المُشقـّر تلّ غريب الشكل سكنه العمالقة ويتوسط «قارة» الأحساء

TT

جرت العادة أن تندثر المواقع الجغرافية القديمة، وتتحول إلى أطلال يتم اكتشافها بعد حقب زمنية في مكان مهجور بعيدا عن السكان والعمران، ولكن المفاجئ أن يُكتشف موضع جغرافي قديم مثل (المُشقـّـر) في منطقة حيوية عامرة مأهولة بالسكان، وهو الذي يعود تاريخه إلى العصر الجاهلي، حيث ذكره الشاعر العربي المعروف امرؤ القيس (توفي عام 80 قبل الهجرة).

والمُشقر يوم من أيام (حروب) العرب المعروفة في العصر الجاهلي، يقول الدكتور عفيف عبد الرحمن في كتابه «الشعر وأيام العرب في العصر الجاهلي»: «يوم المشقر ويُعرف بيوم الصفقة، كان بين تميم وعامل الفرس في اليمن، وفيه أن باذام عامل كسرى باليمن بعث إلى كسرى قافلة تحمل ثياباً ومسكاً، فاعترض القافلة بنو حنظلة بن يربوع وقتلوا حراسها، في مكان يسمى (حَـرَض) فبلغ الخبر كسرى وأعدّ بواسطة عامله بالمشقّر فخاً نصبه لتميم في سنة قحط، وقتل عددا كبيرا منهم».

العلامة حمد الجاسر ـ رحمه الله ـ يذكر في كتابه «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية ـ المنطقة الشرقية ـ القسم الرابع) أن المؤرخين اختلفوا في موضع المشقر، فقيل «إنه موضع في الحجاز، ووادٍ في أجأ أحد جبلي طيء، وحصن في البحرين، وهذا أشهرها». وفي موضع آخر يورد الجاسر اختلاف المؤرخين في موقع المشقر، فهناك من يعتبره سوقا في الطائف، وحصنا بين نجران والبحرين، ويذكر في معجمه: «إذا أجملنا أرض البحرين وهي أرض المُشقّر، فهي هجر مدينتها العظمى والعقير والقطيف والأحساء، ومحلّم نهرهم».

وحول بناء هذا الحصن، يذكر الجاسر: «قال ابن الفقيه: ويقال: إنه من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، وقال غيره: المشقر حصن بالبحرين عظيم لعبد القيس يلي حصنا لهم آخر يقال له الصفا قبل مدينة هجر، والمسجد الجامع بالمشقر، وبين الصفا والمشقر نهر يجري يقال له العين».

يقول الشاعر يزيد بن المفرغ يهجو المنذر بن الجارود:

تركتُ قريشاً أن أجاور فيهمُ وجاورتُ عبد القيس أهل المشقرِ ويقال إن حصن المشقر بناه معاوية بن الحارث بن معاوية الملك الكندي، قال امرؤ القيس:

أو المكْرِعات من نخيل ابن يامنٍ دُوَينَ الصّفّا اللائي يلين المشقّرا وقال ابن الأعرابي: المشقر مدينة عظيمة قديمة، في وسطها قلعة، على قارة تُسمّى عَطَالة، وفي أعلاها بئر تثقب القارة، حتى تنتهي إلى الأرض، وتذهب في الأرض.

ويخلص الجاسر من هذا الاختلاف، إلى أن: «بين حصني المشقر والصفا نهر مُحلـِّم، وأن المشقر حصن بهجر، بين ملحم وسُليسل نهرين بهجر، ومحلم كان مما يسقي جُواثا في شمال واحة الأحساء، وسُليسل يقع في جنوب الواحة، وإذن فالمشقر يقع في وسطها في قاعدتها هَجَر».

المُشقّر، الصفا، نهر محلّم، من هذه الأسماء ينطلق الباحث عبد الخالق الجنبي ـ من أبناء قرية القديح في محافظة القطيف ـ ليسبر أغوار التاريخ ببحثه الدؤوب لمعرفة الموضع الحقيقي لحصن المشقّر، فينتهي بعد 10 سنوات من البحث المضني في مراجعة بطون الكتب العربية والبحث الميداني إلى أن المشقّر يقع في قرية القارة في الأحساء، القرية الشهيرة بجبلها المعلم السياحي المعروف ببرودة كهوفه صيفا والدافئة شتاءً.

عبد الخالق الجنبي يورد في كتابه الصادر حديثا (2004) بعنوان «هَجر وقصباتها الثلاث، المشقر ـ الصفا ـ محلّم». وفي رواية ذكرها البسوي في كتابه المعرفة والتاريخ في ترجمة أحد علماء عبد القيس، وهو قيس بن النعمان العبدي جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم: «أيّ هجر أعزّ؟ قال: قلتُ المشقّر. قال: فوالله لقد دخلتُها وأخذتُ إقليدها، وقمتُ على عين الزارة على الحجر من حيث يخرج الماء». ويقال إن عين الزارة هي عاصمة القطيف القديمة، والمعروفة اليوم بقرية (العوّامية).

ولما يحمله المشقر من شهرة مدوية في التاريخ العربي فقد ورد ذكره لدى أشهر شعراء الشعر العربي: طرفة بن العبد، الأعشى، مالك بن نويرة اليربوعي، لبيد بن ربيعة، الأخطل، الفرزدق، جرير، ذو الرمة، الخليل بن أحمد الفراهيدي، الأصمعي، ابن قتيبة، ياقوت الحموي، ابن المقرب الأحسائي (توفي بعد 630 للهجرة).

ومن خلال بحثه الميداني وزياراته المتكررة للأحساء يؤكد الجنبي أن القارة سميت بهذا الاسم لأنه يوجد في جنوبها الملاصق لها تلّ كبير الحجم غريب الشكل والتكوين ذو كهوف متفاوتة الحجم، وفوقه صخرة كبيرة منحوتة بشكل عجيب: إنها ثلاثة رؤوس أحدها متجه إلى الجنوب وهو يشبه رأس امرأة، وآخر متجه نحو الشمال، وهو يشبه رأس رجل، أما الثالث فهو الوسط بينهما ويشبه رأس أسد في منظره، وهذا الجبل ما زال يُعرف حتى اليوم باسم جبل «رأس القارة» وهو الذي عناها الجغرافيون العرب، وأن حصن المشقر هو نفسه هذا التلّ العجيب التكوين، وهو تكوين إلهي ولا يد للإنسان في تكوينه.

ويُشير أحد أعيان القارة من كبار السن الحاج أحمد الحمود من الذين قابلهم المؤلف، إلى أن في أعلى الجبل بئر محفورة إلى الأرض، وأن هذه البئر كانت تصل إلى عين أسفل الجبل وتعرف الآن باسم «عين الخسيف» وأن العمالقة كانوا يسكنون في داخل كهوف هذا الجبل وبه آثار من بيوتهم ومساكنهم، وأن العمالقة حوصروا في داخله، وكانوا يأخذون الماء من عين الخسيف بواسطة البئر التي تثقب الجبل.

أما موضع الصفا فهو الجبل الذي يقع الآن في شمال قرية التويثير ـ المجاورة للقارة ـ ويُعرف حاليا باسم «جبل أبي حصيص» وبين هذا الجبل وجبل كنزان حدثت واقعة بين الملك عبد العزيز آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ وبين قبيلة العجمان عام 1915.

أما عين محلّم فهي ليست عين هجر التي وردت في نص المقريزي والتي عليها تنخت القبائل والتي عرفت فيما بعد باسم قبيلة تنوخ، وسميت عين هجر نسبة إلى هجر بنت المكنف زوج محلم بن عبد الله صاحب عين محلم، بل هي العين التي تقع في مدينة المبرز وتُعرف الآن باسم «عين الحارّة» لحرارة مائها سيما في فصل الشتاء.