كارثة جدة: تاريخ جديد ألغى ما قبله

العروس بعد 365 يوما على «الأربعاء الأسود»

جانب من المشهد المأساوي الذي خلفته كارثة جدة في 25 نوفمبر 2009 (تصوير: عبد الله بازهير)
TT

أسدل أهالي جدة أمس الستار على 365 يوما مرت على أربعاء كارثتهم «الأسود»، صباح لم تبد له صلة بمسائه أبدا، فعلى غير العادة حجبت السحب أشعة الشمس اللاسعة عن أهالي المدينة الساحلية البالغ عددهم 3 ملايين نسمة.

كان صباحا ينبض هدوءا وسكينة، ألبسته موافقته الثامن من ذي الحجة نسيجا من خيوط التفاؤل والاستبشار، صباح أنعش بجاذبيته شعور الأهالي باقتراب العيد سعادة إلى سعادة، وجمعهم بالبحر الهادئ الساكن غربا لساعات لم يكتب لها أن تدوم طويلا.

المسافة بين بداية ذلك اليوم ونهايته أشبه بالمسافة بين طعم الثلج وطعم النار، فما أن انتصفت ساعات اليوم حتى تحولت زخات الديم إلى أمطار لم ينسها أناس المدينة عامهم وخاصهم، وتبدلت قطرات المطر الناعمة التي كانت إذا ما تجنت بللت الثياب إلى سيول جارفة أغرقت الحرث وخلطت النسل بالحجر، وكتبت لسكان جدة تاريخا جديدا بدءا مع ساعات المساء.

بعد الأمطار التي وصفت بـ«المعتادة» وبلغ متوسط كميتها 72.5 حسب الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة، ظل الدفاع المدني أياما يبحث خلف ما رم أو بقي من أجساد المفقودين، إلى أن أعلن عن 123 قتيلا شكلوا أكبر حالة موت جماعي في تاريخ جدة المنظور، بالإضافة إلى 350 مصابا عولجوا في مستشفياتها، وأكثر من 25 ألف سيارة بين ما لقي النحب إلى غير رجعة وبين ما تعرض بعض من أجزائه للتلف.

الضرر لحق بصورة خاصة بأحياء قويزة والمتنزهات والعدل والروابي والسليمانية، إضافة إلى الجامعة، عدا عن طريق الحرمين الذي شهد دائرة الأحداث وأغلق لاحقا لعدة أيام.

لم يفرق السيل الجارف بين معامل كليات الطب والهندسة، وبين دكاكين المواد الغذائية الصغيرة، فجامعة الملك عبد العزيز خسرت بسبب إتلاف السيل مختبرات وأجهزة نوعية حساسة فيها، بالإضافة إلى حيوانات «حية» كان الطلاب يجرون عليها الأبحاث، فيما لحقت أضرار كبيرة بالمستشفى الجامعي، في وقت شهدت الجامعة لاحقا غيابا جماعيا للطلاب.

كان مرشحا أن يصل عدد قتلى الكارثة إلى 137 لولا أن سخر الله أحد البائعين الباكستانيين ذا الخلفية الكشفية الذي أريد أن يحضر القسمة وينال نصيبها الأكبر، ففرمان علي خان، إحدى شخصيات تلك التراجيديا السوداء، لا يزال يتذكره 25 ألفا يزورون قبره الإلكتروني عبر صفحة خصصت له على فيس بوك، إذ أنقذ هذا الأخير 14 شخصا من الغرق في لجة السيل، في وقت عجز عن إنقاذ نفسه فذهب شهيد المكان وكتب له أهالي العروس الخلود على شفاههم ومدوناتهم الإلكترونية.

مع أن الشائعات كانت سهلة العبور من خلاله، فإن «تعظيم سلام» رفعه كل متابعي الكارثة للإعلام الجديد، ففيس بوك وتويتر والمدونات نقلت الكارثة من البنيان إلى الوجدان، فمسلمو العالم راقبوا أولا بأول ما يحيط بتحركات ذويهم الذين سيمر أغلبهم لا محالة بالمدينة المنكوبة بعد فراغهم من أداء النسك.

عوضا عن ذلك كان الإعلام الجديد عاملا هاما في تدارك خطأ بيان وكالة الأنباء السعودية، فما أبداه البيان من «خروج أهالي وسكان جدة لمشاهدة الأمطار، بعد طول انقطاع» بالإضافة إلى «عدم تذمرهم من تجمع الأمطار في بعض الشوارع» لم يكن سوى تحصيل حاصل اعتاد المحررون على ترتيب كلماته في بعض الأخبار.

بينما لم تكد تخفت أصوات التلبية هناك في المشاعر المقدسة وينهي الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، أعمال إشرافه السنوي على الحج إلا وعاد إلى جدة. فحاضرة مشروعه إلى العالم الأول، التي وقف يوما ما لها وصفق لأهلها، تئن اليوم ويسر له ليلها عن أمر المعاناة.

ليس بعيدا عن عودته زمنا جالت طوافة الأمير سماء الأماكن المتضررة في الأحياء الجنوبية والشرقية من جدة، وشخص للصحافيين الذين رافقوه الحالة عند ذلك قائلا: «إن 3 عوامل تسببت في الفاجعة، أولها كوارث لا يمكن التدخل فيه أو التحسب لها، وثانيها تخطيط بعض المناطق على الأودية ومجاري السيول، وآخرها تأخر تنفيذ مشاريع معتمدة سلفا لتصريف مياه الصرف الصحي».

فوق العادة وأكثر من المعقول وضعت أمانة محافظة جدة بقيادة المهندس عادل بن محمد فقيه وزير العمل الحالي «تحت المجهر»، وبات رصد كل سكناتها وحركاتها من قبل الناس والصحافة يفوق رصد السجان لأسيره.

قضت عروس البحر الأحمر بعد ذلك ليالي وأياما، تخشى في أي ساعة أن تعيدها بحيرة الصرف الصحي التي أتت الأخبار والسير أنها كفيلة بأن تعيد لجدة هول ما رأته يوم الكارثة، فكان تدخل السلطات بشكل سريع لإخلاء الأحياء القريبة منها شرق طريق الحرمين مع تأمين مساكن للنازحين.

مباشرة، فتحت الكارثة التي ضربت أطناب جدة وهزت رواشينها أبواب الأسئلة، وهيأت مرتعا واسعا رقصت فيه علامات الاستفهام والتعجب، إذ تساءل الأهالي والكتاب والمسؤولون حول الآلية التي أديرت بها العاصمة الاقتصادية والتجارية للمملكة منذ عقود، فالعروس التي تخصص لها المليارات لتتزين سنويا، رفعت لثامها فأبدت وجها لم يلق استحسان «العريس».

لم تكد تلك الأسئلة الكثيرة أن تلقى إجابات تساوي ثقلها حتى جاء سريعا بيان ملكي، ليضع كل شخص أمام مسؤوليته دون حجاب أو ترجمان، ولينكأ أمام المواطنين جرحا شعر به الملك كما الناس تماما. فخادم الحرمين الشريفين تابع - كما جاء في البيان - «ببالغ الحزن والألم الأحداث المأساوية التي نتجت عن هطول الأمطار على محافظة جدة، وما أدت إليه من وفيات، تجاوزت مائة شهيد، وإصابة الكثيرين، إضافة إلى الكثير من التلفيات والأضرار البالغة، على المنشآت العامة والممتلكات الخاصة»، مشددا على من وقع عليه وزر الفاجعة «كائنا من كان» أنه لن يستثنى من المساءلة والعقاب.

فسح البيان صفحة لمفردة «فساد» في قاموس المجتمع، وبدت جرأته كشمس رابعة النهار إذ وصف أسباب الفاجعة بـ«غير الكارثية»، وكان إلى ذلك أكثر إقداما باتجاه الحل حينما قرر تشكيل لجنة للتحقيق وتقصي الحقائق، وحصر الخسائر برئاسة أمير المنطقة، وبرهن بيان الملك على الأثر الكبير الذي تركه المشهد الحاصل غرب البلاد، حينما أمر «حالا» بصرف تعويض لذوي الشهداء قدر بمليون ريال سعودي (نحو 267 ألف دولار أميركي).

مع انتهاء مذيع الأخبار من تلاوة البيان الملكي الذي تبع الكارثة بـ4 أيام، رسم خط جديد يحدد أولويات العمل فأخذت تحركات اللجنة كل الاتجاهات، فدعت إلى تواصل المواطنين معها بأدق المعلومات عبر الهاتف، وأنشأت موقعا على الإنترنت لذات الغرض، كما أنها، وفي خطوة لاحقة شجاعة، استدعت على مرأى ومسمع الكل أكثر من 30 مسؤولا بين سابق وحالي لاستجوابهم فيما توصلت إليه من نتائج، إلى ذلك أخذت جهود اللجنة في التواصل حتى أعلن أمير المنطقة لاحقا تشكيل لجنة دائمة لمكافحة الفساد الإداري تابعة لإمارة المنطقة.

لم يكن الفرق بين سيل الأربعاء الذي جرف جدة وبين سيل المواطنين الذي جرف المجلس البلدي كبير فرق، فالمجلس البلدي في جدة الذي عقد في يناير (كانون الثاني) الماضي لقاء مفتوحا مع المواطنين برئاسة حسين علوي باعقيل، تصدى لآراء جريئة من المواطنين، جاء اللقاء الذي أقيم بقاعة الرفيدي بجدة مختلفا، حينما تحولت أرجاء القاعة التي ضجت بالنساء والرجال إلى سوق بيعت واشتريت فيها الأسئلة والأجوبة بانفعال دفعتهم إليه تبعات الكارثة.

هبت الأمانة لإنقاذ ما يمكن، ولتلافي ما قد تسببه أمطار يتكرر نعتها بـ«المعتادة» ويتكرر نعت آثارها بـ«الكارثية» حتى قامت ببناء سد احترازي للبحيرة، ومدت خطوط التصريف من شرق المدينة إلى غربها، وسلمت بحيرة الصرف الصحي التي عرفت آنذاك بـ«المسك» لوزارة المياه التي نجحت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي في محوها إلى الأبد.

خاض بدوره الدفاع المدني غمار الإنقاذ أيضا مع أنه الجهاز الذي عاش موسما عسيرا بعد استنفار طويل سببته زلازل العيص وأملج بالإضافة إلى موسم الحج، أفراد الدفاع المدني بذلوا بعد الكارثة أقصى جهدهم لإيواء 9 آلاف أسرة شملت 31 ألف فرد، ممن تركوا منازلهم أو فقدوها، وصرفت حسب التعليمات بدل إعاشة لـ5.9 أسرة من الأسر المتضررة.

بعد مرور شهرين على الكارثة، أعلن الدفاع المدني استخدامه أقمارا صناعية، بغية البحث عن 32 مفقودا، لم يعرف مصيرهم من جراء الكارثة، البحث كما جاء على لسان الناطق الإعلامي للدفاع المدني شمل مجاري الأودية كافة، المدفونة والظاهرة، حتى آخر امتداد لها، إضافة إلى القيام بعمليات مسح شاملة لشواطئ المدينة كافة من قبل فرق حرس الحدود في احتمالية لجرف السيول بعض المفقودين إلى البحر.

ما سميت بـ«كارثة جدة» نزعت من المدينة الساحلية ألوانها، وتركتها أشهرا مكتئبة شاحبة الملامح، ووسط تلك اللوحة الباهتة لم ينتظر أبناء وبنات جدة نداء محتاج أو استغاثة نازح، فسحبوا الكرة إلى ملعبهم وأجروا حفنة من الدم في عروق مدينتهم إنعاشا لآمال المتضررين.

قصة تلك الأعمال وتنسيقها أتت بمتابعة من الأمير مشعل بن ماجد، محافظ جدة، إذ أقام أعضاء من المجلس البلدي في اليوم التالي للكارثة، بمقر الغرفة التجارية، لقاء تنسيقيا مع فرع وزارة الشؤون الاجتماعية، وتقرر خلال الاجتماع تشكيل لجنة لتنسيق جهود الجمعيات الخيرية والفرق التطوعية بجدة برئاسة مازن بترجي، نائب رئيس الغرفة التجارية.

وكالجسد الواحد تداعى للمتضررين أبناء المملكة بالسهر والحمى، فمسؤولون ومشهورون تقدموا صفوف الشباب والفتيات لتقديم المساعدة، وصيروا شوارع وطرق جدة خلايا نحل تنقل الغذاء والدواء والغطاء ومواد البناء، لتسدد وتقارب، إنقاذا ومساعدة تصلح ما أفسد الدهر.

عادت الأمانة وتحت ذات الأنظار المراقبة للظهور، فأعلنت حظر 24 ألف قطعة أرض شرقي المدينة وإيقاف أعمال البناء والتشييد فيها، وبعد 5 أشهر رفعت الحظر المفروض عن 12339 قطعة.

في مايو (أيار) 2010 وفي تطور لقي أعرض المانشيتات ومقدمات الأنباء، أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بإحالة المتهمين في الكارثة لهيئة التحقيق والادعاء العام في رد فعل جديد أعقب الأعمال التي قامت لجنة تقصي الحقائق بتنفيذها واقعيا على الأرض.

وبعد هذا الإجراء الملكي جاء تحرك جديد جدد سير العمل في أمانة جدة ومن نفس المصدر، إذ سمي في أغسطس (آب) هذا العام المهندس عادل بن محمد فقيه وزيرا للعمل بعد وفاة الوزير السابق الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي وعين المهندس هاني أبو راس ليكون الأمين الثامن لجدة.

«حدثوا حول كارثة جدة ولا حرج» فالقصص التي تبعت تلك الفاجعة كثيرة وغريبة فوق ذلك. فبين أشخاص تنبأوا بالكارثة قبل وقوعها وأسرة تلغي بلاغا عن ابنها المفقود، ومواطنين يردون بعنف على تفريغ بحيرة الصرف في البحر، وبين شخص يربط الكارثة بذنوب الأهالي وآخر يدعي أن ذنوبهم لا دخل لها بالكارثة، أعطت تلك الأطروحات لكارثة جدة بعدا جديدا يبرز كل شخص كبطل مستقل في القصة.

بيان من الديوان الملكي، وعشرات القرارات الإدارية ذات العلاقة، ومئات المقالات والمواد الصحافية، وآلاف الصور الفوتوغرافية، وملايين المترقبين والمتابعين، ومليارات الريالات، مثلت ردود فعل وتحركات فاعلة ومؤثرة، ولتعلن أن قدر «عروس البحر الأحمر» لن يكون بعد اليوم كذاك الذي جرى مساء الأربعاء الخامس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 2009.