التشكيلي أيمن يسري يستعير مصباح «ديوجين» من العتمة لاكتشاف النور.. العمر محدود والعلاج على وشك الانتهاء!.

TT

ليس هناك شريط افتتاح، ولا أجواء تدشين معرض فني، فلا ألوان ولا إضاءة. اعتقد رواد صالة أتيلة جدة للوهلة الأولى أن فواتير الكهرباء لم تسدد، أو أن حرارة الصيف أذابت أسلاك التيار. يخرج الفنان أيمن يسري من بين العتمة ببدلته السوداء الداكنة، وكأنه الفيلسوف الإغريقي «ديوجين»، جاء في مهمة إنقاذ عاجلة ليسعف الموقف وهو يحمل بين يديه مصابيح كاشفة تعمل بالبطاريات الجافة يوزعها على الحضور ليتمكنوا من مشاهدة معرضه الغارق في الظلام.

بوابة الدخول، أيضا، متدثرة بستائر سوداء، وصوت موسيقى ضاجة تنبعث من آلة تسجيل ملقاة على الأرض تحت لوحات رسمت باللونين الأبيض والأسود، وهمهمة زوار تختلط لغاتهم المختلفة بين الدهشة والخوف والإمتاع.

تحرك شعاع الضوء على زوايا الجدار الأبيض الفارغ على أمل أن تكتشف عملا خفيا، فالفنان يسري عود زوار معارضه على المفاجآت وبذل الجهد لاكتشاف أعماله. وبالفعل تجد نقطة صغيرة في منتصف الجدار تسلط عليه الضوء وتقترب أكثر لتكشف لك عن عمل بحجم (سنتيمتر واحد) فقط، قطعة زجاج مرسوم عليها بشكل غير منتظم وجه إنسان !.

في المقابل تجد أغطية بلاستيك بحجم ورقة (A4) على هيئة ملفات شفافة شكلت على عدة طبقات لتعطي البعد الثلاثي للعمل، وبالضغط عليها وتسليط الضوء تشاهد حالات إنسان يحيط به آخرون، وكأنهم العائلة أو ذكريات حية لمن رحلوا عنا وتركونا في هموم الوحدة.

الوجه والإنسان أكثر موضوعات الفنان إثارة، هناك المزيد: بمحاذاة اليسار، هناك دائما وجوه منحوتة على قطع صغيرة مختلفة الأحجام كأنها في حديث نميمة عن زوار المعرض، في مقابلها، لوحة من الرمل يرقص في منتصفها حصان خشبي، ظاهر التعب والهزل عليه في سباق لا ينتهي مع الزمن وعقارب الساعة.

في منتصف المعرض، تقف طويلا حيث علق (كيسين) قديمان أحداهما شفاف مليء بالرمل يشبه الساعة الرملية يتساقط منه حبات رمل مشكلة كومة على أرض المعرض وإذا لمسته تساقط بكمية أكبر، أما الآخر فهو من قماش ويشبه حيوانا بحريا مغلفا بمادة عازلة يقطر من رأسه الماء تسقط القطرات في حوض زجاجي مسلط تحته مصدر ضوء يتحرك مع كل قطرة تسقط في الوعاء لينعكس على سقف الصالة وكأنك تنظر إلى نفسك باكتشاف المرات المظلمة وكأنه نبض الفؤاد يعد لحظات الزمن.

في الجوار، لوحة جدارية بيضاء ومستطيلة، إذا تجرأت ولمستها في محاولة لمعرفة تضاريسها البارزة عبر حزمة الضوء، تصدر صوتا وكأنها سلم موسيقي.

عوالم الفنان أيمن يسري يعبرها بألوانه المفضلة عبر وجوه متسللة بين لوحاته.. هو دائما يركز على فلسفة النظرة، وطعم المشهد البصري المدهش لمتذوقيه. في معرضه الأخير، ركز على العيون في أوضاع مختلفة. أعين فرحة، وأخرى دهشة، وثالثة حزينة، وأخرى تغرد بعيدا في حنين الى عالم الحب والحنان. يسرى، لم ينس أن يفاجئ زائريه، وضع لوحا من الزجاج بارزا جدا، كأنه يقول: «لا تخف يمكن لمسه!...كل لوحاتي تدعوك للمس من دون خوف أو تردد»، ولمزيد من الفضول وضع الفنان قطعا معدنية في منتصفها، إذا سلطت شعاع الضوء عليها، ستشاهد عينيك تتماهى مع العيون التي تحب!.

في الركن البعيد، ندخل الى عالم الألوان، ستصادف، أيضا، وجوه أيمن الرمزية وهي مختبئة خلف الضباب، غير واضحة الملامح، لتخرج من المعرض بشعور غامر بالسعادة، واكتشاف الذات، كأنك في هجعة النوم والأحلام، أو كأنك في مغامرة اكتشاف كهف مظلم تكتشف مجاهله بالنور الصادر من مصباحك الصغير.

في هذه اللغة الفنية، يدعونا الفنان الى بذل محاولة لأن نفهم، ونعيش، ونتعايش مع الآخرين، لنمنح الفرصة لغسل آلامنا بإكسير السرور والبسمات، والرضا بقدر المستقبل.. يقول أيمن يسري «العمر محدود.. والعلاج على وشك الانتهاء!».