفس لو فنيت في خدمته، واضمحلت في طاعته.

أما بيانه وإفصاحه فهو ذلك التعليق الجميل على ما يقرؤه مُقرِئه من تفسير القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وتلك الدرر الغوالي من النصائح التي ينثرها على الحاضرين في ذلك المجلس الليلي العام الذي يبدأ من بعد صلاة العشاء إلى الساعة الرابعة العربية، حيث ينصرف الجمع لا ليأوي هذا الرجل إلى فراشه ولكن ليجلس مجلسا آخر مع المختصين من رجاله ومستشاريه لبحث مهام الدولة، وقد يمتد هذا المجلس الخاص إلى منتصف الليل.

وأما شخصيته فهي تلك الشخصية التي لم تُنسِها مظاهر الملك مسؤوليتها عن رعيتها، ولم يبعدها جبروت السلطان عن طاعة الرحمن، فكما أنه ينظر في الكبير والصغير والجليل والحقير من شؤون مملكته ورعيته، ويقرأ كل ما يرفع إليه من برقيات وكتب وتقارير، ولا يسمح لأحد من رجاله والمقربين إليه بفتح شيء منها، فلا يترك شاردة ولا واردة من أحوال بلاده ورعاياه إلا ويكون قد ألمّ بها ووقف على أسرارها، ويردّ على كل ما أرسل إليه من كتب وبرقيات من مختلف الأنحاء والجهات، وقد فتح بابه لكل مظلوم، وأصغى إلى كل شاكٍ مهضوم، حتى إن برقية يرسلها إليه أقل الناس شأنا في مملكته تكفي لإثارة اهتمامه، فيصدر أوامره البرقية للجهات المختصة بالتحقيق في الشكوى وإعادة الحق إلى نصابه... علاوة على كل ذلك فإنه لم ينسَ حق الله عليه من صلاة وصيام وزكاة وحج ودروس دينية وذكر لله تعالى وتسبيح، فهو يستيقظ قبل فجر كل يوم لقراءة القرآن، فإذا أذن الفجر صلاه حاضرا، ويواظب على أداء بقية الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد القصر، وعلى صلاة الجمعة في المسجد العام، ولا يترك مقعده في المسجد عقب الصلاة إلا بعد أن يردد: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة، وبعد أن يدعو الله تعالى بما شاء من الدعاء، ويقرأ الأوراد التي صحّت نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كنت واقفا خلفه مرة في صلاة مغرب بالقصر الأخضر بجدة، وبقيت جالسا مكاني خلفه بينما انصرف جميع المصلين، فسمعته يردد دعاء: اللهم أجرنا من النار، فأمنت على دعائه ورددت في نفسي: أي والله، أجارك الله من النار... وهو يعدّ العبادة بمثابة فترات هدوء لاستجماع القوى ومحطات راحة لتجديد النشاط، كي يتمكن من استئناف حمل أعباء الملك الثقيلة ومسؤولياته العظيمة، مقدرا معنى الحديث: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)... وعلى الرغم من هذا وذاك فلا أعباء الملك ولا واجبات العبادة تمنعه من أداء حق أهله وولده عليه، ومع أنه أنجب إلى الآن ستين ولدا، منهم ثلاثة وثلاثون ذكرا وسبع وعشرون أنثى، فلا تخفى عليه خافية من شؤونهم ولا من شؤون أولادهم وأحفادهم جميعا، فتراه يلاعب الرضيع ويداعب الطفل، ويمازح اليافع ويشجع الفتى، ويؤاخي الشاب، ويمرن العاقل بإسناد مهام الأمور إليه، وهو رحيم بأصغرهم لا يطيق فراقه.

وهكذا كلما مرت الأيام وتعددت المقابلات وازداد الاتصال كان حب عبد العزيز يتمكن من قلبي، وكلما اطلعت على سيرته ووقفت على حقيقته كان يأخذ علي تفكيري ولبي، وأصبح مقصد دعائي بعد كل صلاة، ومعقد رجائي في هذه الحياة، وها أنا ذا أوضح في ما يلي بعض النواحي الخلقية والسياسية من حياته.

أما قبوله النصح من أي إنسان، فإنه لما قدم جلالته من نجد إلى مكة المكرمة في حج سنة 1346هـ/ 1928م رفعت الأعلام على النوافذ والأبواب ونصبت أقواس النصر في كل حي من الأحياء من أموال جمعها مشايخ الحارات من أغنياء البلد وفقرائه، أما الأغنياء فكانوا يدفعون عن طيب خاطر، لأن ما يطلب منهم لإقامة الزينات لم يكن شيئا مذكورا بجانب المبالغ الضخمة التي كانوا في العهد الشريفي يخيرون بين دفعها وبين سكنى القبو، وأما الفقراء الذين يعتقدون أن أولادهم أولى وأجدر وأحق بالقرش الذي يدفعونه لذلك الغرض، فكانوا يظهرون امتعاضهم وينتقدون هذه التصرفات انتقادا مرا...

وكنت في ذلك الوقت حديث عهد بالاستخدام في وزارة الخارجية السعودية، فكتبت لجلالة الملك كتابا عرضت فيه أن بعض الحجاج الذين سمعوا في بلادهم بتمسك جلالته وحكومته بالشريعة الإسلامية وإقامة شعائرها وتنفيذ حدودها، سألوني عما إذا كانت هذه الزينات التي تقام لجلالته مما تقضي به الشريعة أو تمتّ إليها بِصلة، فأجبتهم أنها ليست من الشريعة وأن جلالته لم يأمر بها ولكن أهل البلد هم الذين أقاموها لإظهار شعورهم نحوه. وذكرت لجلالته أنه ما من أحد يدفع ما يطلب منه لإقامة الزينات عن طيب خاطر، واقترحت منع إقامة الزينات في المستقبل.

وإن كان لا بد من جمع المال فليجمع لبناء ملجأ للأيتام، وللعجزة المتاجرين بالقرآن في المسجد الحرام، وختمت كتابي بأني تجرأت على كتابته بنية النصح الواجب لخاصة المؤمنين، فإن كان ما ذكرت حقا فمن الله والحمد لله، وإن كان باطلا فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله... والذي حدث بعد ذلك أن مُنعت الزينات، ثم أُسست في مكة المكرمة دار للأيتام وأخرى للعجزة والمشوهين.

يوم جلوس المؤسس

* وفي سنة 1349هـ/ 1930م احتفل بيوم جلوس الملك عبد العزيز وحضر الاحتفال الذي نظم في مدينة جدة ممثلو الدول السياسيون وجمع غفير من وجوه الأقطار العربية ومندوبي صحفها، ولكن العلماء اعترضوا على ذلك لمخالفته للسنة، فنزل الملك عبد العزيز على رأيهم ولم تحتفل به البلاد بعد ذلك، لأن عبد العزيز لا يهتم بما يتعلق بشخصه.

وما دمنا في صدد الاحتفالات أقرر هنا أن المملكة العربية السعودية لا تعترف إلا بعيدي الفطر والأضحى كأعياد رسمية، ولا تحتفل بالأعياد التي صبغتها البلاد الإسلامية الأخرى بالصبغة الدينية كأعياد رأس السنة الهجرية وعيد المولد النبوي والموالد الأخرى وليلة الإسراء والمعراج وليلة نصف شعبان وليلة القدر وتوديع المحمل واستقباله، ولا بالأعياد التي لها صبغة سياسية كعيد الجلوس وعيد ميلاد الملك وعيد الاستقلال وعيد الدستور وعيد الجهاد الوطني وغير ذلك، ولا بالأعياد ذات الصبغة الأدبية كأعياد ميلاد الأمراء، كما أنها لا تحتفل بالذكريات السنوية لوفاة الملوك والأمراء والعظماء.

أما نقاء سريرته وتثبته من أنباء الفاسقين، فإن حكومة جلالته انتدبتني سكرتيرا للوفد النجدي للمؤتمر الذي عقد في عمان عاصمة شرق الأردن سنة 1349هـ/ 1930م لتحقيق حوادث الغزوات والمنهوبات بين قبائل الحجاز ونجد وبين قبائل شرق الأردن، وكنا متصلين بحكومتنا برقيا عن طريق محطة الجوف اللاسلكية التي وصلت بمحطة مطار عمان أيام انعقاد المؤتمر، وقد وقفت أعمال المؤتمر مدة أسبوعين لسبب ما، فاستأذنت رئيس الوفد في السفر إلى دمشق مدة يومين لشراء بعض كتب الحقوق، وسافرت ورجعت بعد أن بت فيها ليلتين، وبينما كنت ذات يوم واقفا أمام الفندق الذي كان الوفد نازلا فيه في ضيافة حكومة شرق الأردن، إذا برسول يبلغني وصول برقية باسم الوفد لمحطة المطار اللاسلكية. ومع أننا كنا نرسل أحد أتباع الوفد لاستلام البرقيات، عنّ لي هذه المرة أن أذهب بنفسي للنزهة، ووصلت إلى المطار، وتسلمت البرقية، وما فضضتها وحللت رموزها حتى كدت أزهق لفرط الدهشة... لقد كانت مرسلة من وزارة الخارجية، وكان هذا نصها:

(ما دمتم مشتبهين بأمين التميمي سنعمل طريقة لسحبه إلى هنا بصورة مضمونة، فلا تظهروا له ذلك خوفا من الفرار».

فيا للعار! التميمي الذي أخلص لابن سعود، بل تفانى في الإخلاص له عن عقيدة وإيمان، يشتبه في أمره؟! إن هذا لشيء يراد! وقدمت البرقية - بعد حل رموزها - إلى رئيس الوفد الذي تغير لونه، وتظاهر بالعجب والاستغراب وتساءل عن سبب إرسال وزارة الخارجية لهذه البرقية وأنكر علمه بمقدماتها، وأظهر استعداده لإزالة أثرها، وسلمني كتابا لوزارة الخارجية يوصيها بي ويقرر قيامي بواجبي على أحسن وجه وأتمه.

ثم وصلتني برقية باسمي من وزارة الخارجية هذا نصها: (نظرا للحاجة الماسة إلى وجودكم هنا، وبالأخص إلى وجودكم عند عائلتكم، أبحروا على الباخرة التي تقوم من السويس أول نوفمبر).

لقد كان شعوري غريبا وتأثري شديدا، ودهشتي عظيمة جدا لهذا التصرف العجيب الذي لا أعلم له سببا غير الجهل، وأخذت أفكر تفكيرا جديا في الحال والمآل، إذ كنت بين أمرين: إما أن أبيع ديني بدنياي، فأمتنع عن العودة إلى الحجاز، وألجأ إلى أعداء ابن سعود، فتثبت التهمة، وأُوصم بالخيانة، وتسوء العاقبة عند الله، وإما أن أتمسك بديني وأحتفظ بيقيني وأرجع إلى عبد العزيز الحليم الرشيد وأتعرض لغضبه وانتقامه، والمثل يقول: اتقِ غضب الحليم. فاخترت الشق الثاني رغم ما فيه من خطورة، لأن فصل عنقي بسيف ابن سعود إن كان عدلا يكون بترا لعضو خطر في جسم الأمة الإسلامية، وإن كان ظلما يكون شهادة أضمن بها الجنة، وهي أقصى ما يبتغيه المؤمن.

ومع ذلك فقد احتطت لنفسي، وأبرقت لجلالة الملك برقية رفعت فيها أن المخابرات وقعت في يدي، وأني رجل مبدأي الدين، ولا يمكن أن أضر بمصلحة المسلمين، وسأرجع إلى الحجاز رغم أنف المفسدين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. كما أبرقت من القدس في عودتي إلى الحجاز بعد استلامي لبرقية وزارة الخارجية بأني على الرغم من علمي بحقيقة أسباب سحبي سأبحر على الباخرة المعينة.

ورجعت على الباخرة التي أبحرت من السويس أول نوفمبر سنة 1930م، 10 جمادى الثانية سنة 1349هـ، ووصلت مكة المكرمة، ومُنعت من التشرف بالسلام على جلالة الملك بحجة غضبه علي، واستأنفت عملي بوزارة الخارجية، وراجعت يوما إضبارتي فرأيت ضمن أوراقها برقية مرسلة من رئيس الوفد النجدي لمؤتمر المنهوبات. هذا نص الفقرة التي وردت فيها خاصة بي: (أمين التميمي ذهب إلى الشام بنية الرجوع، ولست مرتاحا لحركاته، وسأعرفكم مفصلا بالبريد).

كما اطلعت على كتاب أرسله للخارجية بعد مغادرتي شرق الأردن وعقب إعطائي كتاب التوصية، يصر فيه على رأيه الأول، ويقرر أنه اضطر إلى إعطائي كتاب توصية ليضمن عودتي.

وبعد وصولي بشهرين سنحت لي فرص تشرفت فيها بالمثول بين يدي جلالة الملك، فأجلسني بجانبه، ودار بين جلالته وبيني الحديث التالي:

قلت: لقد عهدت في جلالتكم الصراحة التامة، وقد تلقيتها عنكم، فاسمحوا لي أن أكلمكم بها.

قال جلالته: تفضل.

قلت: هل في نفسكم شيء عليّ بسبب الوشاية التي وصلتكم وأنا في المؤتمر؟

قال جلالته: عليك أنت؟

قلت: نعم.

قال جلالته: لا، أبدا، وأنا أعلمك يا تميمي. إني لا آخذ إنسانا بذنب إلا بعد أن أنبهه أولا وثانيا ولا آخذه إلا في الثالثة، ولكني ما وجدت عليك شيئا يستحق حتى التنبيه، وأنا أعرف أنه كثيرا ما يحدث مثل هذه الأمور بين رجال الدولة.

قلت: أشكركم يا طويل العمر، وأرجو أن تتأكدوا أني أشد إخلاصا منكم لشخصكم الكريم، لأنكم ربما عملتم عملا يضر بمصلحتكم دون أن تشعروا بضرره، ولكني أشعر بهذا الضرر فلا أقدم عليه، وأرجو أن تتأكدوا أيضا أن حبي لكم يفوق حبي لوالدي، لأنه فرد من الأفراد ولكنكم مطمح آمال العرب وموضع أنظارهم ومعقل رجائهم.

قال جلالته: وأنا لا أعدّك يا تميمي خادما من خدامي، بل أعدّك ولدا من أولادي.

فشكرت جلالته وانصرفت من حضرته وأنا مطمئن الخاطر مستريح البال منشرح الصدر لهذا الاكتشاف في أخلاقه السامية.

وأما قوته في أمر الله وأثرها في رعيته، فالدليل عليها ما كان للحكم السعودي من أثر فعال في القضاء على كثير من الفوضى التي كانت ضاربة أطنابها في بلاد العرب قبل استظلالها بظله، ويرجع الفضل في ذلك إلى الشريعة الإسلامية الغراء أولا، ثم إلى قوة ابن سعود في تنفيذ أحكامها وشدة بطشه بمن تحدثه نفسه بالخروج عليها... فقد ندرت جدا الحوادث الفردية كالسرقة وشرب الخمر والزنى وما شابه ذلك مما يوجب القصاص، واختفت نهائيا الحوادث العامة المتعلقة بالأمن العام كقطع السابلة والاعتداء على حجاج بيت الله، فانقلبت الأوضاع وأصبح الذي كان في الماضي خائفا على ماله وعرضه ونفسه آمنا مطمئنا يسير من أقصى بلاد ابن سعود عند حدود اليمن إلى أقصاها عند حدود العراق يحمل الذهب لا يتعرض له إنسان بسوء، وأصبح الذين كانوا بالأمس محاربين لله ورسوله ومفسدين في الأرض أشد الناس محافظة على أبناء السبيل ومساعدة لهم، بل لقد أصبح بعضهم عبادا زهادا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات.

حوادث خرافية عن الأمن

* ولن أسرد هنا ما يروى عن الأمن الواقع في بلاد العرب من الحكايات الشبيهة بأحاديث الخرافة، ولكني سأذكر حادثين وقعا لي شخصيا أثناء حلي وترحالي في بلاد ابن سعود.

والحادث الأول وقع لي في الطائف سنة 1349هـ/ 1930م، عندما أمرت بالاستعداد للسفر إلى شرق الأردن لحضور مؤتمر تحقيق الغزوات والمنهوبات، فقد اشتريت صباح يومٍ كل ما يلزم للبيت من مؤونة، وتنبهت بعد صلاة العصر إلى أني نسيت الغاز، ولما ارتديت ملابسي تفقدت حافظة نقودي فلم أجدها في البيت، فذهبت إلى السوق وسألت أصحاب المحال التي مررت عليها في الصباح، ثم وجدتها ملقاة على الأرض أمام محل البدال في شارع مطروق كشارع الموسكي في القاهرة، دون أن تمسها يد بسوء... يقابل هذا حادث وقع لي في القنطرة الغربية من القطر المصري سنة 1931م، أيام انتخابات دولة إسماعيل صدقي باشا... كنت عائدا في تلك السنة من فلسطين إلى الحجاز، وكان الجيش المصري مستدعى من العريش لحفظ النظام أيام الانتخابات، وفي اللحظة التي صعدت فيها إلى مركبة القطار القادم من بورسعيد نشلت حافظة نقودي، وبلغت الخبر نقطة بوليس القنطرة وضابط القطار الذي اهتم بالحادث وفتش جميع ركابه دون جدوى، ولما وصل القطار إلى الإسماعيلية كانت قد سبقتنا إليها برقية من بوليس القنطرة نصها: (لقد وجدت المحفظة بين قضبان السكة الحديد خالية من النقود)... والذي حدث بعد ذلك أن بوليس القنال أرسل إلي الحافظة الخالية بحرز إلى الحجاز عن طريق المفوضية العربية السعودية بالقاهرة، ولا أزال محتفظا بهذا الحرز المكين.

أما الحادث الثاني فكان لما كنت متجها مع الوفد النجدي لمؤتمر المنهوبات وكان سفرنا بالسيارات عن طريق البر، وكانت القافلة مؤلفة من ثماني سيارات نقل وسيارة صغيرة، أما سيارات النقل فقد كانت إحداها مشحونة بقطع الغيار، والسبع الباقية كانت مخصصة لركوب مشايخ القبائل التي لها صلة بأعمال الغزو والنهب ولأدلاء الطريق وخدم الوفد، أما السيارة الصغيرة فكانت مخصصة لركوب رئيس الوفد، والدليل في المقعد الخلفي، ولركوبي بجانب السائق لملاحظة عداد السيارة لوضع تقرير عن مسافة الطريق وحالتها بين المدينة المنورة وقريات الملح.

وكان دليلنا بين المدينة والعلا رجلا اسمه حمود بن مريخان، ولما سمعني أغني صباح اليوم التالي لمغادرتنا المدينة المنورة قال: يا شيخ، اذكر الله ولا تغنِّ.

قلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن يا حمود السفر بعيد، ألا نسليه بالغناء؟

قال: أليس ذكر الله أحسن؟

قلت: أي بالله ذكر الله أحسن، لكن أسألك بالله يا حمود، كم شخصا قتلت في حياتك؟

قال: والله ما أدري، 35 أو 36.

قلت: وممن كان هؤلاء؟

قال: أكثرهم من عساكر الترك ومن الحُجاج.

قلت: ولماذا قتلتهم؟

قال: طمعا في المال، وبعضهم كنت استخسر فيه الرصاصة عندما أفتشه ولا أجد معه شيئا فأقول يا خسارة الرصاصة.

قلت: تعني أن الرصاصة كانت عندك أثمن من حياة رجل؟

قال: أي بالله.

قلت: ها أنا ذا أحمل نقودا كثيرة، أفلا تقتلني وتأخذها؟

قال: لا والله ما أكلمك ولو رأيتك تحمل الذهب وحدك.

قلت: لماذا؟

قال: لأننا ما كنا نعرف الله ولا رسوله ولا الحلال ولا الحرام، لكن (ده حين) الآن عرفنا الله والرسول وأمور ديننا ودنيانا بفضل الله ثم بفضل عبد العزيز، طول الله عمره، ونرجو الله أن يتوب علينا.

قلت: أبشر بالتوبة وبحسن العاقبة ما دمت مخلصا نيتك لله تعالى الذي يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وهكذا يغزو عبد العزيز قلوب الناس جميعا حتى الأشقياء وسفاكي الدماء، فينقلب أحدهم واعظا ينهى عن الغناء.

أما حلمه وسعة صدره فتروى عنهما روايات كثيرة، خصوصا على من له سابق خدمة عنده. والحادث الذي وقع لي مما يدل على واسع حلمه ورحابة صدره، أفصله في ما يلي:

وصلتني في أواخر سنة 1349هـ، أوائل سنة 1931م، برقية من صديق لوالدي يقول لي فيها: (والدك في حالة خطيرة، احضر حالا). فعرضتها على سمو الأمير فيصل بوصفه وزيرا للخارجية، مشفوعة بطلب أرجو فيه التصريح لي بالسفر إلى فلسطين لمدة شهر، وبينما أظهر سموه موافقته الشفهية على طلبي، إذا بالطلب يصلني في اليوم التالي مؤشرا عليه جملة (يستشار، جلالة الملك)، وكانت قد وصلتني برقية أخرى، فأخذت الطلب والبرقيتين وتوجهت إلى القصر الملكي، واستأذنت للتشرف بمقابلة جلالة الملك، فأذن لي وعرضت الأمر على جلالته الذي أذكر أنه استدعى رئيس ديوانه وأمره بالكتابة لوزارة الخارجية بالتصريح لي بالسفر لمدة خمسة وأربعين يوما.

وتهيأت يومها للسفر، وفي اليوم التالي غادرت مكة مع حرمي وطفلتي إلى جدة ونزلنا في بيت الأستاذ الفاضل الوجيه الشيخ محمد نصيف، الذي يعد منزله محط الرجال الغادين والرائحين، وراجعت عقب وصولي شركتي البواخر الخديوية والإيطالية سائلا موعد قيام أول باخرة.

وبينما كنت جالسا مع الأستاذ في مجلسه العامر بالظرف والأدب، وبين خزائنه الحاوية لأشهر وأندر وأنفس الكتب، إذا بجرس المسرة يدق، فرد الأستاذ قال: نعم.

المتكلم: ...

الأستاذ: أهلا وسهلا.

المتكلم: ...؟

الأستاذ: نعم عندنا.

المتكلم:...؟

الأستاذ: تفضل كلّمه.

وناولني السماعة قائلا: الشيخ علي طه وكيل القائمقام (المحافظ).

قلت: نعم.

قال: أنا علي طه.

قلت: مرحبا.

قال: لقد حادثني جلالة الملك بالتلفون شخصيا وأمرني بأن أمنعك من السفر.

قلت: سمعا وطاعة.

وتركت السماعة.

وبعد ظهر اليوم الذي يليه حادثني معالي الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية بالمسرة من مكة. وقال: نبغاك في مكة الآن.

قلت: ما عندي سيارة.

قال: الآن تأتيك سيارة، وأنا منتظرك في جرول.

وبعد دقائق كانت سيارة الشيخ محمود شلهوب، مدير مالية جدة في ذلك الوقت، واقفة أمام منزل الشيخ محمد أفندي نصيف، فركبتها وحدي إلى مكة، وقبيل صلاة العشاء كنت في منزل معالي الوزير، وكان معه سعادة الشيخ عبد الله الفضل رئيس مجلس الشورى، فقال لي معاليه: لقد كنت السبب في تأخير سفرك لأن في المالية عملا أحب أن تنظمه قبل أن تسافر.

قلت: إنني خادم على كل حال ومستعد لأن أقوم بأي عمل بعد عودتي.

قال: هذا أمر الملك، وأنت تعرف شغلك مع جلالته.

وقضيت ليلتي في مكة، وعند بزوغ شمس اليوم التالي كنت في طريقي إلى القصر الملكي بسيارة الشيخ محمود شلهوب التي ظلت تحت أمري، وكان جلالته جالسا في ذلك الوقت لشؤون رعيته، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت فأجلسني جلالته بجانبه، ودار بيننا الحديث الآتي:

قال جلالته: هل بلغك عبد الله السليمان أمرنا؟

قلت: نعم يا طويل العمر، لقد بلغني أمركم المطاع، ولكني ما أظنكم ترضون بأن أترك والدي في مثل هذه الحالة الخطيرة وليس عنده إلا بنات وأطفال صغار، وهو الذي لولاه ما جئت على وجه الدنيا وما تشرفت بخدمتكم، ثم إن زوجي مريضة أيضا، وتحتاج لمعالجة في الخارج.

قال جلالته: والدك إن شاء الله ما تجيه إلا العافية، وزوجك تطلعها إلى الطائف وأنا أعطيك سيارة وبيتا.

قلت: لست مستغنيا عن كرمكم ولكني طامع في عطفكم علي بالسماح لي برؤية والدي.

قال جلالته: الآباء يعظمون الأمور الصغيرة، والمسألة لا تتعدى في اعتقادي التوعك البسيط إن شاء الله تعالى، فلا تشغل فكرك من هذه الناحية.

لقد أصر جلالته على تأخير سفري، ومن ذا الذي يقدر على زحزحة ملك عن رأيه؟ وأي ملك يرضخ للحكمة والمنطق في مثل هذا الموقف؟ وأي إنسان يجرؤ على معارضة الملوك أو على محاولة إقناعهم للرجوع عن وجهات نظرهم؟ أفلا يرى القارئ الكريم أنه لا بد من الرضوخ والتسليم، وأن كل محاولة للإقناع مقضي عليها بالفشل؟ الجواب: بلى طبعا.

ولكن ما لمسته في هذا الرجل العظيم من حلم كبير وتواضع جم وإصغاء حتى لأجلاف الناس ورجوع إلى الحق حيثما وجده، جرأتني كل هذه الصفات التي عرفتها عنه على توجيه نظر جلالته إلى أنه أصدر أمرا ساميا بشأن سفري وأني لا أزال أعدّ ذلك الأمر قائما.

وكنت بعد تجرئي على إبداء هذه الملاحظة أراقب تأثيرها على ملامح جلالته، وبعد هنيهة مرت فيها على جلالته سحابة تفكير خاطفة، انفردت أسارير وجهه فاستبشرت بطلائع العطف السامي، وقال جلالته: يا تميمي.

قلت: لبيك.

قال جلالته: قم سافر.

ونهضت من مجلسي، وأمسكت برأس جلالته بكلتا يدي وقبلته ولثمت جبهته، ودعوت له بطول العمر والتأييد وانصرفت مؤمنا بحلمه الواسع، معتقدا بأنه يحمل قلبا كبيرا يأسر به قلوب الأوفياء، وعقلا جبارا يقلب به الأعداء أصدقاء.

وبعد عودتي إلى جدة ظهر ذلك اليوم، حادثني معالي الشيخ عبد الله السليمان بالمسرة قبل المغرب، وأعلمني به في جدة، وطلب إلي مقابلته في إدارة ماليتها، فذهبت إليه، فأمر الشيخ محمود شلهوب بحملي وأهلي إلى فلسطين بوسائل النقل البحرية والبرية على حساب الحكومة في الذهاب والإياب.

ولما وصلت إلى فلسطين وجدت والدي مصابا بالحمرة، وقد نقل إلى المستشفى الأميري بنابلس، وقليلون هم الذين ينقذون من هذا المرض، ولكن الله لطف به فاطمأننت عليه، ورجعت قبل انتهاء إجازتي، ووقعت لي بعد عودتي حوادث ليس هذا الكتاب محل ذكرها لأنها خارجة عن موضوعه، فاضطررت إلى مغادرة الحجاز عن طريق السودان في أواخر ربيع الأول سنة 1350هـ، أوائل أغسطس سنة 1931م.

وهكذا غادرت الحجاز بجسمي دون قلبي، فقد تركته في تلك البلاد التي أرجو لها ولمليكها ولشعبها الخير والعز والسعادة والرخاء.

ومن الدلائل الملموسة على عبقرية ابن سعود الفكرية التي تنظمه في عقد دهاة السياسة وكبار القواد يُمن طالعه في حياته الحربية وفي سياسته الداخلية والخارجية والإدارية.

أما سياسته الداخلية فإنه قضى على المشكلات التي ظهرت داخل بلاده وكانت عاملا قويا من عوامل تأخر نهضتها، بحكمة وحنكة لولا اتصافه بهما لاستفحل الداء ولعز الدواء ولكفت مشكلة واحدة منها لتقويض أركان مملكته ولإعادة الحالة إلى فوضاها السابقة.

أما سياسته الخارجية فإنه قضى على جميع الخلافات التي كانت قائمة بينه وبين جيرانه في جميع الجهات، فسوى علاقاته بجارتيه الكويت والعراق في الشمال، وباليمن في الجنوب، وبالإمارات العربية في الشرق، وبشرق الأردن في الشمال الغربي، وبمصر في آخر أيام المرحوم الملك فؤاد، حتى أصبح موضع إكبار خصومه الأقدمين وإجلالهم واعترافهم بعبقريته وحسن سياسته... ثم تعاهد مع الدول الكبرى وبعث الممثلين السياسيين إلى عواصمها، وجعل لبلاده مركزا سياسيا لم تكن متمتعة به من قبل.

وها هو ذا يسير في هذه الحرب الضروس التي أكلت الأخضر واليابس، واكتوت بنارها جميع دول العالم على سياسة غاية في بُعد النظر والحكمة، مما يدل على وسع الحيلة وقوة الإرادة وعظيم التقدير للظروف والأحوال. فإنه لم يزجّ بنفسه ولا ببلاده في أتونها، ولم ينقض عهدا عاهده ولا أخلف وعدا وعد به، ولم يجرِ وراء الخيال، فحفظ لبلاده كيانها ولنفسه سلطانها، ولمركزه في العالمين السياسي والأدبي سموه وعلاه.

أما حنكته الإدارية فليس أدل عليها من كونه يدير شؤون مملكته ويسهر على مصالحها بعدد يسير يعدّ على الأصابع من الرجال المخلصين، وبموظفين من الدرجة الثانية أو هم دونها.

وها هو ذا عبد العزيز يدير شؤون مملكته بمثل هؤلاء الموظفين، وها هو ذا يدرك بثاقب فكره وصائب رأيه أن العلم هو الوسيلة الوحيدة للنهضة الإدارية في بلاده، فيبعث البعثات العلمية من أبناء مملكته المتمتعين بظل رعايته إلى المدارس والكليات في مصر وفي غيرها، ويبذل لها المال بما عرف عنه من بسط يد لا يباريه فيه أحد، وها هم المجلون من هؤلاء المبعوثين يتخرجون من مختلف المعاهد، ويصلون إلى وطنهم ويحتلون مكانهم كأعضاء عاملين في جسم بلادهم وكأمناء مخلصين لمليكهم، والمرجو أن يحتفظ هؤلاء المجلون بعقولهم وأفكارهم مصقولة عليمة وبأعضائهم قوية سليمة ريثما يلحق بهم المصلون فالمسلون فالتالون فالمرتاحون فالعاطفون فالخطيون فالمؤملون فاللطماء فالسكيت (كل هذه من أسماء السباق)، ممن يتسابقون في حلبة العلم، فيقوم على كواهلهم كيان الدولة، ويحققون الأمل الذي وضعه فيهم مليكهم وتسير بهم البلاد إلى ما تصبو إليه من تقدم ورقي ومجد بخطوات سريعة، حقق الله الآمال.

ولو أضاف الإنسان إلى ذلك طبيعة بلاد العرب الغنية بالصحارى الجرداء والأراضي البيداء، التي لا تحوي من الأرض الصالحة للزراعة سوى بعض واحات وقطع صغيرة غير متجاورة، لا يمكن أن تكفي محصولاتها لغذاء سكان الجزيرة، ولو أضاف إلى ذلك أيضا قلة موارد البلاد وضآلة دخلها، ثم نظر بمنظار الإنصاف إلى شخصية ابن سعود الذي يدير شؤون مملكته بأولئك المثقفين وهؤلاء الموظفين وهذه الأراضي والموارد، فلا بد من أن يسلم بعبقرية هذا الرجل الفكرية، ولا مفر من أن يعترف بدهائه وذكائه وقوة إرادته، وتفتق ذهنه وواسع حيلته، ولن يتردد بعد ذلك في الإقرار بأنه من أفذاذ الرجال، وأنه لو قدر له أن يكون ملكا على بلاد غنية بالموارد والمال والرجال لكان له شأن آخر.

والمرجو أن يكون لظهور ينابيع الزيت ومناجم الذهب في بلاد العرب، وأن يكون للاهتمام العظيم الذي يبديه جلالته نحو تقدمها زراعيا، أثر فعال سريع في رفع مستواها إلى الدرجة التي تسمح بها هذه الموارد الجديدة إن شاء الله تعالى.

مولود للباحث سماه عبد العزيز

* وهكذا ظل أثر المقدمات والعوامل التي أخرجتني من فلسطين أيام الصبا وأثر المشاهدات التي رأيتها في طريق الهدايا وأثر المقابلات التي شرفني بها عبد العزيز بن سعود، ظل هذا الأثر عالقا في ذهني مسيطرا على نفسي ملازما لي، بل أصبح مسيطرا على نفوس أولادي الذين يشيدون الآن بذكر عبد العزيز، ويعدّون أنفسهم مدينين له بالنشأة الإسلامية التي ينشئهم عليها والدهم الذي هُدي إلى صراط مستقيم بسبب عبد العزيز وبلاد عبد العزيز وشعب عبد العزيز.

وها أنا ذا أشكر الله الذي هيأ لي الظروف والأسباب التي أخرجتني من بلدي، وهيأ لي العوامل والمقدمات التي وجهتني إلى سبيله القويم، وهيأ لي المناسبات التي عرفتني بهذا الرجل العظيم الذي لم يطرأ على حبي له أي فتور على الرغم من مرور أربع عشرة سنة على مبارحتي لبلاده، بل زاده البعد التهابا.

وها أنا ذا أسمي ولدا رزقنيه الله، عبد العزيز، كي أردد الاسم الذي أحببته، ولا أزال متمسكا بجنسيتي العربية السعودية كي أظل مستظلا براية التوحيد، وكي أظل خاضعا للسيف الذي يفل الحديد.

وها هو لساني يلهج بالدعاء لعبد العزيز في كل مناسبة، أدعو له كلما رأيت القبور للشكاوى تقصد، والخرق في شبابيكها ومقصوراتها تعقد، والأحوال على بنائها ونقشها وكسوتها تصرف، والدموع لطلب الحاجات من الأموات تذرف، والاستغاثة والإنابة والخوف والرجاء، توجه إلى من لا يستجيبون الدعاء، وأدعو له إذا رأيت الجاهلين يقصدون الدجالين من قارئي الكف والفنجان، وضاربي الرمل والودع والمنجمين والمنومين المغناطيسيين لينبئوهم عن المستقبل وليكشفوا لهم ستائر الغيب، وليقشعوا السحب عن علم الله الذي لم يمنحه أحدا من خلقه إلا بما شاء، لمن شرفه من الأنبياء.

وأدعو إذا رأيت النساء متبرجات يمشين في الأسواق وحول المقاصف ملتفات، وفي الصالات منتشرات، وللرجال مخاصرات، وعلى أنغام الموسيقى راقصات، بينما هن في بيوتهن منغصات لأزواجهن منكدات.

وأدعو له إذا رأيت الصلاة متروكة والحرمات منهوكة، والزكاة ممنوعة، والأرحام مقطوعة، وشهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن لا يصام، وأموال الناس تؤكل بالباطل ويدلى بها إلى الحكام. وأدعو له إذا رأيت الأموال تسرق والأفئدة تحرق، والشرف يهان، والعفة لا تصان. وأدعو له إذا رأيت الخمر تشرب، والميسر يلعب، والفسق يؤتى، والمحلّل يفتى، والمعاصي تعلن، والناس تفتن.

إذا رأيت كل ذلك، وهو بعض ما هنالك، تذكرت نجدا ومن حل فيها، وما شاهدته في بلادها وفيافيها، وما على الشاكّ إلا أن يرحل إلى نجد ليرى ما رأيت، وما عليه إلا أن يمتزج بابن سعود ليؤمن بما آمنت به».