تلازم بين «السياسة» و«الإنسانية» في زيارة الملك سعود التاريخية لأميركا قبل 54 عاما

حب الملك للأطفال متمثلا في الحنان الأبوي تجاه نجله الأمير «مشهور» أدخل السرور على قلب كل أميركي * روزفلت مخاطبا الملك سعود: نتوسم فيكم زعيما عظيما للأمة العربية وحاميا لحمى أقدس المدن لدى المسلمين * الزائر الملكي حمل رسالة السلام ودعا إلى العدل في قاعة ترددت فيها أصداء المنازعات والخلافات

الزعيمان الأميركي والسعودي يسيران نحو المنصة ليتبادلا خطب الترحيب الرسمية
TT

تعد زيارة الملك سعود إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل نحو 55 عاما من الزيارات التاريخية، إذ أثمرت الزيارة توطيد العلاقات السعودية - الأميركية وحققت هدفها في بحث القضايا العالمية المعاصرة، والقضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي كانت مصب المحادثات مع الرئيس الأميركي آنذاك «إيزنهاور» الذي وجه الدعوة للملك سعود لزيارة الولايات المتحدة الأميركية.

واستغل الملك سعود زيارته التاريخية هذه بالتوجه إلى مقر هيئة الأمم المتحدة، حيث ترددت في قاعتها أصداء المنازعات والخلافات، وفي مناسبة فريدة كان الملك سعود فيها خطيبا، وكانت القاعة تردد في أرجائها دوي التصفيق والهتافات الرائعة بالزائر الملكي الذي حمل إلى الحاضرين وقد ترفعوا عن عالم الشقاق والخصومة رسالة السلام وحسن النيات، وقد أكد العاهل السعودي أن «الرجوع إلى حظيرة الأمم المتحدة ورد علاقات الدول والشعوب إلى مبادئها وتعاليمها والتمسك بأحكام ميثاقها، نصا وروحا، وتمكين الشعوب المطالبة بحقها في الحرية والاستقلال من تقرير مصيرها، هو السبيل الوحيد لتجنيب الإنسانية شرور الأزمات وويلات الحروب».

وبخلاف ما أسفرت عنه الزيارة من نتائج سياسية واقتصادية، وما حظيت به من تغطية إعلامية لافتة إلا أن هناك نتائج حققتها الزيارة، حيث أثار لطف الملك امتنان الأميركيين، كما تركت الزيارة حصيلة من الشعور الطيب نحو الملك ونحو البلاد التي يرعاها، إضافة إلى أن نجله الصغير الأمير مشهور بن سعود الذي صحبه في الزيارة، فإنه وإن لم يلعب دورا في المحادثات الرسمية، إلا أنه سجل نصرا شخصيا لا يمحى أثره، إذ إن الأمير الصغير بابتسامته الساحرة وتحيته الودية ونشر صورته في الصحف وعلى شاشات التلفزيون في مختلف أرجاء الولايات المتحدة كسب بالفعل حب الملايين من الأميركيين، كما أن حب الملك للأطفال وعطفه الواضح عليهم تبين من الحنان الأبوي الذي يكنه الملك نحو نجله، مما أدخل السرور على قلب كل أب.

وقد عبر الملك سعود عن روح الحفاوة والشعور الطيب التي سادت أجواء زيارته لواشنطن أجمل تعبير في رده على اعتذار المستر نيكسون نائب رئيس الولايات المتحدة في وقت الزيارة عام 1957م للملك عن برودة الجو وعبوسه، في الوقت الذي هم فيه الملك السعودي بمغادرة مطار واشنطن، إذ قال الملك: «إن ما سأتذكره هو حرارة الترحيب القلبي».

وبعد نحو نصف قرن على هذه الزيارة التي بدأت في التاسع والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) من عام 1957م، واستغرقت 11 يوما وحظيت باهتمام رسمي وشعبي كبيرين، أعادت دارة الملك عبد العزيز طبع ونشر كل ما يتعلق بهذه الزيارة، قامت «أرامكو» على ما يبدو بإصداره وضم تسجيلا مصورا ومكتوبا عن زيارة الملك سعود ثاني ملوك الدولة السعودية الحديثة إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك وإلقائه خطابا فيها، إلى جانب زيارته التي شملت البيت الأبيض المقر الرئيسي في واشنطن، وقد صور السجل أيضا الملك خلال زيارته المركز الإسلامي في العاصمة الأميركية، وزيارته إلى المعهد البحري الأميركي في ولاية ميريلاند، وختم السجل بتصوير لحظات المغادرة والوداع وما جرى فيها من مراسم رئاسية أميركية.

يقول السجل: كان وصول صاحب الجلالة الملك سعود إلى نيويورك مناسبة من أروع المناسبات التي شهدتها مدينة طالما شهدت زيارة المشاهير من الناس.

ولم تنتظر الحكومة الأميركية، لمد يد الترحيب، وصول الركب الملكي إلى نيويورك، إذ إن الباخرة «كونستتيوشن» كانت لا تزال على مسافة بعيدة من مرفأ نيويورك عندما طار سرب من الطائرات النفاثة «بي - 47» إلى البحر لتحية جلالة الملك ولإعطاء الدليل الواضح على أن الولايات المتحدة تتطلع بسرور إلى قدوم جلالته.

وعندما وصلت الباخرة إلى مدخل الميناء سارع مركب من مراكب حرس السواحل التابع للولايات المتحدة إليها لنقل جلالة الملك وبعض أفراد الحاشية من الباخرة إلى المدمرة «ويليس لي»، إحدى قطع الأسطول البحري الأميركي، وكانت فرقة موسيقية تابعة لسلاح البحرية الأميركية تعزف عند صعود جلالته إلى ظهر المدمرة، بينما كان العلم السعودي يرفع على ساريتها. وأطلقت المدافع، على الفور، 21 طلقة تحية للزائر الملكي العظيم في حين انسابت 8 مدمرات أمام العاهل السعودي وقد وقف رجالها يؤدون التحية العسكرية.

وكان في شرف انتظار جلالته، على الرصيف، نيابة عن الحكومة الأميركية، المندوب الشخصي للرئيس إيزنهاور، سعادة المستر هنري كابوت لودج، سفير الولايات المتحدة لدى هيئة الأمم المتحدة.

كما كان في شرف استقبال جلالته، أيضا عدد كبير من رجال الحكومة الأميركية ومندوبي هيئة الأمم المتحدة وكبار رجال السلك الدبلوماسي وأرباب الأعمال البارزين، وقد تأثر الجميع بصدق العاطفة التي عبر عنها جلالة الملك في الكلمة التي رد فيها على ترحيب المستقبلين، والتي قال فيها: «لقد جئت إلى أميركا تلبية لدعوة من صديقي العظيم فخامة الرئيس إيزنهاور، وهو حدث طبيعي لما يربط بين بلدينا من عرى الصداقة.. وإنني لوطيد الأمل بأن تسفر زيارتي هذه والأبحاث التي سأقول بها عن تمكين العلاقات بين بلدينا وتعزيزها وعن نتائج طيبة تنفع الشرق الأوسط والبشرية كافة».

لقد كانت دلائل التقدير العالي الذي قوبل به جلالة الملك في الولايات المتحدة من الإبهار لدرجة أنها أظهرت سخف محافظ نيويورك وخيبته في تقديم الترحيب اللائق بجلالة الملك، هذه الخيبة التي قوبلت على الفور بالتنديد من قبل فخامة الرئيس إيزنهاور ومن قبل الصحف في نيويورك والمدن الأميركية الأخرى.

إن مراسم التكريم البالغ التي قدمت لجلالته من قبل القوات المسلحة الأميركية وكبار رجال حكومة الولايات المتحدة، والاستقبال الرائع الذي قوبل به جلالته في هيئة الأمم المتحدة وعبارات التقدير والاحترام التي وجهت إلى شخص جلالته خلال مأدبة العشاء التي أقامها على شرف جلالته، سعادة الشيخ عبد الله الخيال، سفير المملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة، كل ذلك كان من شأنه أن يقدم الدليل الساطع على أنه حل بين أصدقاء خلص يملأهم شعور الفخار والسعادة لحظوتهم بشرف الترحيب بجلالته.

* رسالة إلى العالم من ملك

* في قاعة الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، تلك القاعة التي كثيرا ما ترددت فيها أصداء المنازعات والخلافات، مرت بالمندوبين، يوم 29 يناير 1957، فترة سامية ترفعوا فيها عن عالم الشقاق والخصومة عندما حمل إليهم زائر ملكي كريم رسالة السلام وحسن النية.

أما الخطيب فكان صاحب الجلالة الملك سعود، ولقد كان الهتاف الرائع الذي قوبل به جلالته في هيئة الأمم المتحدة يتناسب مع نبل رسالته وعلو شأنه كزعيم عالمي كبير.

وكان في شرف استقبال جلالته أمام مدخل مقر هيئة الأمم المتحدة وفد من المشاهير على رأسهم المستر داغ همرشولد الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة. وبعد تقديم مراسم الترحيب بالضيف الكريم توجه الملك نحو بهو مجلس الأمن حيث أعدت مأدبة غداء فخمة على شرفه حضرها 80 مدعوا قاموا جميعا بتقديم عبارات الحفاوة والاحترام للزائر الملكي النبيل.

وعندما حان موعد ذهاب جلالته إلى قاعة الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة رافقه المستر همرشولد نحو الباب المخصص للاحتفالات بالمناسبات الفريدة المماثلة. وفي اللحظة التي دخل فيها جلالته القاعة وقف الجميع، من مندوبين ومتفرجين، إجلالا وتكريما، ورددت القاعة صدى التصفيق الحاد، وقد صحب جلالته إلى المنصة الأمير وان وايثاياكون مندوب تايلاند ورئيس الجمعية العمومية.

وقد استهل جلالته خطابه بالثناء على هيئة الأمم المتحدة «تلك المنظمة التي علقت عليها البشرية أكبر الآمال وأعزها». وأضاف جلالته قوله: «ولقد وجدت مبادئ الميثاق في الأمم المتحدة تجاوبا صادقا وترحيبا حارا من أمتي»، ثم ذكر جلالته المندوبين بالحقيقة التالية عندما قال: «لا شك أن الكثيرين منكم يعرفون أن معنى الإسلام هو السلام، وأن تحيتنا اليومية هي تمني السلام بعضنا للبعض الآخر. وشريعتنا الإسلامية قد سجلت منذ أكثر من 13 قرنا أن الناس سواسية».

وانتقل جلالته بعد ذلك إلى التكلم عن التوتر والاضطرابات الناشئة عن «سياسة السيطرة والتمسك بالنزعات العتيقة البالية»، التي ينتج عنها «عدوان وقتال وضغائن وأحقاد»، وقدم جلالته النصح إذ قال: «إن الرجوع إلى حظيرة الأمم المتحدة ورد علاقات الدول والشعوب إلى مبادئها وتعاليمها والتمسك بأحكام ميثاقها نصا وروحا وتمكين الشعوب المطالبة بحقها في الحرية والاستقلال من تقرير مصيرها هو السبيل الوحيد لتجنيب الإنسانية شرور الأزمات وويلات الحروب».

ودعا جلالته جميع أعضاء هيئة الأمم إلى «التمسك بمبادئ العدالة واحترام حقوق الإنسان والسعي الحثيث للمحافظة على السلام والأمن الدوليين». واختتم جلالة الملك سعود خطابه بقوله: «والله أرجو أن يوفقنا جميعا لما فيه خير الإنسانية».

وعندما أنهى جلالته كلمته وبدأ في مغادرة القاعة، دوّى المكان بالتصفيق ووقف المندوبون مرة أخرى إجلالا وتعبيرا عن شعورهم بالامتنان لزيارة جلالته ورسالته الملكية السامية.

وهكذا سجل صاحب الجلالة الملك نصرا عظيما.

لقد أضافت مدينة واشنطن على مر السنين، بصفتها عاصمة للولايات المتحدة، عددا كبيرا من قادة العالم البارزين، ولكنها ندر ما شهدت استقبالا يماثل في روعته وفخامته الاستقبال الذي قوبل به جلالة الملك سعود.

فالرئيس إيزنهاور الذي لم يذهب قط إلى المطار ليستقبل أي رئيس دولة منذ اعتلائه سدة الرئاسة عام 1953، ذهب بنفسه ليستقبل جلالة الملك سعود في المطار ضاربا بذلك المثل الأول للضيافة القلبية وحسن النية المتبادلة التي سادت جو الزيارة الملكية منذ بدئها حتى نهايتها.

وقد أرسل الرئيس إيزنهاور طائرته الخاصة «كولومبين الثالثة» لتنقل جلالة الملك سعود من نيويورك، كما ذهب فخامته يصحبه كبار مساعديه لانتظار الركب الملكي على أرض المطار الجوي العسكري، كما اجتمع هناك ألوف من الناس الذين بادروا للاشتراك في الترحيب بجلالة الملك، وما إن حطت الطائرة التي تقل جلالته على أرض المطار حتى دوت المدافع مرسلة الطلقات الـ21 التقليدية تحية للزائر الملكي الكبير، وعندما بدا جلالته على رأس سلم الطائرة قوبل ظهوره بعاصفة من التصفيق والهتاف، وما إن وصل، رعاه الله، إلى نهاية السلم حتى سارع فخامة الرئيس إيزنهاور إلى مصافحته قائلا «يا صاحب الجلالة: إني أرحب بمقدمكم إلى الولايات المتحدة».

وبذلك بدا إعراب أكيد للصداقة من خلال التقدير المتبادل. وكانت حكومة الولايات المتحدة ممثلة بوفد يتألف من أكبر رجالاتها. وكان جميع السفراء والوزراء المفوضين تقريبا وكبار مساعديهم بين مستقبلي جلالته.

وقد شعر الجميع بحسن النية المتدفقة التي سادت هذه المناسبة عندما وقف جلالة الملك وفخامة الرئيس، مؤديين للتحية، أثناء عزف النشيدين الوطنيين للمملكة العربية السعودية وللولايات المتحدة الأميركية، وعندما قاما باستعراض حرس الشرف الذي يتألف من أسلحة الجيش والبحرية والطيران الأميركية، وعندما تبادلا كلمات الترحيب الرسمية. ولقد قال فخامة الرئيس لضيفه المبجل:

«إننا نترسم فيكم زعيما عظيما للأمة العربية وحاميا لحمى أقدس المدن لدى المسلمين، ولقد غمرتنا زيارتكم بالشرف».

ورد جلالة الملك سعود، شاكرا على «الترحيب الحار» متبعا ذلك بقوله: «بالنيابة عن شعبي، أؤكد لفخامتكم رغبتي في توطيد علاقاتنا مع الشعب الأميركي على أساس المودة والمصلحة المتبادلة». وقد تفضل جلالته فقبل مفتاح مدينة واشنطن الذي قدم إليه باسم سكان هذه المدينة التاريخية.

وعلى جانبي الطريق المؤدي من المطار إلى قصر الضيافة احتشد ما يزيد على 100 ألف شخص - وهو أكبر جمهور احتشد لتحية أي زائر أجنبي في سنوات كثيرة - لتحية جلالة العاهل العظيم الذي استقل وفخامة الرئيسي إيزنهاور سيارة مكشوفة رافقتها أرتال من قوات المشاة الأميركية ورجال الشرطة الذين يمتطون الدراجات النارية وفرقة من الخيالة. واصطف على جانبي طريق الموكب الملكي 14 فرقة موسيقية، عسكرية ومدنية، تصدح أنغامها بالأناشيد. وقد رفعت لافتة ضخمة فوق شارع «الدستور» الشهير كتب عليها بأحرف كبيرة «مرحبا بالملك سعود» ولوح آلاف من الناس بأعلام المملكة العربية السعودية التي وزعت خصيصا لهذه المناسبة.

وفي قصر الضيافة الرسمي، حيث استقبلت فرقة موسيقية من سلاح البحرية الأميركية الزعيمين الكبيرين بعزف الأناشيد المناسبة، طرح جلالة الملك وفخامة الرئيس متاعب الدولة جانبا لوقت قصير، وفعلا كما يفعل أي صديقين، سواء كانا من علية القوم أو من عامة الناس، وذلك بأن جلسا لرشف القهوة وتبادل الحديث.

وعلى الرغم من أن صاحب الجلالة الملك سعود كان على بعد 7000 ميل من الرياض، فإن جلالته ولا شك شعر بأنه طيلة ما أراد الإقامة في هذه البلاد فهو مقيم بين أهل يودون لو أطال الإقامة بين ظهرانيهم.

* خدمة قضايا السلام

* على أثر انتهاء صاحب الجلالة الملك سعود وفخامة الرئيس إيزنهاور من اجتماعهما الثاني الذي بحثا فيه الشؤون الدولية، علق ناطق باسم صاحب الجلالة الملك على الاجتماع بقوله: «إن المباحثات جرت في جو ودي للغاية». وعندما انتهى الزعيمان من آخر اجتماع لهما كتبت إحدى الصحف الأميركية الكبرى التعليق التالي:

«إن محادثاتهما انتهت في جو مشبع بحسن النية والاتفاق الودي». هذان التصريحان يعطيان صورة ملخصة صادقة عن الروح والنجاح اللذين سادا مباحثات جلالة الملك وفخامة الرئيس، هذين الرجلين المخلصين اللذين يعتبران تدعيم قضية السلام في العالم أصدق رغباتهما.

وقد عقد جلالة الملك وفخامة الرئيس اجتماعهما الأول يوم وصول جلالة الزائر الملكي الكريم إلى واشنطن، ولم يحضر هذا الاجتماع الذي تم بين الزعيمين الكبيرين في مكتب الرئيسي الأميركي إلا معالي جمال بك الحسيني مستشار جلالة الملك، الذي قام بدور المترجم. وعلى أثر هذا الاجتماع انتقل الملك والرئيس إلى قاعة مجلس الوزراء حيث استؤنفت المباحثات بحضور كبار مستشاري الطرفين.

وعاد الزعيمان بعد ذلك إلى مكتب الرئيس الأميركي لخلوة أخرى دامت ساعة ونصف الساعة.

وتبين فورا أن صداقة شخصية متينة توطدت بين هذين الزعيمين العالميين الكبيرين، إذ كان واضحا أن كلا منهما يحترم الآخر وكلا منهما يدرك عظم صدق الآخر وإخلاصه. وعندما اجتمع الزعيمان مرة أخرى في أول فبراير (شباط)، كان في منتهى الوضوح أن مباحثاتهما، كما قال المستر دالاس، قد كللت بنجاح باهر، وقد صرح فخامة الرئيس إيزنهاور في مؤتمر صحافي بما يلي: «إن مباحثاتنا قد حلت عددا كبيرا من العقد وأزالت كثيرا من سوء التفاهم». وقد دارت مباحثات العاهلين حول عدد كبير من مشكلات الشرق الأوسط فتناولت أمورا اقتصادية وسياسية وعسكرية. وتكلم كل منهما بحرية وصراحة تامتين، كما أن كلا منهما أصغى للآخر بإمعان وتفهم. وبعد أن توصلا إلى اتفاق عام على المسائل الرئيسية أحالا إلى أعوانهما مهمة وضع الاتفاقات المفصلة.

وفي يوم 8 فبراير، أي قبل مغادرة جلالة الملك الولايات المتحدة بيوم واحد، عقد العاهلان الكبيران آخر اجتماع لهما، واتضح من البلاغ الرسمي المشترك الذي أصدراه أن مباحثاتهما أتت، من دون شك، بأطيب الثمار.

لقد قال صاحب الجلالة الملك سعود عند وصوله إلى نيويورك ما يلي: «إن الظروف التي تواجه الشرق الأوسط في الوقت الحاضر تتطلب من جميع من صفت نواياهم ورسخت عزائمهم أن يوحدوا جهودهم في خدمة السلام وأن يستحثوا جهودهم للقضاء على أسباب التوتر وأن يستهلوا عهدا جديدا متسما بالمودة والتفاهم بين الشعوب».

وفي واشنطن، وحد رجلان ممن صفت نياتهما ورسخت عزائمهما الجهد في سبيل تحقيق الأهداف التي تكلم عنها جلالة الملك.

* الملك ضيف ومضيف

* كان كل يوم من الأيام التي قضاها صاحب الجلالة الملك سعود في واشنطن مليئا بساعات طويلة من العمل المكرس لشؤون الدولة.

فكانت هناك مؤتمرات ومشاورات ومقابلات ملكية للزوار العرب البارزين ومآدب غداء وعشاء وحفلات استقبال وغير ذلك من أوجه النشاط التي ترافق عادة زيارة عاهل كبير.

أما أولى المناسبات الاجتماعية فكانت مأدبة العشاء الفخمة التي أقامها فخامة الرئيس إيزنهاور تكريما لجلالة الملك سعود في البيت الأبيض، التي حضرها 58 ضيفا من كبار رجالات الحكومة الأميركية وأعضاء السلك الدبلوماسي وكبار أرباب الأعمال.

وكان من جملة ما تضمنه البرنامج الاجتماعي مأدبة الغداء التي أقامها المستر ريتشارد نيكسون، نائب رئيس جمهورية الولايات المتحدة على شرف حضرة صاحب الجلالة الملك سعود وحفلة الاستقبال التي أقامها صاحب السعادة الشيخ عبد الله الخيال سفير المملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة، ومأدبة العشاء التي أقامها المستر جون فوستر دالاس ومأدبة الغداء التي أقامها المستر تشارلز إي ويلسون، وزير الدفاع في الحكومة الأميركية.

وكان في طليعة من تشرفوا بزيارة حضرة صاحب الجلالة الملك، حضرة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله، ولي عهد العراق، ومعالي الدكتور شارل مالك وزير خارجية لبنان، والسفراء وكبار الدبلوماسيين العرب في واشنطن.

وعلى الرغم من أن مشاغل الدولة لم تترك لجلالته من الوقت إلا أقله فإن جلالته، حفظه الله، لم يأل جهدا في العناية والاهتمام بولده الصغير الأمير مشهور خلال إقامة سموه في مستشفى والتر ريد العسكري، وبعد ذلك عندما تمكن سموه من الانتقال إلى جانب جلالة والده في قصر الرئاسة للضيافة، مما ترك لجلالته مكانا مرموقا في قلوب أفراد الشعب الأميركي.

لقد كان مبعث فخر للحكومة الأميركية وداعيا من دواعي سرورها أن تتمكن، بصفتها مضيفة لحضرة صاحب الجلالة الملك سعود، من القيام بواجب التكريم والضيافة للزائر الملكي الكريم بإقامة سلسلة من مآدب الغداء والعشاء على شرف جلالته.

وقد أراد جلالته، أن يبدي بدوره شعوره الطيب نحو الذين رحبوا به وتعاونوا في جعل زيارته ممتعة، فأقام مأدبة فخمة تجلى فيها الكرم العربي بأبدع مظاهره على شرف فخامة الرئيس إيزنهاور في فندق «ماي فلاور» في واشنطن. وكانت هذه المأدبة مناسبة رائعة مرموقة استطاع فيها الزعيمان الكبيران أن يتحادثا في جو من المرح والانسجام بعيدا عن مهام الدولة ومشكلاتها.

وقد أسبغت روح الصداقة والمودة التي أظهرها جلالته في الحفل الكريم رونقا من البهاء الطيف الملكي.

وقبيل مغادرة جلالته الولايات المتحدة بثلاثة أيام كان لمستر ديفيس رئيس مجلس إدارة شركة الزيت العربية الأميركية شرف القيام بدور المضيف في حفلة أقيمت على شرف جلالته في فندق «ماي فلاور» أيضا.

وقد شارك في هذا التعبير عن الترحيب والاحترام المديرون وكبار الموظفين في «أرامكو» والشركات التي تملكها.

* صلاة في المركز الإسلامي

* اغتنم صاحب الجلالة الملك سعود فرصة وجوده بواشنطن ليؤدي فريضة الصلاة في مسجد المركز الإسلامي الفخم.

لا جدال في أن هذا الصرح يعد من أفخم المباني في مدينة اشتهرت بجمال عمارتها، ويكسو البناء من الخارج الحجر الأبيض ونقشت عليه باللون الأزرق الزخارف والآيات القرآنية. ويسير الزائر من المدخل الرئيسي بين الأعمدة المتناسقة حتى يصل إلى الفناء المكشوف للمسجد الذي تعلوه مئذنة يبلغ ارتفاعها 160 قدما.

والمنظر الداخلي للمسجد يخلب الألباب بروعته وجماله مما يعجز القلم عن وصف دقة الفن المعماري وأعمال الزخرفة التي بذلت في سبيل إظهاره على هذا الرونق والجلال.

يشمل هذا الصرح جامعا حيث يؤدي المسلمون شعائرهم الدينية ومركزا ثقافيا حيث يتاح لكل من يهتم بالدراسات الإسلامية أن يتزود بالفلسفة والثقافة والحضارة الإسلامية.

وقد أدى المركز الإسلامي فعلا دورا مهما في شرح التعاليم والثقافة الإسلامية وتعريف الجمهور الأميركي بها. ويزوره كل أسبوع أكثر من ألف شخص، وكثيرا ما يلقي فيه علماء مشهورون من المسلمين المحاضرات والبحوث القيمة.

لقد تم بناء المركز بفضل المساعدات المالية التي قدمت القسم الأكبر منها المملكة العربية السعودية والدول الإسلامية الأخرى وهي أفغانستان ومصر وإندونيسيا وإيران والعراق والأردن وليبيا وباكستان وسورية وتركيا واليمن، كما تبرع لهذا المركز أيضا أمراء العائلة المالكة السعودية وبعض وجهاء الأميركان المسلمين وغيرهم.

وكانت زيارة صاحب الجلالة الملك سعود للمعهد البحري الأميركي في مدينة «أنابوليس» بمثابة فترة استراحة من جو واشنطن السياسي وفي المعهد يجري تدريس الشباب الذين يودون أن يصبحوا ضباطا في سلاح البحرية الأميركية.

وقد استقبل جلالته، عند وصوله المعهد، بالتحية العسكرية التامة، بما في ذلك إطلاق 21 مدفعا. وكان في شرف استقباله كل من الأميرال ويليام سمدبرغ الثالث، مدير المعهد البحري، وسعادة المستر ثيودور ماكلدن، حاكم ولاية ميريلاند.

وقد تفقد جلالته قاعة المعروضات التذكارية حيث تحتفظ البحرية الأميركية بسجلات ونماذج للحوادث التاريخية. وتفضل جلالته فتناول طعام الغداء في قاعة الطعام الكبرى مع طلاب وموظفي المعهد البالغ عددهم 3600 شخص. وقد استقبل جلالته هناك بعاصفة مدوية من التصفيق والهتاف عندما أعلن الأميرال سمدبرغ أن جلالة الملك سعود تلطف فاستعمل الحق الممنوح للزوار من رؤساء الدول فقط بإصدار العفو عن جميع مرتكبي المخالفات الخفيفة ضد أنظمة المعهد.

وودع جلالته، عندما غادر المعهد، بمثل ما استقبل به من الحفاوة والتكريم.

* وداع حار في أجواء باردة

* شعر المسؤولون في واشنطن بخيبة الأمل عندما استيقظوا صبيحة يوم 9 فبراير 1957، ليجدوا أن السماء ملبدة بالغيوم الداكنة وأن الطقس ممطر بارد. لقد أرادوا ليوم وداع جلالة الملك أن يكون يوما زاهيا مشرقا. ولكن لم يكن هناك من بادرة تدل على أن صاحب الجلالة الملك سعود قد أعار الطقس العبوس أي اهتمام. بل على العكس من ذلك فإن التعبير على وجه جلالته دل دلالة واضحة على رضا النفس، رضا من عقد العزم على تحقيق أمر ذي شأن ونجح فيما عقد العزم عليه.

وفي المطار كانت طائرة فخامة الرئيس إيزنهاور الخاصة في انتظار جلالة الملك المعظم لتحمله إلى أول محطة في طريقه إلى مملكته الكريمة. وفي اليوم الذي سبق سفر جلالته من واشنطن عقد جلالته اجتماعا مع فخامة الرئيس إيزنهاور دام ساعة ونصف الساعة، أعلن الزعيمان على أثره اتفاقهما على نقاط من شأنها تعزيز السلام والأمن في الشرق الأوسط.

كانت اجتماعات العاهلين اجتماعات مثمرة، تم فيها تبادل وجهتي النظر وتفسير الأسباب المؤدية إلى اختلاف وجهات النظر، ونتج عنها ازدياد حسن التفاهم وتوطيد عرى الصداقة وتقوية شعور الثقة المتبادلة.

وقد تبادل صاحب الجلالة الملك سعود وفخامة الرئيس إيزنهاور تحيات الوداع عقب انتهائهما من اجتماعهما الأخير، إذ أن برنامج الرئيس إيزنهاور حتم عليه مغادرة واشنطن في اليوم نفسه مما جعل ذهابه للمطار في اليوم التالي لتوديع صاحب الجلالة الملك متعذرا. ولكن المصافحة الحارة التي ودع بها العاهلان، أحدهما الآخر، كانت رمزا واضحا للتقدير العالي الذي يحمله كل منهما للآخر ولشعور الصداقة الذي يكنه الواحد للآخر.

وقد رافق جلالته للمطار وفد من كبار رجالات الحكومة الأميركية، كان في طليعتهم نائب رئيس جمهورية الولايات المتحدة المستر ريتشارد نيكسون ورئيس هيئة أركان حرب الجيش الأميركي، وعندما وصل جلالته، حفظه الله، إلى المطار أدت التحية لجلالته ثلة من حرس الشرف تمثل أسلحة الجيش والبحرية والطيران ومشاة الأسطول، بينما أطلقت المدفعية 21 طلقة تحية لجلالته، وعزفت فرقة موسيقى الجيش النشيد السعودي الوطني.

وعلى أثر ذلك تقدم جمهور غفير من الشخصيات البارزة لتوديع جلالته وتمني السفر المحمود له، وكان في عداد من تشرف بوداع جلالته في المطار جميع الممثلين الدبلوماسيين العرب وعدد كبير من الممثلين الدبلوماسيين لدول أخرى.

وقد أعرب نائب رئيس جمهورية الولايات المتحدة لحضرة صاحب الجلالة الملك سعود عن امتنان الشعب الأميركي لزيارة جلالته، فرد جلالته على ذلك بإعرابه عن شكره على ما لقيه في الولايات المتحدة «من ترحيب قلبي وتكريم». وأضاف، حفظه الله، قائلا «إنني أتطلع إلى قيام علاقات قوية ودية بين بلدينا».

وعندما حان وقت السفر، صعد جلالته سلم الطائرة متبوعا بأفراد حاشيته، وقبل دخوله الطائرة استدار مواجها جمهور المودعين ولوح بيده تحية الوداع، تعبيرا عن الشعور الطيب الملكي. أما آخر من صعد سلم الطائرة فكان الأمير الصغير المحبوب مشهور الذي أسر قلب الشعب الأميركي، وكان يحمل في يده نموذجا صغيرا لطائرة نفاثة. وعندما وصل الأمير الصغير إلى مدخل الطائرة رفع يده اليسرى في تحية ألفها منه الناس ثم ضم أصابعه إلى فمه وأرسل قبلة صغيرة، علامة الود والصداقة للمستر نيكسون وزوجته وابنتيه الصغيرتين. وأثارت هذه البادرة الطيبة من جانب الأمير الصغير إعجاب جمهور المودعين فعلت وجوههم الابتسامة وصفقوا له طويلا.

وبذلك انتهت الزيارة الملكية السامية في جو من السعادة والود والإكرام يضاهي الجو الذي بدأت به.