طريق «الموت» يعود إلى «الحياة»: هل يمكن أن تختفي حكايات حوادث طريق «الجنوب» من مجالس السعوديين

TT

أن تفتح صدر أي مجلس في جنوب السعودية لا بد للحديث أن ينعطف بزاوية حادة الى حكايات العائلات التي تفقد حياتها على طريق «الجنوب» وهي التسمية التي يطلقها عليه أهالي تلك المناطق والقرى الممتدة بين مدينة الطائف مرورا بالباحة الى أبها ووصولا الى نجران.

طريق الجنوب الذي يحصد نصيب الاسد من اجمالي الحوادث المرورية في السعودية والتي تبلغ اكثر من ربع مليون حادثا سنويا تسفر عن وفاة أكثر من أربعة الاف شخص وتخلف أكثر من 30 الف اصابة و2000 حالة اعاقة مستديمة يمثل الشباب نسبة تفوق 50% من اجمالي الضحايا.

هذا الطريق الذي يعود تاريخه لثلاثين عاما من الذكريات المؤلمة تحول مع الايام الى أسطورة دخلت الموروث التراثي بفعل حالة من التسامي فوق الالم عبر عنها عبد الواحد الزهراني شاعر«العرضة الجنوبية» ـ فلكلور يشتهر به أهل الجنوب ـ بقصيدة مؤثرة، تقطر ألما وحسرة، سماها «طريق الجنوب» اختزل فيها مساحة هائلة من الدموع والفقد بوصفه لهذا الطريق بأنه «نهر الشقا والعنا» دائم العطش، ولا يرتوي من دماء ضحاياه العابرين.

يقول أحد الذين استمعوا للقصيدة من صاحبها لترددها خلفه الصفوف «ليلتها كان المطر غزيرا امتزجت فيه دموع اكثر من 300 مشارك في العرضة بنحيب يأتي من صدى الجبال التي تخنق العبرات فيستوطن الجرح لايام قادمة». فيصل الزهراني سائق تاكسي يعمل طوال الاسبوع على هذا الطريق بحكم وجود عائلته في احدى قرى الباحه يرى أن ضيق الطريق يجعل من خيارات السائق عليه محدوده في حالة هطول امطار غزيرة أو سقوط الضباب او وقوع خطأ بشري من العربة المقابلة في ذات الطريق حيث لا امامك سوى الدعاء أن يكون القضاء أخف من القدر. ويستطرد الزهراني وهو يردد مرثية قالها في صديق له توفي ليلة زفافه اثناء انتقاله بعروسته من قريتهم الى مكة المكرمة «كل يوم أحمل فيه امتعة الركاب من موقف السيارات في جدة والمسافرين الى اهاليهم او اعمالهم أشعر بحزن غريب وكأن الموت يتربص بنا عند كل منعطف لاندري ما ينتظرنا وراءه»، ويحكي الزهراني قصة منعطف «الجن» الذي يبعد حوالي 70 كلم عن مدينة الباحة وكيف أطلق الناس تلك التسمية على ذلك المنعطف الذي حصد أرواحا كثيرة ذنبها الوحيد أنها اقترفت جريمة المرور عبر ذلك الطريق. ويصف الزهراني حال الركاب معه بالهدوء الشديد وحالة التوتر التي تخيم على الجميع حتى أن الغالبية من الركاب لا يفضلون النوم على هذا الطريق بل يعملون كمساعدين للسائق وتنبيهه عن أي امر طارئ وبعضهم يعرض عليه القيادة متى ما شعر أن السائق مرهق او متوتر عكس ما يحدث في الطرق السريعة الاخرى التي يفضل فيها الركاب الاستماع للموسيقى او ترديد بعض الاهازيج الشعبية او سرد الحكايات أو النوم لفترات متقطعة نتيجة تأثير سلامة الطريق على نفسياتهم.

سلطان النفيعي طالب في احدى الكليات الفنية في مدينة جدة قال «كل اسبوع أحزم امتعتي ومعها قلبي واشعر بأن مسافة الطريق الى قريتي هي المسافة بين الموت والحياة. أتامل بوابة شقتي هنا في جدة واتساءل في كل مرة.. هل ترى سأعود أم لا؟!. يضيف «والدتي تخشى علي من مهالك الطريق وتطلب مني البقاء لكني اطمئنها بمزحة كي اخفف عنها بينما تتصاعد انفاسي في كل منعطف او ظروف مناخية غير متوقعة».

سعيد الوادعي قال إنه يفضل في رحلته الاسبوعية الى مسقط رأسه ظهران الجنوب التي تبعد عن مدينة جدة حوالي 800 كلم، يفضل ركوب حافلات النقل الكبيرة فهو يشعر بالاطمئنان اكثر.. فقط لأيمانه بأن «الموت مع الجماعة رحمة» على حد تعبيره.

ويضيف الوادعي أن ارتفاع اسعار تذاكر الطيران أحد الاسباب التي تجعله يضطر لركوب طريق الجنوب. الطريق الذي يمر بأكثر المناطق السياحية في السعودية ملائمة للسياح يعتبره الوادعي الافقر من حيث الخدمات حيث الاعتماد على الجهود الفردية لسكان تلك القرى التي يشقها الإسفلت الأسود دون ان تكون هناك خدمات مؤسساتية يمكنها اسعاف السيارات المتضررة بالسرعة المطلوبة رغم الجهود التي يقدمها جهاز أمن الطرق.

ضيف الله البلوي تاجر متجول قال إنه يعمل على خطي الشمال والرياض رافضا فكرة استخدام طريق الجنوب بوضعه الحالي واصفا الامر بالمخاطرة بعد تجربة مؤلمة له تعرض فيها لحادث كاد يقضي على حياته بسبب ما وصفه بضيق الطريق وتجاوزات بعض السائقين المتمرسين على الطريق وتفرعه على مداخل كثيرة لقرى وأودية.

وتنتشر على جنبات الطريق لوحات إرشادية تحدد السرعة بواقع 100 كلم في الساعة كحد أقصى، مع التشديد في اعطاء المخالفات المرورية التي يحررها رجال امن الطرق انطلاقا من خطورة هذا الطريق والحد من عدد الحوادث المميته. وكانت وزارة النقل في السعودية قد أرست مؤخرا عقد توسعة طريق الجنوب على ثلاث مراحل ولصالح ثلاث شركات ضمانا لسرعة انجاز التوسعة حيث سيبدأ العمل في المرحلة الاولى بين مدينتي الطائف والباحة بطول 196 كلم وبتكلفة اجمالية بلغت 600 مليون ريال.